“لا تستهدف التربية إلا تشكيل الإنسان، سواء بواسطة مدرسة الأحاسيس، أي العائلة، أو بواسطة التدريس. وليس التعليم إلا هذا الجزء من التدريس الذي يستهدف تثقيف الإنسان بتكوين حكمه”[1]
ما يلفت الانتباه اليوم هو أن قطاع التربية في المجتمعات المعاصرة يتخبط في أزمة جوهرية لا تقتصر على ساحات المدارس وأقسام المعاهد ومخابر الجامعات وقاعات التدريس الأكاديمي وإنما تشمل المبيتات والأسر والمؤسسات الثقافية والحواضن الاجتماعية وتؤرق بال الدول والجمعيات الأهلية وتحير العقول الجادة. والحق أن هذه الأزمة لا يتعلق تاريخ اشتدادها باللحظة الراهنة فقط وإنما ضاربة في القدم وتعود إلى الزمن الذي استحوذ فيه السوفسطائيون على حديقة العقل واستمروا في ترويج الظنون والآراء المبتسرة. بهذا المعنى تبدو الأزمة متصلة بتعثر البيداغوجيا وتكوين المربين وضعف النجاعة بالنسبة للمدرسة ولكنها في العمق ورطة هيكلية انجرت عن تعميم التعليم من الأطفال إلى شرائح عمرية متقدمة في السن وترتب عنها انحدار في المستوى وظهور أشكال جديدة من الأممية ناتجة عن غياب الأفكار الناظمة والرؤى التأليفية والنظريات الرابطة وفي المقابل الإغراق في التخصص والتشذر والانعزالية والانفصال. لقد أضرت هذه الأزمة بشكل ملفت للانتباه بالمنزلة التي ينبغي أن تحتلها التربية في الوضع البشري وقطعت العلاقة التلازمية بين المدرسة والمجتمع وقللت من دور التعليم في تنظيم الوجود اجتماعيا. كما أسقطت من حساب الدارسين أهمية طرح مشاكل التربية ضمن المشاكل السياسية وعرضها على النقاش العمومي للمواطنين والنظر إليها من زوايا متعددة مثل الطرح الاقتصادي والمنظومة الإيتيقية المأمولة.[2] من هذا المنطلق تم استدعاء جون لوك لجهوده التنويرية وبرامجه التربوية من جهة نظرية المعرفة وتصوره لبرنامج بيداغوجي عساه يقدم حلولا تنويرية.
إذا كانت مقتضيات الحالة الطبيعية التي يمر بها كل إنسان تقتضي من الأسرة أن تقوم بتربية الطفل من خلال التركيز على تقوية درجة الإحساس لديه بالمحيط وتكثيف الانتباه إلى الواقع والشعور بوجود الذات فإن متطلبات الحالة المدنية التي ينتقل إليها الوجود الاجتماعي وفق تعاقد اصطناعي تفاديا للنزاع المدمر تستلزم اشتغال على العملية التربوية ضمن مؤسسة مهيكلة تتحرك ضمن النسيج الثقافي العام وتخضع المتعلمين لدورات تدريبية وحصص تكوينية في كنف الانضباط والالتزام بالقواعد وإتباع جملة التراتيب. بهذا المعنى طرحت نظريات التربية في العصور الحديثة عدد من القضايا والمطالب تلتقي فيها مع الفكر السياسي والشيم الأخلاقية واعتمدت بالأساس على البيداغوجيا من حيث هي وسيط حاول الارتقاء بالناس من الوسط الطبيعي إلى الفضاء الثقافي عن طريق تفعيل ملكات النفس وصقل أعضاء الجسم جامعة بين الاعتناء بأحلام اليقظة لدى الطفل اللاعب والاستفادة من الخطوات المتأنية التي يقوم بها الكهل المتعقل ومؤلفة بين التوجيه والإقناع وبين المنهج والحرية وبين التقيد بالواقع الاجتماعي والتحليق في اليوتوبيا.
حينما أعلن جون لوك[3] بأن الطفل صفحة بيضاء وبأن الذهن لوحة خالية من كل معرفة سابقة وأن الأفكار الفطرية غير موجودة وأن المعارف تولد مع التجارب التي يجريها الإنسان في حياته عن طريق الحواس فإنه أسس بصورة ملموسة البيداغوجا في التقليد الأنجليزي واقترح نظرية تجريبية في الحقيقة.
لقد أضاف جون لوك في المنتصف الثاني من القرن السابع عشر الى الحداثة الفلسفية مجموعة من الأفكار الجديدة ودعم حركة التنوير بجملة من المقترحات ليس فقط في مجال الفلسفة السياسية وإنما أيضا في مجال البيداغوجيا لما منح أولوية مطلقة لمطلب التربية ضمن نظرية المعرفة والمناهج المؤدية إليها.
لقد ذكر في كتابه “أفكار حول التربية” الذي ظهر سنة 1693 أن الطفل بعد انقضاء المرحلة الاتكال على الأسرة مطالب بأن يتدرب على تشكيل نفسه بنفسه والاتفاق مع قوانين الطبيعة ومبادئ الجسم الاجتماعي.
لقد سلط مبدأ اللوحة الخالية نورا جديدا على طبيعة الذهن بحيث مكن كل طفل من التدريس[4] لكي يقتدر على الحياة بصورة حسنة في المجتمع وساهم في اعتبار القدرات الذهنية والفيزيائية متفاوتة من وجهة نظر الطبيعة وخاضعة للتطوير ولكنها غير قابلة للتحول إلى نقيضها بل تتغير نحو الأفضل بصورة تدريجية.
من جهة ثانية يتم الاعتماد على جدل اللّذة والألم من حيث هو الأساس الجوهري الذي يشتغل المربي لكي يدرب الطفل على التحكم في انفعالاته والأخذ بتوجيهات العقل بصورة جدية، ويقع كذلك الاهتمام بالوسط الذي يعيش فيه الطفل من أجل تطوير ملكاته وتفادي التأثيرات السلبية وتوفير العوامل المواتية والايجابية.
أما الركيزة الثالثة في العملية التربوية فهي اللغة والتي تعتبر وسيلة جوهرية في التواصل الاجتماعي ويشترط حفظ قواعدها وحسن تطبيقها لكي يسهل استعمالها لكي تنتقل من مجرد اللغة الأم إلى لغة التعلم.
لقد حرصت البيداغوجيا عند جون لوك على توجيه الطفل نحو النجاح في جمع عدد من المنافع بحسن الإنصات إلى الحكم المدني وترك الحرية للمتعلمين ورفض العذابات التي خلفتها أنظمة الطغيان القاسية التي كانت تعاقب الناس بتخليف الأضرار البدنية وكل أشكال الإكراه والتعسف والتنكيل بكرامة الأنفس.
لقد انبنت البيداغوجيا عند لوك على عملية قلب في العلاقة بين المعلم والمتعلم لم يعد بمقتضاها المتعلم يعتبر معلمها مصدر المعرفة والحاكم على قيمتها وإنما مجرد دليل ينير السبل ويفسر بعض مشكلاتها. لذا استثمر لوك ثنائية اللذة والأم من أجل نحت مصطلح تقدير الذات عند المتعلم الذي لا يتوقف عند تلبية الغرائز بالمعنى المادي ويتعدى ذلك نحو البحث عن الجدارة والشعور بالقيمة الممنوحة للهوية الشخصية.
بهذا المعنى يؤكد المربي على أهمية الأنشطة التفاعلية على المستوى الإدراكي إلى جانب الأنشطة الفيزيائية وراهن على الثقة التي يمنحها المعلم للمتعلم في العناية بالجسم من أجل القيام بأنشطة توافق أنظمة الذهن. علاوة على ذلك لا يكتفي المتعلم بتجربته الخاصة وإنما يوسع دائرة تعلمه ويستفيد من تجارب الآخرين من خلال المحاكاة والاقتباس وفق ثنائية الممتع والمؤذي أو عبر ثنائية النافع والمضر.
من هذا المنطلق صاغت نظرية لوك استنتاجات بيداغوجية يمكن تنزيلها ضمن الملاحظة البراغماتية للمجتمع البشري والتي تعطي للمربي مهمة إقناع الطفل وإجابته على الطرق التي تجعله يعيش في وئام مع الطبيعة والمجتمع ويأمل التقدم بنفسه نحو الحالة المدنية وتحقيق المزيد من التطور المعرفي والتقني. إذا كانت النظرية التربوية تعاني الكثير من الاكراهات والمضايقات في النظم السياسية غير الديمقراطية وتحتمي بالبيداغوجيا والأخلاق من أجل ممارسة الوعظ والإرشاد قاصدة تدريب الناس على التسلح بالفضائل فإنها في السياقات الديمقراطية تمارس النقد والتنوير وتعول على العقل والتجربة في إعادة الاعتبار إلى الإنسان والطبيعة وتجعل من التعليم الجمهوري شرط إمكان قيام المواطن القادر على حكم نفسه بنفسه وعلى المشاركة في الحياة العامة من منطلق المسؤولية والتفاني في نكران الذات والإيثار والتضحية في سبيل المصلحة المشتركة والتعاون مع غيره في تعزيز سيادة الشعب وتقوية الحكم المدني. لكن هل تمارس التربية على الفرد أم على المجتمع؟ وما المطلوب في اللحظة المعاصرة؟ هل بتغيير طرق التربية بالنظر إلى تبدل ملامح الاجتماع البشري أم بتغيير بنية المجتمع من خلال تثوير النظم التربوية؟
نشر الاثنين 18 شتنبر 2017.
(*)