يكفي المرء أن يستمع للناس وهم يتحدثون- في السوق أو في المقهى أو في أي فضاء آخر، عمومي أو خاص- عن مواضيع الساعة أو عن أية مواضيع أخرى تحضا باهتمامهم، ليجد أن التعميم هو الغالب في أحاديثهم وفي تقييمهم للأحداث، إن سلبا أو إيجابا.

ومن دون شك أن هذه الخاصية ليست ماركة مغربية مسجلة ولا تعني الشعب المغربي وحده ، وإنما هي ظاهرة إنسانية عامة (أو تكاد)؛ لكن يبدو أن ثقافة التعميم، والأصح آفة (حتى لا أقول مرض) التعميم، مستشرية عندنا ربما أكثر من غيرنا وتأخذ، أحيانا، طابعا مثيرا ومُقزِّزا، ؛ خاصة وأنها تتميز بالسطحية وترتكز أساسا على أحكام القيمة التي تبقى بعيدة عن معيار الموضوعية والنزاهة الفكرية.  ثم إن هذه “الثقافة” غالبا ما تركز على ما هو سلبي؛  وهو ما يدعو، من جهة،  إلى التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء هذا النزوع إلى السلبية؛ ومن جهة أخرى، التساؤل عن الدوافع الحقيقية لهذا النزوع.

 لا شك أن للتنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية بكل أشكالها (الرسمية وغير الرسمية) ومؤسساتها المتعددة (الأسرة والمدرسة والمسجد والفضاءات الثقافية والمؤسسات الإعلامية بكل أصنافها والمؤسسات الحزبية على اختلاف توجهاتها…)، لا شك أن لها دورا أساسيا في انتشار ثقافة التعميم كسلوك مستمد من العادات المكتسبة. ولا شك، أيضا، أن لهذه الثقافة بعدا اجتماعيا وسياسيا ونفسيا؛ وهو ما يشكل الدافع الحقيقي لتمثلها وترويجها.   

ويحظى المجال السياسي، وبالتحديد المجال الحزبي، بحصة الأسد من هذا التعميم (السلبي، طبعا). فيكفي أن تثير موضوع الأحزاب مع بعض الأوساط الغير مهتمة بالحياة السياسية أو بعض الفئات الناقمة عن الدولة والمجتمع، لتسمع ” كلشي بحال بحال”؛ “كلهم شفارة”، الخ؛ ناهيك عن الترويج المُتعمَّد لمقولة “أولاد عبد الواحد كلهم واحد” حول الأحزاب من قبل جهات تعمل على تمييع العمل السياسي وتبخيس دور الأحزاب.

 وأعتقد أن السبب الرئيسي لهذه التنشئة السياسية الخاطئة والفاسدة، هي الدولة في شخص وزارة الداخلية. فبالإضافة إلى عملها على تفريخ الأحزاب السياسية (المعروفة في القاموس السياسي المغربي  بالأحزاب الإدارية)، قامت هذه الوزارة – منذ انطلاق المسلسل الانتخابي في بلادنا، خلال السنوات الأولى من ستينيات القرن الماضي – بفبركة نتائج الاستحقاقات الانتخابية وتزويرها بشكل مفضوح، في كل محطة من المحطات الانتخابية، لصالح صنيعة (أو أكثر) من صنائعها؛ مما خلق مشهدا سياسيا غير طبيعي ونشر ثقافة سياسية غير صحيحة ولا تمت للديمقراطية بصلة. ولا شك أن ظاهرة العزوف الانتخابي، التي تؤرق الصف الديمقراطي، تجد أحد أبرز أسبابها في هذا الأمر.

ويبدو أن ثقافة التعميم لا تستثني أي وسط؛ فهي تنتشر في كل الأوساط، بما فيها تلك التي نالت حظها من التعليم، وتعبر عن نفسها بمقولات من قبيل “ماكاين مع من”؛ “مابقى مايتعمل”؛ ماكاين مايدار”؛ “كلشي خسر”؛ “كلشي تبدَّع”؛ “كلشي فالس”، الخ.

وحتى المثل الشعبي المشهور” حوتة وحدة كتخنَّز الشواري”، يمكن أن ننظر إليه من هذه الوجهة ونرى فيه ما يسند ويدعم ثقافة التعميم؛ ذلك أن مدلوله يحيل على الفساد العام الذي يتسبب فيه عنصر من عناصر “الجسم الجمعي”. ففساد “الشواري” ما كان ليقع لولا فساد عنصر من عناصره (الحوتة)؛ فـ”الشواري”، إذن، كناية عن المجموعة، كيفما كانت طبيعة هذه المجموعة. والأخطر في الأمر، هو أن تتحمل المجموعة التبعات أو التهمة بالفساد بسبب فساد فرد من أفرادها(حزب، نقابة، جمعية، نادي…). وفي هذا تعميم جائر وظلم ظاهر.   

وقد تكتسي آفة التعميم طابعا عنصريا أو عرقيا حين نعمم وصفا سلبيا ما أو ننسب سلوكا مشينا ما إلى هذا العرق أو ذاك أو هذا الجنس أو ذاك أو هذه الثقافة أو تلك. ففي ثقافتنا الشعبية ما يكفي من الأمثلة (أو الأمثال ذات الحمولة القدحية) التي تتعلق إما بالمرأة أو بـ”العروبية” أو “فواسة” أو “سواسة” أو “الشلوح” أو “روافة” أو “جبالة” أو غيرهم. ولا أستبعد وجود بعض التعميمات المتعلقة بالأفارقة وثقافتهم وسلوكهم وعيشهم، خاصة بعد تزايد أعدادهم ببلادنا.

ولا يمكن تجاهل التعميم الأخير الذي روجته بعض الصحافة الدولية عن المغاربة بكونهم شعبا يُصدِّر الإرهاب للدول الأوروبية؛ وسبب هذا التعميم الخطير، هو تورط شبان أوروبيين، من أصول مغربية، في أعمال إرهابية. وبدل الانكباب على الأسباب الحقيقية لانحراف هؤلاء الشبان الذين نشئوا وترعرعوا وتجنَّسوا في بلدان الإقامة، راحت بعض الجهات تجتهد في لصق التهمة بالشعب المغربي.

خلاصة القول، إن ثقافة التعميم تدل، عند البعض، على هشاشة التربية وسطحية الثقافة وضحالة البنية الفكرية؛ وعند البعض الآخر، تدل على الخبث وسوء النية. فالتعميم، في هذه الحالة، يهدف إلى التغليط وخلط الأوراق والتنصل من المسؤولية.

 

الاثنين 18 شتنبر 2017.

‫شاهد أيضًا‬

دراسة نقدية لمجموعة (ولع السباحة في عين الأسد).للقاص (حسن ابراهيم) * د. عدنان عويّد:

التعريف بالقصة القصيرة ودور ومكانة القاص في تشكيل معمارها:      القصة …