تُدرج اللغة ضمن عوالمها الدلالية والنحوية والنوعية سلسلة من التصنيفات الفرعية المحددة للعرق واللون والسن والجنس والمراتب الاجتماعية: فالناس لا يخاطبون الطفل كما يخاطبون الراشد، ولا يخاطبون “القائد” و” الزعيم” و”الرئيس” و”الكبير” في السن والجاه والحظوة بنفس اللغة التي يخاطبون بها “العامة” من الناس، بل لا يخاطبون النساء بما يخاطبون به الرجال أيضا. فما يحضر في الوجود، في جميع هذه الحالات، ليس الشخص المخاطب، بل سلسلة الأحكام التي نصف من خلالها بعضنا بعضا. لذلك عُدت هذه المراتب “سجلات قيمية” تعبر عن أدوار هؤلاء ومواقعهم في النسيج الاجتماعي وفي الذاكرة الرمزية على حد سواء. وتلك “وظيفة الصور النمطية الكبرى الخاصة بالفكر المخيالي، إنها تقوم بتشويه ” الفكرة” الأصلية وطمسها وإلغائها من خلال الانتصار للتصورات الاستعارية التي تستوعبها وتغطي على وجودها(1).
وضمن هذا التفاوت يندرج التمييز بين التذكير والتأنيث، أي بين “الأصل” و”الفرع” كما تورد ذلك الموسوعات، وكما هو متداول في الكثير من البناءات العقدية والثقافية. فالإنسان الجزوع الهلوع مذكر بالنحو والدلالة وعوالم المخيال، فهو لا يحضر في الذهن إلا من خلال “شرط ذكوري” يتضمن بالإيحاء وحده وجها أنثويا. فالأصل في الحياة هو ما يبنى في الثقافة، فلا قيمة لحقائق الأشياء والكائنات في الواقع، بل الأهم من ذلك تمثلاتنا عنها. وذاك هو مضمون الثقافة ذاتها، ” إنها سلسلة من التحديدات الإضافية المفروضة على السلوك الطبيعي للإنسان. فالرغبة الجنسية حاجة طبيعية عنده، إلا أنها تتحول إلى وظيفة ثقافية لحظة اندراجها ضمن محظورات إضافية كعلاقات القرابة والمكان والزمان (2).
يتعلق الأمر في هذا التصنيف بصفات تحدد مقاما للقول، وتحدد للغة تركيبا ودلالات مضافة مصدرها التصنيف الاجتماعي والأحكام المسبقة. وتلك هي مقتضيات كل المؤسسات، إنها تُلغي “الهامشي” و”العارض” و”الطارئ” في الوجود للتمسك “بالجوهري” حفاظا على صفاء السقف الإيديولوجي ونقائه. فليست الغاية من اللغة دائما هي ضمان تواصل سليم بين الناس، ” إنها قد تكون أداة للمصادرة والكذب والعنف والازدراء والقمع، كما قد تكون أداة للمتعة واللذة واللعب والتحدي والثورة” (3). فليست تفاصيل الفعل هي ما يُصَدِّق على السلوك ويحكم عليه، بل تصوراتنا عنه هي ما يحدد جزءا من هويتنا. فنحن ” نعيش وسط الأشياء والكائنات، ولكن موقفنا منها يتحدد استنادا إلى العلامات الدالة عليها” (4). بعبارة أخرى، لا قيمة للمساواة القانونية ولا تأثير فعلي لها دون تفكيك البنية الرمزية التي تحتضن سلسلة الأحكام الخاصة بالمذكر والمؤنث مثلا.
إن هذه التصنيفات، أو جزءا منها على الأقل، هي ما يشكل ما نُطلق عليه “العوالم الرمزية” التي تُغطي مساحات واسعة في حياة الناس. يتعلق الأمر بعوالم مستقلة بذاتها، فهي لا تكترث كثيرا للحقائق الموضوعية، إنها تستمد مضامينها مما توفره الاستعمالات المجازية والاستعارات والعوالم المخيالية. فداخل هذه العوالم تُبنى سلسلة من القيم المحددة لهوية الأفراد والجماعات وكائنات الطبيعة وأشيائها، بما فيها ما يعود إلى عوالم المذكر والمؤنث وما يفصل بينهما. فليس غريبا أن يرتد التصنيف إلى ما هو سابق على وجودنا في الأرض فيجعل الثقافة من المرأة أصل الخطيئة فيها.
واستنادا إلى هذه المسبقات في الفكر والممارسة لم يقف التمييز بين المقولتين عند حدود الفصل بين كيانات موجودة في “عراء” الطبيعة، بل يشمل كل شيء في الوجود، الخيط والإبرة والقفل والمفتاح والقطار والمحطة ونبرة الصوت وطريقة المشي واللباس والرغبات والهوايات والألعاب، بل يشمل أيضا التمثلات الرمزية عن عوالم الرجل والمرأة وإحالاتهما الممكنة على القوة والضعف، والرقة والخشونة، والشدة واللين.
وقد يكون مصدر هذه الفواصل وأصلها الأول هو موقع النساء والرجال ضمن آليات التبادل الاجتماعي، إلا أن تجلياتها الصريحة ففي اللغة في المقام الأول. إن النحو فيها يميز بين المرأة والرجل من حيث اختلاف الضمائر وعلامات التأنيث المضافة، ولكن الدلالة داخلها تفصل بينهما من حيث طبيعة المضامين التي يعتمدها الناس من أجل المفاضلة بينهما. لقد كان الرجل هو من أدخل العالم إلى اللغة، وهو الذي سمى أشياءه وصنفه على صورته، أي صاغ حدوده وفق ما يستجيب لحاجاته وميولاته وموقعه ضمن الأسرة والعائلة الكبيرة والقبيلة. فلن يكون غريبا أن تعيش المرأة حقائق العالم بعيون مذكرة.
فلا معنى للرجل، في الثقافة، أي في القيم المتداولة بين الناس، إلا إذا كان “قويا” “شجاعا” “نبيلا” “شهما” و”ثابتا” في الرأي والموقف. وخلاف ذلك سيكون “امرأة”، أي “ضعيفا” “جبانا” “نذلا”، لا حظ له من الصدق والأمانة. فصفات المذكر تشمل الفعل والسلوك والكاريزما. وبذلك يكون الرجل قد أعار الكون صورته لكي يُصبح مذكرا في كل شيء؛ ذلك أن النموذج في السلوك والمهنة والمواقف هو النموذج الرجالي، بما فيها التسميات التي لا حظ فيها للمرأة إلا ما يمكن أن تقوله التاء المضافة عندها. فهذا النموذج هو الذي يجب أن يُعمم على كل شيء؛ إن اللعب ذاته “رجالي” في الحلبة، أي “رجولي” في الثقافة، أما المؤنث فيه فعارض، فحالات التخصيص لاحقة للدلالة على تبعية الأنثى للمذكر، لا على فعل مخصوص (فكل الألعاب رجالية والتأنيث فيها حالات مضافة: كرة السلة-كرة السلة النسائية، كرة القدم، كرة القدم النسائية).
وهذا معناه أن المرأة بارعة في كل المهن والألعاب بقدر اقترابها من “النموذج الرجالي”، إنها تقود السيارة كما يقودها الرجل، وتلبس كما يلبس الرجال، ذلك أن الفعل في الفضاء العمومي خاصية من خاصيات الرجل. وهي صيغة أخرى للقول، إن “الأفعال مذكرة كلها “(الزجاجي)، أما “إلحاق علامة التأنيث للفعل فهو دليل على تأنيث الفاعل أو نائبه لا دليل على تأنيث الفعل”(ابن جني). إن الله جل جلاله الذي” ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ” مذكر بضرورة اللغة وحدها، لا بجوهر الوجود والكينونة، فهو ليس كمثله شيء، أي مصنف خارج حدود تركيبة بيولوجية مرئية في كائنات الأرض وحدها.
وكما في النحو حيث يُحْمل الكلام على التذكير عند الجمع بين طفل وملايين من النساء، فإن” التذكير هو أصل الأشياء ثم تُختص بعدُ، فكل مؤنث شيء، والشيء يذكر، فالتذكير أول، وهو أشد تمكنا “( سيبويه). لذلك “كان تذكير المؤنث واسعا جدا لأنه رد فرع إلى أصل، لكن تأنيث المذكر أذهب في التناكر والإغراب”(ابن جني)، ” فكل ما لا يُعرف أمذكر هو أو مؤنث، فحقه أن يكون مذكرا، لأن التأنيث لغير الحيوانات إنما هو تأنيث بعلامة” (المبرد).
ومعنى ذلك، حسب هذا التصور دائما، أن المؤنث لا يُأتي به سوى لتنويع أصل أولي هو ما تقدمه عوالم المذكر التي تحيل على ثوابت في الوجود تشمل القيم والتصنيفات المترتبة عنها. فعادة ما كانت المرأة تُصنف، في حالات الحروب أو الغزوات، مع الضعفاء والقاصرين، كالأشجار والعجزة والأطفال، بل قد يشمل هذا التصنيف المجانين أيضا، فالمرأة “ناقصة عقل ودين”، ففي غياب الرجل في الشهادة يحتاج القاضي إلى امرأتين.
وقد تتسرب هذه التمييزات إلى القاموس بمداخله الرئيسة وإيحاءاته وتداعياته وأمثلته التي تستوعب كائنات الكون وأشياءه وفق الفاصل بين المذكر والمؤنث. “فمن تأنث تأنيثا فقد لان”، ومن كان “أنيثا كان مخنثا شبيها بالمرأة”، ذلك أن الأصل في “الأرض الأنيثة والمئناثة هي أنها سهلة ولينة”. ومن ذلك “أن البلد الأنيث هو اللين المطواع”، و”قد سميت المرأة أنثى من البلد الأنيث، فهي ألين من الرجل” (لسان العرب). وعلى المنوال نفسه أصبح “السيف أنيثا أي غير قاطع”. إن المرأة تُصنف، وفق هذه التعريفات، ضمن اليين الصيني (yin) الذي يدل على الجانب الظَّليل من الجبل وعلى اليسار والبرودة والرطوبة والشتاء والسلبية. وهو ما يعني أن المرأة “قمرية” متقلبة مزاجية عاطفية، غامضة ومترددة.
أما التذكير فهو على النقيض من ذلك، في اللغة لا في حقيقة الوجود. فاليوم يكون “مذكرا، إذا كان صعبا شديدا”، و”يكون الرجل ذكرا إذا كان قويا شجاعا أبيا” لا يهاب أي شيء (لسان العرب). بل إن المطر ذاته يمكن أن يكون “ذكرا، إذا كان وابلا”، وهناك في القول “الذكر والأنيث” أيضا، الأول زجل صلب متين، أما الثاني فضحل عابر. ومن الشعر ما هو “ذكر أيضا أي فحل”، و”الفلاة المذكار هي ذات أهوال لا يسلكها إلا الذكر من الرجال”. لذلك كانت الذكورة مرادفا لليانغ الصيني (yang) الذي يدل على الحرارة والصيف والرغبة المنتصبة والطاقة والقوة والإيجابية والنشاط والفحولة. إن الرجل” شمسي” فهو عقلاني وأبي وثابت ورصين وشهم ورهيب.
إن الرجل ذاته دال في القاموس على الذكر من الكائنات الإنسانية، ولكنه دال أيضا على القوة والشدة والصبر واقتحام أهوال الطبيعة، “فالأرض الرجلاء هي الصعبة الخشنة، لا تعمل فيها خيل ولا إبل، ولا يسلكها إلا الرجال”، و”الرَّجيل من الخيل الذي لا يحفى، والطريق الرجيل هو الغليظ الوعر في الجبل”، و”الرجيل من الرجال هو القوي” و”المرأة الرجيلة هي الصبور”، وهي بذلك شبيهة “بالناقة الرجيلة القوية على المشي” و” في الحديث كانت عائشة رجُلة الرأي”، “أي رأيها رأي الرجال، فالتشبه بالرأي والعلم غير مذموم” (لسان العرب ).
بل إن كلمة “رجل” دالة في اللغة الفرنسية على الإنسان وعلى المذكر في الوقت نفسه. وذاك أصل الإنسانية أيضا، فهي مشتقة في هذه اللغة من الرجل. أما في العربية فإن الإنسانية مشتقة من الإنسان، وهو اشتقاق إن كان يحيل على الرجل والمرأة في الوقت ذاته، إلا أنه، في اللغة وفي الذاكرة الثقافية، مذكر بالضرورة. والحاصل أن المذكر هو الذي يعين الانتماء إلى الفصيلة وهو الذي يحدد طبيعة المهنة ( طبيب (ة)، مدير(ة)).
في حين لا وجود لرابط صريح بين الأصل الثلاثي “مرأ” في لسان العرب، وبين المرأة وعوالمها. فلا تدل كلمة “امرأة ” إلا على ما يحدد الجنس وحده. فهذا الجذر يتمحور أساسا حول الإطعام والأكل وأعضاء في المعدة( المريء)، ولا تشير المروءة فيه إلى أي شيء في المرأة عدا أنها “سلوك لين”. فالمرأة “ترتد إلى فعل ” مرأ ” أي طعم، وهذا تلازم الطعم بالطعام. “والمرأة هي حرم، والحرم المنع، ويقال حرمة الرجل أي حرمه”، أي تابعة له. بل هناك من الصفات ما يتغير مضمونها حسب إسنادها إلى المرأة أو الرجل. وذاك ما يصدق على كلمة Professionnel في الفرنسية مثلا، فإذا هي أُسندت إلى الرجل كانت دالة على إتقان لمهنة أو حرفة أو لعبة ما، أما إذا اسندت إلى المرأة، فإنها لن تكون سوى للدلالة على العاهرة. وبذلك تكون اللغة قد انحازت للمذكر، لا بحكم القواعد فحسب، بل استنادا إلى أحكام اجتماعية سربها المذكر إلى كل مناحي الحياة.
ولم تقف التصنيفات عند هذا الحد، بل حولت المرأة إلى كتلة حسية تتصارع داخلها مجموعة من الأهواء التي لا تتوقف إلا لتبدأ حسب نمو جسدها، لا عقلها، فالعقل لا دخل له في توصيفات المرأة، فهي ليست مدعوة إلى التفكير، بل موضوعة للمتعة وحدها: يقول الفرنسيون: كوني جميلة والتزمي الصمت*. وهكذا، فقد صنفتها اللغة استنادا إلى أدوار بيولوجية محددة في ما يمكن أن يختزنه جسدها من شهوة ومتعة حسب “جغرافية” غنية فيها نتوءات وهضاب ومرتفعات ووادي فسيح، وضمن هذه الجغرافية يلعب الصدر دورا هاما. فالطاقة الجنسية، وهي كتلة إيروسية عمياء، تكشف عن نفسها في صفات محمودة أو مذمومة في عين الرجل استنادا إلى مناطق في الجسد النسائي.
وهكذا، فإن المرأة، كما تذكر الكثير من المصنفات، كاعب إذا كانت صغيرة السن لم تبلغ الحلم ولم تراهق، وقد كعب نهداها أي ظهرا واستدارا وبلغت الرابعة عشرة أو جاوزتها. وهي ناهد إذا نهد ثدياها وأصبحا متعة في العين، حينها تكون قد بلغت الثامنة عشرة أو قاربتها واستوى خلقها، وقد تبكي لسماعها اسم زوجها من شدة شهوتها، ولكنه بكاء سرور لا حزن. وهناك الـمُعْصر وهي الشابة التي امتلأ شبابها وكملت محاسنها وفاض عليها رونق الشباب وأعجبت بنفسها. ومن النساء هناك المتوسطة أيضا، وتكون بين الشباب والنصف وهي التي قد تهيأ نهداها للانكسار وتتحدث بصوت حسن ودلال، وهكذا لن تستعيد عقلها إلا إذا كانت نصوفا، أي متوسطة في استواء عمرها وقد وفرت على الرجل مشقة الرياضة والملاعبة واللين فهي تحب الرجل وتقدره. هذا بالإضافة إلى أنها تكون “غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينى”. ولا شيء من هذه الصفات في الرجل عدا أنه فارس باسل شجاع أبي كريم حليم يشق الفلاة المذكار كما يشق جسد النساء…
إننا، في جميع هذه الحالات، أمام سلسلة من المحددات اللغوية المنفتحة على سياقات بالغة التنوع. فعوالم التذكير والتأنيث، رغم تنوعها واختلافها، لا تحيل، في نهاية الأمر، إلا على ما يمكن أن يُرد إلى كون سلوكي يجمع بين مضامين متنوعة ضمن حقل دلالي واحد. هناك مقولة دلالية تجمع بين سلسلة من السمات تحيل على ما يمكن أن تستثيره كلمة “الأنثى، ويُختصر عادة في ” الضعف” المتولد عن : ” اللين” و”السهولة” و”غياب الشدة” و” انتفاء الوعورة “. وهناك سمات أخرى تحيل على ما يُرَد إلى القوة في حالة “المذكر”، كما توحي بذلك “الشدة “و”الوعورة” و”الصعوبة” و”السيف القاطع” و”اليوم الشديد” و”المطر الوابل”.
وبما أن المؤنث والمذكر يشكلان محورا دلاليا واحدا لا يمكن الفصل بين حديه، فإن طبيعة الارتباط الموجود بينهما هي تكاملية في النحو والتركيب والتناسل البيولوجي، ولكنها إقصائية في الدلالة، إذ لا يتمتع الحد الأول بنفس قيمة الحد الثاني داخل الدائرة المضمونية التي يحيل عليها المحور في كليته. يتعلق الأمر بالفاصل بين الولوجي والاستيعابي، بين لحظتين متساويتين في الطاقة، ولكن صورتهما في التصنيف الرمزي تجعل الأول فاعلا والثاني مفعولا. وذاك أصل التفاوت بين المقولتين، وبين المرأة والرجل.
1-Pierre Guiraud : Sémiologie de sexualité, éd Payot , 1978, p.166
2- Youri Lotman : La sémiotique des concepts de la « peur »et de « honte » dans le mécanisme de la culture, in Travaux sur les systèmes de signes, éd P U F ,1976, p.54
3-Marina Yaguello : Les mots et les femmes, éd Payot,2002, p.7
4-Pierre Guiraud : Sé miologie de la sexualité, éd Payot, 1978, p.221