بمثل ما يمتنع على الباحث في تاريخ الإسلام والفكر الإسلامي، أن يبنيَ معرفةً صحيحة بهما من دون وضع تراث الإسلام في نطاق محيطه الثقافي العام، ومن دون أخْذ عدّته المعرفية- التي توفّرت له- في الحسبان ؛ وبمثل ما يمتنع عليه، فَهْمُ صيرورة النصوص الثواني، المنتميةِ إلى دائرة الرأي والاجتهاد، نصوصاً في مرتبة نصوص الدين من دون تحليل السياقات الثقافية، التي أفضت إلى الانغلاق والتحجُّر، وسيادة النزعات الإيمانية النّصية، ونزعة تبجيل أئمة المقالات… يمتنع إدراك اتجاهات الرأي المختلفة في تراث الإسلام، ومضمون المقالات الكلامية والفقهية وسواها، والصراعات التي شبَّت بين المذاهب والمدارس الإسلامية – واستمرت آثارُها حتى اليوم- من دون وضع كل ذلك التاريخ الفكري ضمن نطاق شروطه الموضوعية، الاجتماعية والسياسية، المحيطة، ورؤية ما كان لتلك الشروط الحاكمة من كبيرِ أثرٍ في توليد أفكارِ وحساسيات وتوجيهها، أو في توليد تناقضاتٍ وصراعات بين حَمَلتها، ودفْعها إلى التعبير عن نفسها في أشكال من التعبير مختلفة. والقاعدة التي عليها مبنى هذا المنطلق، في النظر إلى تراث الإسلام، أنّ ما من فكرةٍ تُبْنَى في الوعي ويُعبَّر عنها لا يكون ميلادُها من آثار محيطها الاجتماعي والتاريخي. والقاعدةُ هذه تنطبق على الأفكار كافة، بما فيها الأفكار التي من طبيعة دينية من نوع تلك التي ينشرها في الناس، بعض رجالُ الدين أو علماؤُهُ أو الدارسون له. وتَعْظُم أهميةُ القاعدة هذه، في دراسة تاريخ الإسلام وتراثه، متى أدركنا ما كانت تزخر به بيئته الاجتماعية من عوامل تأثيرٍ زادت، مع الزمن، بازدياد ظواهر الانقسام الاجتماعي والسياسي فيه.

إذا تركنا جانباً لحظة التأسيس من تاريخ الإسلام، وهي لحظة الصدر الأول منه (الفترة النبوية والخلافة الراشدة)؛ حيث لم تكن مسيرة الإنتاج الفكري الإسلامي قد انطلقت بعد، سنجد أنفسنا أمام واقعةٍ تاريخية مفصلية لا سبيل أمام أيِّ تاريخٍ للفكر إلى تجاهُلها؛ هي أنّ نشأة العلوم العربية الإسلامية تقترن بعصر التابعين (أبناء الصحابة) وتابعيهم، وأنّ فترةً لا تقِلّ عن نصف قرنٍ تفصل بين الدعوة والهجرة، و(بين) البدايات الأولى للتأليف (تقييد الأخبار والسيرة والمغازي وجمع الأحاديث). وقد احتاج الأمر إلى عقود أخرى إضافية (آخر القرن الهجري الأول) كي تبدأ المجادلات الكلامية الأولى في مسائل الجبر والاختيار، التي سيرثها علماء الكلام في نهاية النصف الأول من القرن الهجري الثاني. إنَّ أولى كتابات المحدّثين المسلمين، من الجيل الثاني، ممّن دوّنوا وقائع الصدر الأوّل (عروة بن الزبير بن العوام، أبان بن عثمان بن عفان، محمد الزُّهري…)، تعود إلى النصف الثاني من القرن الهجري الأوّل. وهي المادة التأسيسية التي ستنشأ منها، في ما بعد، علومٌ وأجناس من الكتابة مثل السيرة، والمغازي، والطبقات، والحديث، والتاريخ… إلخ؛ وإذ نشير إلى هذه الحقيقة التاريخية، كما تنقلها لنا مصادر تاريخ الفكر، فلكي نشدّد من خلالها على أخرى تقترن بها – هي بيتُ القصيد في موضوعنا- وهي أنّ حركة إنتاج الأفكار، في تاريخ الإسلام، بدأت بعد انقسام «الجماعة الإسلامية» وحروبها، وفي مناخ الانقسام ذاك وبتأثير نتائجه، وهي لذلك ستتأثر، بالتالي، بالظروف الجديدة التي خلّفها الانقسام في الأمّة والجماعة، بما يدخل في جملتها من صراعات حادّة ودموية بين القوى المتنازعة على السلطة والثروة والحقيقة.

ليس تفصيلاً في تاريخ الإسلام أن تستهلّ «الجماعةُ الإسلامية» تاريخها، بعد الحقبة النبوية وحقبة الشيخين، بانقسامٍ حادّ داخلها عَصَفَ بوحدتها في سياقٍ من المنازعات العنيفة المفتوحة بين القوى الرئيسية فيها على السلطة. دشّنت هذه السيرورة، كما نعرف، الخلافاتُ الشديدة على سياسات الخليفة عثمان في إدارته السلطةَ والثروة. ولم تلبثِ الخلافات تلك أن انعطفت، انعطافة دراماتيكية، من الاعتراض اللفظي على الإدارة تلك – من معارضين وجمهورٍ موالٍ لهم- إلى ممارسة عنفٍ متدرِّج ضدّ الخليفة: من حصاره، إلى قطع الماء والزاد عنه وعن أهله، إلى اقتحام داره فاغتياله. من نافلة القول إنّ المعارضة التي ثارت ضد الخليفة عثمان أبْدَت في ثورتها غِلْظَةً ووحشيةً لا تليقان بمقام خليفةٍ وصحابي من حجم عثمان، ولا تُنْصِف تاريخَهُ المميَّز في نصرة دعوة الإسلام، ورفْدها بالمال في أوقات الشدّة. غير أن الغلظة والوحشية تينِك ما كانتا أكثر من تمرينٍ ابتدائي على ما هو أهْوَل وأشدّ فظاعة: الحرب الأهلية. هكذا أتتِ الحروب والفتن تتناسل من بعضها كالفطر في مسلسلٍ منها لم ينقطع حلقاتٍ (حرب الجمل، حرب صفين، حرب النهروان، مأساة كربلاء، ثورة عبد الله بن الزبير، ثورة ابن الأشعث…). وهي لم تَكْتَف بأن أهلكت عشرات الآلاف من الصحابة والتابعين، وعطَّلت عملية الفتوحات لفترةٍ طويلة، بل هي زرعت في داخل الأمّة والجماعة بذور شقاق لم تتوقف عن إثمار الانقسام السياسي والمذهبي فيها، أي عن الانتقال بالمسلمين من لحظة الجماعة الواحدة الموحَّدة – وهي لحظة لم تُعمَّر لأكثر من أربعين عاماً فاصلة بين بداية الدعوة والثورة على عثمان – وبين لحظة صيرورة الجماعة تلك فرقاً ومذاهب منغلقة على نفسها؛ وهي التي امتدت في الزمان منذ ذلك الحين.

انقشع غبار الحروب والانقسام والفتن عن مشهد اصطفافٍ ديني- مذهبي جديد فسيفسائي، بل انشطاري، تَوزَّع فيه الرأيُ والموقف بين اتجاهات وتيارات متباعدة ومتضاربة. في المناخات هذه- التي وُلِدت فيها جماعات مذهبية وفرق عدة (خوارج، شيعة، مرجئة، سنّة، جبرية، قدرية…)- بدأت عملية إنتاج الأفكار والمقالات في تاريخ الإسلام. ومن الطبيعي، تماماً، أن تأتي الأفكار تلك مطبوعة بطابع الصراعات التي وُلِدت في أكنافها؛ بل التي كانت هي نفسُها في أساس توليدها كأفكار.

 

نشر بها يوم الاثنين 11 شتنبر 2017.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …