لا يُغيّر فشُوُّ الشعبوية في البيئات السياسية الحزبية، كما في بيئة السلطات السياسية الحاكمة والمنظمات غير الحكومية التي يطلَق عليها نعتُ منظمات المجتمع المدني ، مثلما لا يغيّر تزايُدُ حواملها الجهازية (الوسائلية)، واتساعُ نطاقِ مساحات التعبير عنها، من حقيقة أنها (أي الشعبوية) ابتذال للسياسة، وانحطاطٌ بها إلى درْكٍ أسفل وأنها، في الوقت عينِه، ثرثرة ديماغوجية لا تعبّر سوى عن فقرٍ معرفي وسياسي لدى مَن يتوسلونها ويجهّزون بها خطاباتهم السياسية. وهي، بالمعاني هذه وغيرها، البيئةُ الخصبة لنموّ مَنازِع مَرضية أخرى في السياسة – شديدةُ الاتصال بها- مثل الخطابية اللفظانية، والدّعَوية، والنزعة التحريضية، والقُصووية، والكلاَّنية، والانتهازية، والعدمية… إلخ؛ بل هي التي تغذّي النزعات تلك وتزوِّدها بالطاقة الفاعلة للفتك بالسياسة والعمل السياسي. ومع أنّ مضمونها ذاك يظلُّ هو هو، اليوم، في سياق الإمكانات الوسائلية الجديدة التي أتيحت لها؛ -بل ولذلك- ينبغي ألّا يبتخس المرءُ ظاهرة الموارد (التِّقانية) الجديدة، التي يتغذى منها الفعل الأيديولوجي الشعبوي؛ إذ علاوةً على ما تُمِدُّها به الموارد التكنولوجية تلك من أسباب الانتشار، وإعادة إنتاجها كنزعة، تفضي كذلك-وفي النهاية-إلى حيث تُسَلْطِن الشعبويةَ وتجعل منها الشكلَ الوحيد الممكن للسياسة! وهذا ما يفسّر، بالذات، لماذا اعتنقها العملُ السياسي، في طبْعاته الحزبية والأيديولوجية كافة، ولماذا تَنافَسَ المتنافسون فيها؛ بحثاً عن التميُّز والتفوُّق؛ ذلك أنه ما عاد للسياسة من وجْهٍ تُطِلُّ به على الناس سوى الشعبوية في عصر انحطاط السياسة.
ما كانت فرصُ تعاظُم نفوذ الشعبوية قليلة في الماضي القريب، أعني قبل الثورة الإعلامية والإلكترونية، التي انطلقت في امتداد انطلاق العولمة.
صادفتِ الشعبويةُ – من حسن حظِّها- عالماً جديداً مزدحماً بوقائع الثورات العلمية والتِّقانية: الثورة الهائلة في الاتصال عبر الفضاء؛ وثورة المعلومات ثم الثورة الرقمية؛ والثورة الإعلامية، التي استفادت من معطيات الثورتيْن تينك؛ لإعادة تأهيل أدائها وتطوير موارده ومؤسساته. ليس من شيءٍ أنسب للشعبوية من أن تَرْكَب أيسر الوسائل للوصول إلى الجمهور الذي تخاطبه. والحقّ أنّ وسائط الاتصال العولمية الحديثة، من إعلامٍ فضائي وإنترنت، لم توفر للشعبوية أدوات مخاطبةٍ جديدةً، أكثر فعالية ونجاعة ممّا كانتْ عليه من قبل، وإنما هي – فوق ذلك- صنعت لها (الشعبوية) جمهوراً جديداً هو أضعافُ أضعافِ جمهورها السابق. ومن آيِ ذلك أن القطاع الأعرض من الناس مِن الذين كانوا غير مهتمين بالشأن العام – على الأقل في مجتمعاتنا العربية-أدخَلَتْهُ تلك الثورة الإعلامية في قلب المجال العمومي التواصلي وشَدَّتْهُ، بخيوطٍ متينة، إلى هواجس السياسة والشؤون العامة، وبالتالي، وَضعتْهُ في المكان المناسب للالتقاء بالشعبوية وقواها واستقبال خطابها السياسي. هكذا بات للنزعة الشعبوية فضاءاتٌ جديدة يمكنها الانطلاق منها وتوسُّلها في تبليغ رسالتها، وأوّلُها الشبكة العنكبوتية للمعلومات والفضائيات الإعلامية. حصل ذلك كما لو أنّ من مقاصد الثورة الإعلامية والإلكترونية تلك أن تخدم الشعبوية وتمكِّن لها.
ولقد يجوز للمرء، في هذا الباب، أن يتساءل عمّا إذا لم تُكِن الفضائيات الإعلامية، مثلاً، أدواتٍ شعبويةً برسم الخدمة؛ بل إنّ له أن يذهب إلى مَسْألة الموضوع نفسه (أي إلى وضْعه موضع سؤال) في أسئلةٍ من قبيل: أليستِ الفكرةُ الشعبوية هي نفسُها التي كانت في أساس ثورة الإعلام والاتصال من أجل تسخيرها (الثورة) لمصلحة القوى المالكة للوسائط تلك؟ ألم يكُنِ المراد من الثورة تلك تيسيرُ عمليةِ المراقبة والضبط الاجتماعيَّين و- بلغة أنطونيو غرامشي- تحقيق الهيمنة؟ ما يدعونا إلى مثل هذين السؤاليْن (هو) أنّ حاجةَ السياسة إلى صناعة الرأي العام وتنميط وعيه – وهي ظلت باستمرار طِلْبَةً لكلّ عملٍ سياسي- هي ما أسَّس للثورة تلك، وبالتالي فإنّ الشعبوية لا تحصد، بهذا المعنى، سوى ما زرعَتْهُ هي نفسُها.
لكن ثورة الإعلام والاتصال لم تجعل الأداء الشعبويّ أمراً ميسوراً للأحزاب والمنظمات السياسية والنقابية حصراً؛ بل هي أتاحتْه للجميع، حتى لمن لم تكن له تقاليد في ممارسة الشعبوية، للسلطات الحاكمة؛ للمنظمات غير الحكومية؛ للشركات ومؤسسات المصالح الاقتصادية ومؤسسات الإعلانات؛ وللأفراد أيضاً؛ حيث تحوَّل بعضُهم، «بقدرة قادر»، من فردٍ إلى حزب لمجرّد أن وَضَعَت قنواتٌ فضائية تحت تصرُّفه مساحاتٍ زمنيةً واسعةً لمخاطبة الجمهور! هكذا شاعت أوصافٌ وتسميات ل«نجوم» سياسيين وثقافيين-صنعت وسائطُ الإعلام «نجوميتَهم» على الطريقة الهوليودية! – ليس لها إسقاطٌ واقعيّ مناسب؛ مثلما شهدنا على ميلاد ظاهرةٍ جديدة سمَّيتُها، قبل عشرين عاماً، بظاهرة «المناضل التلفزيوني»؛ وهي كناية عن تمكين أسماء غُفْل – في عالم السياسة كما في عالم الثقافة – من الصيرورة «زعامات» لمجرّد أنها تُتقِن الزعيق، ورفع العقيرة، وخبْط الطاولة بقبضة البد، ونفْخ الأوداج، وإخراج العينين من المحْجرين، واستخدام بذيءَ الألفاظ، والنَّيْل من مقامات مَن هُم أعلى شأناً وشأواً منها…إلخ! ولقد أدت فضائياتٌ شعبوية (عربية خاصة) هذا الدور القذِر في التحريض والنَّيل من منظومة القيم الثقافية والاجتماعية، فكرّست ثقافةً مبتذَلة – في العشرين عاماً الماضية – مدارُها على تنمية الغرائز العدوانية الافتراسية لدى الجمهور الذي تخاطبه، باسم الواقع والشفافية وتأدية «رسالة إعلامية تنويرية»، وتمكين الشارع من الحقّ في الكلام والمنبر.