الحـراك العربــي وإشكالية الديمقراطية : أي أفق؟

محمد الاخصاصـي


مقدمة :
I – إن توصيف ظاهرة «الربيع العربي» من حيث هي : «حراك جماهيري» مستجد في نمطه، ديناميكي في مساره، متناغم في أهدافه ليكتسي أهمية بالغة لفهم الظاهرة، واستشراف مآلاتها… بيد أن تعدد التوصيف وتنوعه ظل مرتبطاً بتعدد المقاربات، وتعدد الرؤى التي تبلورت حوله.
لكن مدار المساءلة والتفكير ظل منصباً على تحديد طبيعة «الظاهرة»، وتعيين مواصفاتها، على ضوء قاموس الحركات السياسية-المجتمعية التي أحدثت تحولاً بالغ الأثر في مسيرة التقدم والتبدل في التاريخ المعاصر. ولا مراء، فإن تضارب المفاهيم (Concepts) التي وُظفت في التوصيف، والتباس المقاربات التي اعتمدت في التحليل، قد أحدث خلطاً غير مسبوق في مجال تقييم الظاهرة، وتعيين مدلولاتها السياسية-السوسيولوجية.
ونروم في هذه الورقة إجراء قراءة موضوعية للظاهرة، من منطلق الرصد الدقيق لوقائعها وأحداثها،ـ والتحليل الرصين لمسارها السياسي، ومرجعياتها الفكرية، بلوغاً إلى استشراف آفاقها، واستيضاح مآلامها…
II – وفي هذا الاتجاه، أطرح على أنظاركم، وأضع قيد تقديركم، قراءة متآنية، تأملية لظاهرة «الربيع العربي» تحاول استكناه منطلقاتها، ورصد مسارها، واستشراف آفاقها، وذلك عبر محاور ثلاث :
1- محور أول، وينصب على محددات السياق السياسي في «الربيع العربي»؛
2- ثاني المحاور، ويتصل بالتوظيف الديني في الصراع : المحددات والنتائج؛
3- ثالث هذه المحاور، ويتعلق بالحراك العربي وإشكالية الديمقراطية.
أولاً- المحور الأول : محددات السياق في «الربيع العربي» :
يشكل الوضع العربي الجديد، المندرج في سياق ما بات يُعرف بـ «الربيع العربي»، محصلة سوسيو-سياسية لثلاث ديناميات، متواترة ومترابطة :
I- أولاها وتتمثل في دينامية «الانتفاضات الشعبية» التي غشت، وتغشو عدداً من الأقطار العربية (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، البحرين، سوريا) منذ بداية عام 2011.
ويطرح فهم وتمثل دينامية «الانتفاضات الشعبية»، بزخم أحداثها وتنوع تناقضاتها، وحدة صراعاتها، إشكالية الإطار النظري الكفيل باستكناه مدلولاتها الاجتماعية، واستقراء مغازيها السياسية، واستشراف توجهاتها المستقبلية.
وفي هذا المضمار تطرح تساؤلات مشروعة، حادة وملحاحة، من قبيل :
<– هل العالم العربي بصدد الانخراط في «عملية ثورية» ناجزة، ذات مرجعية معيارية ثورية ؟
<– أم نحن أمام «عملية تغيير» غير مكتملة، قد تفضي إلى ما دون الأهداف المعبر عنها؟
<– هل العالم العربي في حالة ثورية بالمفهوم التاريخي، السيوسيو-سياسي، الذي كرسته الثورات الكبرى، الفرنسية، والأمريكية، والروسية، والصينية، والإيرانية الخ ؟ أم أن الأمر يتعلق بحالات «تمرد»، وأوضاع «عصيان»، لا ترقى إلى مستوى الوضع الثوري الموضوف ؟
إذا كان من السابق لأوانه صياغة أجوبة قاطعة، حاسمة على هذه التساؤلات المشروعة، فإن رصد ومراقبة ما يجري من أحداث، في أكثر من سياق عربي، من جانب، والاستئناس بالدراسات الجادة حول توصيف «الثورات» الكبرى، من جانب آخر، إنما يؤشران إلى السمة «التغييرية» التي تطبع هذه «الانتفاضات الشعبية».
ذلك أن مصطلع «الثورة» مفهوم يُشار به إلى نظام اجتماعي، سياسي، ثقافي جديد، يولد من رحم «التغيير الثوري». و»التغيير السياسي» الذي لا يقود إلى تغيير بنية النظام الاجتماعي والاقتصادي، لا يكون ثورياً؛ كما أن السلطة الجديدة الناجمة عنه ليست «سلطة ثورية» بالضرورة.
كما لا تتحدد ثورية حركة اجتماعية أو سياسية بأسلوب التغيير الذي تعتمده (التمرد/العصيان/العنف/الانتفاضة الخ…)، وإنما تتحدد ثوريتها بمضمون المشروع الذي تحمله : هل يغير علاقات السلطة والثروة، أم يعيد إنتاجها بشكل جديد ؟
وعلى ضوء هذه العناصر المرجعية، فإن ما يطلق عليه «الربيع العربي» يعبر، تحديداً، عن حركية سياسية، اجتماعية، عبرت عنها «انتفاضات شعبية» سلمية، تلقائية، حول شعارات سياسية واجتماعية راديكالية، لكن دون قيادات فكرية ريادية، ولا مشاريع مجتمعية ثورية، اجتماعية واقتصادية وثقافية، ولا رؤية مستقبلية واضحة المعالم.
لكن العملية «الثورية» هي بطبيعتها مسلسل طويل، تكتسب، عبر مخاضه، عملية التغيير نضجاً ثورياً، تتمكن به من تدارك ما فاتها من مقومات الثورة المكتملة العناصر : مقوم «الاستشرافية» ومقوم «الريادية».
II- ثاني الديناميات، هي دينامية «التغيير» :
ارتباطاً بمضمون ومفاعيل الدينامية «الانتفاضية»، فقد اتسمت دينامية «التغيير» بمخاض عسير يعكس عُسره ما يجري حالياً في مصر وتونس وليبيا وسوريا…، من صراعات سياسية، واحتقانات اجتماعية، وانهيارات اقتصادية، واستقطابات دينية، ونكوصات قبلية، وطائفية…
وتشق دينامية «التغيير» مسارها عبر دوامة من الصراعات السياسية، والاستقطابات المذهبية والتموقعات النخبوية…
فيما يتعلق بالصراعات السياسية التي تشكل في كل مكان وزمان رديفاً لصيقاً بعملية «التغيير»، باعتبار هذه الصراعات التعبير السياسي والنفسي عن التناقض الأساسي الذي يحتد ما بين قوى التغيير وقوى المحافظة ? فإنها اتخذت وتتخذ، في شروط وظروف «الربيع العربي»، طابعاً معقداً، تتقاطع فيه أبعاد متعددة، سياسية ومذهبية وقبلية؛ وتتبلور في سياقه استقطابات متنوعة :
* الاستقطاب القبلي : ليبيا/اليمن
* الاستقطاب الطائفي : سوريا/البحرين
* الاستقطاب الديني : تونس/مصر الخ…
بيد أن هذه الأبعاد والاستقطابات التي باتت تسم مسار «التغيير»، لا تمثل في الحقيقة سوى «أعراض جانبية» لصراع سياسي، اجتماعي عميق، أصبح آخذاً بناصية دينامية «التغيير، في سياق سقوط أنظمة موصوفة بالاستبداد والفساد، وهو صراع يتمحور حول مشروعين مجتمعيين متعارضين، أحدهما حداثي، مدني، وثانيهما تقليداني، مذهبي.
وقد بلور التمحور الشعبي، حول هذين المشروعين المتناقضين، نوعين من القوى السياسية الفاعلة في الميدان : قوى سياسية محافظة متمحورة حول المتغير الديني، وقوى سياسية حداثية، متمحورة حول المتغير العلماني.
وإذا كانت هذه الثنائية الفكرية-القيمية، متجذرة في فكر النهضة العربية-الإسلامية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، فيما أضحى يُطلق عليها فكر «النزعة الحداثية»، وفكر «الصحوة الإسلامية»، فإن هذه الثنائية ازدادت اكتساحاً وحدة واحتداماً في المرحلة الانتقالية لما بعد «الانتفاضات الشعبية»…
وتكمن أسباب هذا الاكتساح والاحتدام بين عنصُري الثنائية، الديني والعلماني، في مرحلة ما بعد «الثورات» العربية في المستجدات التالية :
* تحول الخيارات القيمية المتعارضة، التي تنطوي عليها هذه الثنائية، من مستواها النخبوي إلى المستوى الشعبي، بفعل ظاهرة «الاكتساح» السياسي، الميداني الذي حققته «القوى المحافظة»؛
* قدرة «القوى المحافظة» على التسلل إلى قيادة «الحراكات» الشعبية، بفضل رصيدها الرمزي، وحنكتها التنظيمية، وشبكاتها الاجتماعية، ومواردها التمويلية؛
* حساسية «المتغير الديني» لدى أوساط واسعة من الشعوب العربية-الإسلامية، بفعل ما يسمها من معوقات اجتماعية واقتصادية وثقافية وفكرية، موروثة عن عقود من الاستبداد والفساد (نسبة الفقر/نسبة الأمية/نسبة التخلف الفكري…).
III : دينامية المتغير الخارجي :
يشكل المتغير الخارجي الضلع الثالث في مثلث الديناميات المؤطرة لـ «الربيع العربي». وقد ظل هذا البعد الخارجي شبه منسي في دراسة «الانتقالات السياسية» التي حصلت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
وتحيل مسألة المتغير الخارجي إلى إشكالية العلاقة بين الداخل والخارج في سياق التحولات المجتمعية التي تغشى عالمنا المعاصر. وفي هذا المضمار، فإن السجال النظري الجاري بشأن هذه الإشكالية يدور بين مدرستين متقابلتين :
إحداهما تقوم على فرضية «المؤامرة الخارجية» المحبوكة على الداخل، أو على أطروحة «التبعية» في دراسة العلاقات الدولية من حيث التأثر والتأثير…
وحسب هذه المدرسة فإن «تأثير الخارج» في الصراعات الداخلية ? سواء تعلق الأمر بسياسات القوى والدول الكبرى، أو بتأثيرات النظام الدولي القائم، أو بامتدادات فعاليات وتأثيرات المنظمات غير الحكومية ? يشكل عاملاً حاسماً في صياغة التحولات التي تجري…
ثانيتهما، وتتصل بمدرسة «السنن» التي ترى أن طبيعة التفاعلات بين الداخل والخارج خاضعة لمنظومة من «السنن»، تتقاطع فيها العوامل المادية، اقتصادية كانت أو جيو-سياسية، والعوامل المعنوية، حضارية كانت أو قيمية.
وينصب المتغير الخارجي على فعل وآليات تدخل القوى الخارجية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، للدفع باتجاه هذه التحولات السياسية، على خلفية تكييفها مع المصالح الإستراتيجية، والاعتبارات الجيوسياسية للقوى الغربية، أو مواءمتها مع المرجعيات والقيم الكونية.
ويتجلى هذا المتغير الخارجي في سياسات الغرب إزاء ديناميات التحولات التي حصلت في البلقان (احتواء قوة وهيمنة صربيا)، وفي الشرق الأوسط، في ظل مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، وفي بلدان جنوب وشرق أوروبا، تحت شعار «الانتقال الديمقراطي».
ويخضع فعل التدخل الخارجي في مجريات التحولات السياسية الجارية، في عدة مناطق من العالم، إلى مجموعة من العوامل المحدِّدة : السياسة الخارجية للدول المتدخلة/الإطار القيمي السائد في النظام الدولي خلال فترة معينة (الديمقراطية/حقوق الإنسان/الحكامة الرشيدة الخ…)، عدوى النماذج السياسية والخبرات المتحصلة لدول التدخل الخ…
ثانياً : «الربيع العربي» وإشكالية الاستقطاب المذهبي :
عندما نتأمل نماذج التحولات الديمقراطية التي غشت العديد من أقطار عالمنا المعاصر، في أوروبا الجنوبية (البرتغال/اسبانيا/اليونان) وأمريكا اللاتينية. وفي أوروبا الشرقية، منذ ثمانيات القرن الماضي، حيث احتل الرهان الديمقراطي مركز الصدارة فكراً وممارسة، فإن تجارب «الربيع العربي» بما يكتسي مساراتها من صراعات سياسية، ومن سياسات إيديولوجية، ومن تهافتات مذهبية، تبدو منخرطة في كنف أنموذج استثنائي ينطوي على تجاذب حاد ما بين الرهان الديمقراطي والرهان المذهبي.
1- إشكالية الخيار المذهبي :
وبالفعل، يتسم مسار الصراع الذي فجره «الربيع العربي»، بتجاذب شعبي غير مسبوق بين معسكر إسلاموي (islamiste)، إخواني-سلفي، يضع المتغير الديني في صلب أجندته السياسية، وبين معسكر علماني (ليبرالي/قومي/يساري، الخ) يضع الخيار العلماني عنواناً لمعركته السياسية. وقد بث هذا التجاذب بين المعسكرين دينامية استقطابية قوية، أعادت صياغة المشهد السياسي في بلدان «الربيع العربية».
ويطرح مدلول الاستقطاب المذهبي في الصراع السياسي، ضرورة الاسترشاد بإطار مرجعي، نظري لفهم الظاهرة من جهة، وتحديد الشروط الموضوعية والذاتية المؤطرة لبروزها من جهة أخرى…
بالنسبة للإطار النظري، المرجعي، فهناك اتجاهان نظريان، رئيسيان يتنازعان دور الدين في التفاعلات السياسية، سواء على المستوى الدولي أو على المستوى القومي :
* أحدهما ينظر إلى الدين كعامل للاختلافات بين الجماعات والشعوب. وتندرج نظرية (صمويل هانتنتونSamuel Huntington ) حول دور الدين في الصراع بين الحضارات، في سياق هذه الرؤية الإشكالية للدين.
* ثانيهما يقف في الطرف المقابل، وينظر إلى الدين كرافعة لـ «التوافق»، وعامل «تسوية» للنزاعات بين الجماعات المختلفة. كما يرى أن الصراعات العنيفة الناشبة بين الجماعات والدول إنما تقوم في الغالب الأعم بسبب المصالح الاقتصادية، وليس بسبب الدين.
ويستند هذا الرأي في تقديره لدور الدين، إلى النسبة الضئيلة التي تمثلها الحروب الدينية (=7%) في عدد الصراعات المسلحة التي وقعت على مدى التاريخ البشري، حسب بعض الدراسات.
وإذا قاربنا هذين النظرين المتعارضين والمتقابلين، بمنظور جدلي، فإن الصراعات العنيفة ذات المسحة الدينية، إنما تتداخل فيها عوامل أخرى غير دينية، ذات طبيعة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية، غير بارزة بما فيه الكفاية.
ومن تم فإن العالم العربي-الإسلامي لم يعرف حروباً دينية خالصة، على غرار الحروب الدينية الأوروبية المندلعة عقب ظهور حركة الإصلاح الديني وغيرها… وإنما قاسى حروباً داخلية يتقاطع فيها البعد الديني مع أبعاد أخرى، صريحة أو مُبطنة. ومثال ذلك :
* الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك (1992-1995) بين المسلمين والأرثوذكس؛
* الحرب الأهلية في السودان (1983-2005) بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي-الوثني؛
* الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990) بين «الحركة الوطنية» ذات الأغلبية المسلمة، والحركة المارونية ذات الأغلبية المسيحية.

<– وعلى ضوء هذه المعطيات التاريخية، فإن العامل الديني في تفجير أو تأجيج المواجهات العنيفة لا يكون وحده، بل لابد من وجود قيم أخرى هي بالأساس قيم مادية تتمحور حول الثروة (الموارد الاقتصادية وتوزيعها غير العادل)، أو السلطة (الاستبداد في ممارسة السلطة)، أو العامل القومي (انفصال قومية عن أخرى) أو الانتساب القبلي…
وهكذا، فإن مُحددات «الصراع الديني» غالباً ما تنصب على تطابق الانقسام الديني مع التمايز الطبقي، أو التفاوت الاجتماعي أو التناقض السياسي…
2- التوظيف الديني في الصراع : المحددات والنتائج :
إن منشأ ظاهرة الاستقطاب الديني في خضم الصراعات الجارية راجع إلى عملية توظيف الديني في الخلاف السياسي، بهدف تنمية حظوظ الكسب والانتصار في الصراع الناشب.
واعتباراً لما يمكن للدين أن يُفجره من طاقات عاطفية تعبوية هائلة، فإن اللجوء إلى توظيفه في الصراعات السياسية يوفر حظوظاً كبيرة لتصنيف الأفراد والجماعات، ضمن حدود هذا المعسكر أو ذاك، بما هو معسكر إسلاموي أو معسكر علماني…
كما أن توظيف الدين في السياسة يفتح فرصاً هائلة للحشد الجماهيري، على قاعدة التصنيف الفارز السابق، وحول مسائل دينية حساسة في الذاكرة الجمعية، مثل شعارات «الإسلام هو الحل» أو «الشريعة المصدر الأساسي للتشريع» أو غيرها من الشعارات التعبوية..
وتبدو هذه المفارقات اللافتة ما بين الحقائق السياسية للصراع، والأدوات الدينية الموظفة في التعبير عنه، في حالات صراعية عربية مختلفة :
* في الحرب الأهلية بالسودان، تمحور الصراع حول «مسألة تطبيق الشريعة» في الجنوب كما هي في الشمال، في حين فإن المحدد الحقيقي للصراع هو التنافس حول المياه والنفط بين الشمال والجنوب. وحيث أن الشمال مسلم والجنوب مسيحي-وثني، فقد تم تكييف الصراع من وجهة نظر النخبة الشمالية على أنه «جهاد ديني»، وذلك بهدف اكتساب الصراع لشرعية أخلاقية، وإنجاز حشد الجماهير.
* في الصراعات المذهبية التي طفت على السطح، في السياقات الانتقالية الجارية، تلبس الصراعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لبوساً طائفياً متبرجاً. وهكذا، فمصدر الصراع في سوريا يتمظهر في واقع «تسلط» العلويين الذين يمثلون 10% من الساكنة، على مقاليد السلطة، ضداً على الأغلبية السنية التي تمثل أزيد من 70%. ومحرك الصراع في البحرين يتمظهر هو الآخر في «تسلط» الأقلية السنية (نحو 23% من الساكنة) على الأغلبية الشيعية (نحو 66%).
وفي كلتا الحالتين فإن الحشد الجماهيري لحساب الصراع السياسي، بات يتم على أساس طائفي، في الوقت الذي أضحى فيه الاختلاف الطائفي يلعب دوراً واضحاً في تمييز أطراف الصراع.
وتمارس هذه الحالات التنازعية ذات المسحة الطائفية نوعاً من التعمية على جوهر الصراعات المجتمعية، الزاحفة أو المنتصبة، في أعقاب أحداث «الربيع العربي».
ومما لا ريب فيه، فإن جوهر هذه الصراعات القيمية يكمن في واقع التضارب بل التناقض بين مشروعين مجتمعيين متقابلين :
أحدهما، مشروع وطني، ديمقراطي، مُنفتح على قيم الحداثة الكونية، وفي طليعتها قيم الحرية والمساواة والعدالة، ومُفعم بمبدأ العدالة الاجتماعية، ومنخرط في مسعى إقامة أو تعزيز دولة القانون. وبهذا المعنى، فإن هذا المشروع يتسع ليحتضن المواطنين كافة، دون تمييز، طالما يتم التقيد بمبادئ وقواعد وآليات الممارسة الديمقراطية، كما هي مقررة وطنياً، ومتعارف عليها عالمياً…
ثانيهما، مشروع إسلاموي، ذو نزعة ثيوقراطية، يدير ظهره لمنظومة القيم الكونية، على خلفية تفسير متزمت لأحكام الشريعة الإسلامية، ويختزل الديمقراطية في آلياتها الاقتراعية، ساعياً بذلك إلى شرعنة مواقف وأفكار «اجتهادية» لا تحظى بإجماع الأمة، وإلى تكريس قيم دينية مؤولة في مدلولاتها الإسلامية، ومُفعَّلة خارج سياقاتها التاريخية.
وبهذا المعنى، فإن الطابع الانتقائي لهذا المشروع يكرس تمييزاً تعسفياً بين المواطن المسلم أو المسيحي، والمواطن الإسلاموي في إطار المجتمع الواحد، نابذاً بذلك مفهوم دولة الحق والقانون، ومنتهكاً حقوق المواطنة. وهو بالتالي يحمل في طياته بذور الانقسام والفرقة، سرعان ما يتطوران إلى تنازع عَقدي وإلى فتنة مجتمعية.
ثالثاً : إشكالية الديمقراطية بين المنطق المدني والمنطق الديني :
إذا كانت الصراعات السياسية التي أفرزتها حقبة «الربيع العربي» تتمحور حول خيار الديمقراطية، ووسائل كسب رهانها ? فإن مدلولها في المعسكر الإسلاموي يبدو مغايراً لمفهومها في المعسكر العلماني. فبمقدار ما يقاربها المعسكر الأخير (العلماني) بمنطق مدني، استراتيجي، بمقدار ما يتناولها المعسكر الأول (الإسلاموي) بمنطق ديني، مرحلي.
وأمام ظاهرة الانشطار العمودي الحاد، الحاصل في المجتمعات العربية، بين دعاة «المنطق الإسلاموي»، الذي يعتبر أن «الديمقراطية» هي مجرد «مرحلة انتقالية»، يتم العبور بها نحو تحقيق الهدف السياسي، الاستراتيجي : إقامة «نظام سياسي إسلامي»، ودعاة المنطق المدني، الذي لا يرى للنظام السياسي الديمقراطي، بديلاً ? فإن المخرج من هذا الوضع العربي المشحون، بات مرتبطاً بضرورة صياغة حصيفة لتوليفة إيجابية لطرفي هذه الجدلية الماكرة ما بين المنطقين، الإسلاموي والعلماني.
أولى عناصر التوليفة الإيجابية، يستدعي إعادة الاعتبار لقيمة الحوار والتوافق. فتفعيل قيم الحوار والتوافق من أجل احتواء دينامية التصارع، وما قد يتولد عنه من عنف مادي، وإخلال بالاستقرار الأهلي ? كما هو واقع الحال اليوم في مصر وليبيا، وبشكل أكثر حدة وضراوة في سوريا ? أمسى يشكل عنوان المرحلة الانتقالية الجارية.
ثاني العناصر ويتصل بخيار الأخذ بنظرية «الديمقراطية التشاركية» التي تنطوي على إمكانية قيام نظم ديمقراطية مستقرة في المجتمعات المنقسمة على نفسها، سياسياً أو عرقياً أو دينياً أو طائفياً، وذلك من خلال التخلي عن استخدام قاعدة الأغلبية المعمول بها في النظرية الديمقراطية التقليدية، يمكن أن يشكل إطاراً سياسياً لإعمال قيم الحوار والتوافق.
بيد أن تحقيق هذا النموذج «التوافقي» في ممارسة السلطة والحكم في بلدان «الربيع العربي»، إنما يتطلب اقتناعاً بفكرة التشارك في الحكم، من أجل تجنيب المجتمع كله ويلات الانقسام، ومخاطر العنف، كما يتطلب الاستعداد لـ «تحمل» «التنازلات» المطلوبة، والقبول بالحلول الوسطي، والالتزام بالتعاقدات المقررة.
ويكمن رهان إعمال «الديمقراطية التشاركية»، في هذه المرحلة الحرجة من مراحل «الانتقال» في العالم العربي، في تحقيق هدفين اثنين : أولهما تحييد الديني في المجال السياسي، طالما أن الإسلام شكل ويشكل على الدوام المستند الروحي، والإطار الحضاري، والمرتكز الثقافي الجامع لأفراد المجتمع.
ثانيهما : احتواء الشحنة العاطفية التي تؤججها مقاربة الصراع السياسي-الفكري بالاستقطاب الديني.
وفي هذا الاتجاه، فإن تحويل مفاهيم حيوية في مجال الإدارة الرشيدة للمجتمع، مثل مفاهيم الديمقراطية، والمدنية، والمواطنة، إلى قيم مشتركة، لا تكون حكراً على هذا المعسكر أو أسيرة لدى المعسكر الآخر، إنما يتيح إحدى المفاتيح لاختراق جدار الاستقطاب السياسي الثنائي القائم ما بين المنطق الديني والمنطق العلماني في مقاربة الانتقال السياسي المطلوب.

ثالث العناصر وينصب على أولوية احتواء السياقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتدهورة التي تغذي الاحتقان السياسي المتفاقم.
وغني عن الإشارة أن مصدر الاحتقان السياسي الذي أخذ بعداً قيمياً حاداً في سياق «الربيع العربي»، كامن أساساًَ في السياقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتدهورة في ربوع العالم العربي…

إن جماهير «الثورة» حينما هبت إلى ميادين التظاهر والاحتجاج، في أكثر من قطر عربي، إنما كانت تتحرك وفق تصور مزدوج لـ «التغيير» المنشود، يقوم على ترابط التغيير السياسي بالتغيير الاجتماعي.
وبالتالي، فإن دقة المرحلة «الانتقالية» في سياق «الربيع العربي»، كامنة في هذا الترابط «العضوي»، ما بين تغيير النظام السياسي، وتغيير الوضع الاجتماعي.
وتشكل المفارقة القائمة ما بين المتغير السياسي، والمتغير الاجتماعي في مسار «الربيع العربي»، على مدى أزيد من سنتين ونصف (يناير 2011- يونيه 2013) من عمر «الثورة»، إحدى دواعي التكرر والتجدد لظاهرة الحراك الشعبي العربي.
ومرد هذه المفارقة أن القوى السياسية الإسلاموية التي استلمت مقاليد السلطة في بلدان «الربيع العربي»، لم تستطع أن تخرج من شرنقة المحافظة العقيمة التي انطمرت فيها، طالما أنها تبدي عجزاً فكرياً، وقصوراً سياسياً للمزاوجة ما بين المحافظة الدينية والحداثة الاقتصادية.
وغني عن الإشارة أن مواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية العميقة القائمة في بلدان «الربيع العربي»، ببعديها الداخلي والخارجي، سبيلاً إلى توفير شروط وقف تدهور الأوضاع الاجتماعية لشعوب هذه البلدان، وتحسين معيشة الملايين من شبيبتها ومنتجيها ? إنما تتم، أساساً، عبر الانخراط في صياغة برنامج اقتصادي، اجتماعي، تنموي، كفيل بتحقيق مستوى معقول من النمو الاقتصادي، وتخفيض سقف البطالة المتفشية، وتحسين القدرة الشرائية للمواطن، وذلك في سياق تنمية اجتماعية واقتصادية وبشرية مستدامة.
ومن ثم فإن تغيير السياقات الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، في إطار أكثر حرية ومواطنة وعدلاً ومساواة، ستجعل من التعدد الثقافي، والتنوع السياسي والفكري، مصدر تماسك وتلاحم، لا عامل تنازع وفرقة. وفي هذا الاتجاه يكمن مستقبل «الثورات» العربية الذي أضحى رهيناً بقدرة الحاكمين الجدد على تقديم حلول ناجعة للمشكلات والأزمات والصراعات الموروثة، وعلى احتواء الصراعات الأخرى، السياسية والقيمية، التي تُطل برؤسها هنا وهناك، والتي تهدد بمخاطر «الثورة» المضادة.
ومن ناحية أخرى، فإن إعادة الاعتبار لمبدأ «الاستقلالية» التي يتمتع بها كل من الدين والدولة في علاقتهما ببعضهما البعض من جهة، واعتصام طرفي التجاذب السياسي-القيمي الحاد بفضيلة التنسيب والاعتدال، وذلك عبر ترشيد موقف «الإسلام السياسي» من الدولة ? التي لم تكن في تاريخ الإسلام دولة دينية -، وعقلنة الموقف العلماني من الدين الذي يسكن وجدان المجتمع، ويشكل ثابتاً من ثوابته الوجودية من جهة أخرى ? إنما يشكلان أرضية ضرورية، حيوية للانخراط الحقيقي، الفعلي في مشروع «الحكم الديمقراطي»، كما هو معلن في الخطاب السياسي المتداول.
خاتمة :
إن واقع الحال بمتغيراته السياسية والاجتماعية والدستورية والفكرية، في ظل الصراع القيمي المستعر، ليشي بمخاطر استبدال نظام استبدادي مدني بائد، بنظام استبدادي مذهبي زاحف… وفي ذلك تكمن المخاطر الحقيقية التي تتهدد مستقبل «الثورات» العربية…
وتجنباً لهذه المخاطر التي باتت تتربص بكفاح وتضحيات الشعوب العربية، التي صنعت «انتفاضاتها» البطولية ظاهرة «الربيع العربي»، فإن اعتصام الحاكمين الجدد بإدارة رشيدة للصراعات في المراحل الانتقالية، عبر رؤية سياسية حصيفة، وممارسة ديمقراطية عميقة، ليمثل الخيار «الثوري» الوحيد لضمان تحقيق أهداف «ثورات الربيع العربي»… إنه خيار «الديمقراطية التشاركية» التي نعتبرها الرهان الحيوي لإنجاز مرحلة الانتقال الديمقراطي.

الرباط في 26 يونيـو 2013

10/7/2013

عدد القراءات : 38

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…