انتهت داعش، أو شارفت على الانتهاء، وانتشر مقاتلوها بين الناس، بين من عاد إلى بلده الأصلي، أو استوطن بلداً جديداً، حاملاً معه أفكاره ذاتها إن لم تكن قد رفدت بما زادها تطرفاً وجهلاً، بانتظار محاولة جديدة لإعادة ما يسمى “دولة الخلافة” في مكان ما في زمان ما.

وأغلب الظن أن هذا المقاتل لم يع أن هذه الدولة ما هي إلا أداة في يد قوى كبرى، تخلقها حين تشاء وتمدها بأسباب الوجود وتنهيها بانتهاء مهمتها، لا سيما أنه من السهولة بمكان جمع الكثير من راغبي العيش في كنف الدولة الحلم، بمجرد رفع راية الإسلام، ومبايعة “خليفة” ما، بغض النظر عن اسمه، أهو “الملا محمد عمر” أو “الزرقاوي” أو “أبو بكر البغدادي”، ومن ثم قتال كل من يعادي هذه الدولة، وعندما يحين الوقت يتم القضاء عليها وعلى من احتمى بها فيلوذ البعض بالفرار، وإما أن يبدل ثوبه أو يتغلغل في المجتمع المحيط، فيبث بعضاً مما اكتسبه، وقد يعود لبلد منحته جنسيتها وكامل حقوقه كمواطن، وكله قناعة أن من واجبه القضاء على “دار الكفر” هذه أو استخدامها وفق تعبير أحدهم “كمرحاض لقضاء الحاجة”، ولا يتورع عن قتل أهلها حين تأتيه إشارة ما.

والمقزز هنا أن الإسلام أصبح ك “بندقية للإيجار” تسلط عند اللزوم، وثمة مئات آلاف المغفلين المستعدين لحملها، وكلهم قناعة أن ما يفعلونه هو في سبيل مرضاة الله، وأن الجنة بانتظارهم لا محالة، وهم يقدمون نفوسهم في سبيل “الشهادة”، ورغم أنهم في أغلب الأحيان يتحولون إلى مجرمين لكن لا يمكننا إلا الاعتراف أنهم لم يطبقوا سوى ما تعلموه في أمهات الكتب، ولك أن تسأل أي “مسلم” مستهجن لما قامت به داعش أو غيرها، عن أمور كثيرة استندت إليها داعش في تطبيقاتها لتجده متفقاً عليها ولا يمكنه إنكارها، سواء في تصنيفه للناس مؤمنين وكافرين، وبالتالي دخولهم الجنة أم النار، أو معنى الجهاد والقتال والشهادة، أو مفهوم “الخلافة” أو معنى “حكم الله” وغيرها الكثير من الأمور التي ورثناها دون تمحيص واعتبرناها مسلمات لا يمكن النقاش فيها، ولكن بعضنا التزم بها والبعض الآخر تقاعس وترك الالتزام لغيره.

فالإسلام في الثقافة الموروثة “بني على خمس” من لا يتقيد بها يخرج منه، أي أن حديث “عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان” نسف ما جاء في كتاب الله من آيات ك: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33) و {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران 67) و{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (يونس 84) و{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران 52) وغيرها الكثير مما يؤكد أن الإسلام ابتدأ بنوح وتعزز مع الأنبياء والرسل وصولاً إلى محمد الذي ختمه برسالته، بعد أن تطورت القيم الإنسانية على سلم الحضارة، واختصرته الآية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62) وبهذا المعنى تحديداً من يتخذ غير الإسلام ديناً لن يقبل منه، وليس بالمعنى الشائع، فإن شهدت “ألا إله إلا الله” ولم تشهد بأن “محمداً رسول الله” لن تخرج من الإسلام، ما دمت تعمل صالحاً، وإلا كيف سيسلم من في كواكب أخرى {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران 83).

لكن “المسلمين” اليوم يقرأون الفاتحة في صلواتهم وكلهم قناعة أن المغضوب عليهم والضالين هم النصارى واليهود، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث في المصحف عمن وصف بالضال ومن وقع غضب الله عليه، وقد يتعاملون مع جيرانهم من ملل أخرى بكل طيب خاطر، إلا أن معظمهم يعتقد أن عودة مجد “الدولة الإسلامية” تقتضي بأن يكون هؤلاء مواطنين من الدرجة الثانية، وأن يدفعوا الجزية “عن يد وهم صاغرون” وإلا فسيقام عليهم الحد، كما يقام على تارك الصلاة ومرتكب الفاحشة، وأن هؤلاء “مشركون” وجب قتالهم إن دعت الحاجة.

وحلم الدولة الإسلامية الموعودة التي لا بد أن تقام يوماً ما، يراود غالب “المسلمين”، دولة يمتلكون فيها القوة والبأس ويحكمون العالم، كما حدث في قرون ماضية، دولة سينعم الناس فيها بالعدل والمساواة، ويتناسون أن أي من الدولتين الأموية (إن استثنينا عهد عمر بن عبد العزيز) أو العباسية لم تكن دولة حق ولا عدل ولا مساواة، ونجاحها لا لتقوى حكامها وإنما للقوة العسكرية التي امتلكتها، وللتفوق العلمي، أي لا ننكر أنهما طبقتا الآية {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال 60) لا أكثر، لكن لا تمتا لرسالة محمد بصلة، ولا لدولته المدنية المثالية التي أقامها في المدينة، بل استخدمتا الإسلام لتكريس حكم وراثي يستبدل الرأفة والعدل بالظلم والجور، والأنكى من ذلك حرفتاه بما يتلائم مع مصالح الحكام، فيتلهى الناس بالحرام والحلال في ظل طاعة ولي الأمر، وجاء من ثبت هذا التحريف ووقف عنده، حتى وصل إلينا مسخ لا يشبه الأصل، وبدل رسالة الرحمة العالمية وجدنا أنفسنا أمام دين الحرام فيه هو الأساس والحلال محدود، فإن أكلت باليد يسرى ارتكبت ذنب، وإن لم تقرأ ورد الصباح ارتكبت ذنب، وإن استمعت إلى موسيقى ارتكبت ذنب، وإن صافحت زوجة عمك ارتكبت ذنب، وإن أعجبت بتمثال منحوت في الطريق ارتكبت ذنب، فما إن ينتهي نهارك حتى تكون قد جمعت آلاف الذنوب، والأولى بك أن تقنط فلا مكان لك في الجنة، أما النساء “ناقصات العقل والدين” فهن حطب جهنم، سيما “السافرات” اللاتي تمردن على لباس شبه جزيرة العرب في قرنها السابع الميلادي، فلا أمل لديهن بالنجاة، وحجاب المرأة مقياس عفتها وأخلاقها، وبوجود كل هذه المقاييس، إضافة لصراط مستقيم لا يمكنك عبوره حتى لو كنت لاعباً في السيرك، فإنك ستتمنى من يختصر عليك الطريق ويقول لك اقتل “الكافرين” وستذهب إلى الجنة مباشرة ولن تتوانى، ويختلف تعريف “الكافرين” باختلاف المصالح عبر العصور، علماً أن الكفر في كتاب الله هو لسان مقال، يتطلب تحديد ماهية موضوعه، فأن تكفر بالله يعني إعلانك العداء لدينه ومن ثم محاربة هذا الدين، وأن تكفر بالطاغوت يعني إعلانك الإيمان بالله وبكلمته العليا التي سبقت لكل أهل الأرض وهي الحرية {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256).

ولعل من المصطلحات التي شكلت حلماً راود الكثيرين حتى عصرنا مصطلح “الخليفة”، إذ تعتبر دولة الخلافة هدفاً يجب تحقيقه لدى من يسمون “أهل السنة والجماعة” علماً أن لقب الخليفة أطلق للمرة الأولى على أبي بكر الصديق باعتباره أول من خلف الرسول الأعظم، فيما سمي عمر بن الخطاب “أمير المؤمنين” بعد أن ناداه الناس “خليفة خليفة رسول الله” فرآه أمر يطول، لكن لا قدسية لهذا اللقب ولا لمن حملوه، ولا علاقة له بما ورد في الآية {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة 30) حيث استخلف الله الإنسان على الأرض ليعمرها بما آتاه من روح، وكل ما ورد من أحاديث “الخلافة في أمتي ثلاثون سنة – سنن الترمذي” و “لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان – البخاري ومسلم” وكل ما شابهها هي تلفيق وتقوّل على لسان رسول الله للاستيلاء على السلطة عبر العصور، زاد عليه الشيعة اختلاق أحاديث تحصر الإمامة في سلالة الحسين وتمنحهم عصمة ومعجزات، وها نحن اليوم نعاني من الدفاع عن خلافة هنا وثارات هناك، وتقدم الضحايا تحت شعارات خلبية هدفها الحكم وبسط النفوذ لا أكثر ولا أقل، والله ورسوله براء من كل ذلك.

وبعد كل ما ارتكبته داعش وكل الاستنكار لأعمالها هل يمكننا التفاؤل بعدم عودتها مرة أخرى تحت مسمىً آخر؟ أم هو ترف من خيال لا يمكننا أن نطمح له؟ أعتقد أنه طالما لا نملك الجرأة على مراجعة أدبياتنا ونقدها فسنبقى ندور في حلقة مفرغة، تطغى علينا النزعات الطائفية والآبائية، في تقديس أعمى لموروث له ظروفه ومعاييرها، فيما كتاب الله واضح أمامنا، يبين لنا الحق والباطل، يقدم لنا الإسلام من إله رحيم رؤوف حكيم، خلق الناس ليعمروا الأرض وينالوا جزاء أعمالهم بخيرها وشرها في اليوم الآخر، وفق عدالة إلهية مطلقة لا يمكن لمقاييسنا الإنسانية الإحاطة بها، تأخذ تحت ظلها كل أهل الأرض، يؤكدها قوله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر 53).

 

 

‫شاهد أيضًا‬

تيار التجديد وأسئلة المرحلة * بقلم : د. حسن حنفي

  نشأت في العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر ثلاثة تيارات فكرية واختيارات سياسية، م…