خلافاً لما يعتقده كثيرون، خطأ، لم تقترن الشعبوية فقط بالحركات السياسية ذات الطبيعة الإيديولوجية أو العقائدية، كحركات اليسار والحركات القومية والإسلامية، ولم تنحصر في نطاق بيئاتها الفكرية والتنظيمية وحدها من دون سواها من حركات أخرى، يُنظر إليها أيضاً عن خطأ بوصفها حركات «غير إيديولوجية» أو «غير عقائدية»، مثل الحركات السياسية الليبرالية والديمقراطية، بل كانت الأخيرة بيئة مناسبة لإنبات الشعبوية وانتعاشها، وإنْ هي (أي الشعبوية) اكتسبت فيها حلة جديدة مختلفة. وقد يُفيدنا بعض التمعن في مضمون الخطاب السياسي الليبرالي -والديمقراطي استطراداً – في تبيُّن ما كان لهذا الخطاب نفسه من كبير دور في تجديد اندفاعة الشعبوية، وتزويد فاعليتها بطاقة إضافية، ناهيك بإثرائها قاموسها ومفرداتها الدعوية. ولتوسُّل الشعبوية، في الخطابين الليبرالي والديمقراطي، ما يبرره من طبيعة الخطاب عينه وأهدافه وغاياته السياسية.
لن نفتري على الخطابين الليبرالي والديمقراطي كذباً حين نقول إنهما خطابان إيديولوجيان بامتياز، بل باتا اليوم خطابين عقائديين شأنهما، في التشبع بالقيم الإيديولوجية والعقائدية المغلقة، شأن الخطابات السياسية الأخرى. ونحن، في هذا الحكم الذي نصدره، والذي قد يبدو لكثيرين مغالياً، نميّز، تمييزاً قاطعاً، بين التراث الفكري الليبرالي والديمقراطي، المتتالي حلقات منذ نهايات القرن السابع عشر حتى اليوم، والتسخير الإيديولوجي والحزبي للتراث ذاك في المنافسة الاجتماعية من أجل حيازة السلطة. والتمييز عينه أقمناه دائماً، ونقيمه، بين التراث الفكري الإسلامي أو القومي أو الاشتراكي والتسخير الإيديولوجي الحركي للتراثات تلك. وهو تمييز مبناه على الوعي بالفاصل بين مجال المعرفة ومجال الممارسة الذي هو مجال المصالح، كما أنه التمييز الفكري الضروري الذي يمنع من إصدار أحكام قيمة سلبية في حق أي تراث فكري، من التراثات تلك، انطلاقاً من تعبيراته الحركية أو من الأشكال التي يأخذها تسخيره الإيديولوجي في الصراع السياسي، ذلك أنّ نقد المعرفة، وهو نقد مشروع، نقد للمعرفة لا لأنماط استثمارها في السياسة على مثال ما يجري من نقد خاطئ لتراث الإسلام أو للفكر القومي والاشتراكي من وراء نقد «الإسلام الحزبي» والحركات القومية واليسارية.
نقول إن لشعبوية التيارين الليبرالي والديمقراطي أساساً يكمن في منزعهما الإيديولوجي الملازم، حكماً، لكل عمل سياسي. ولما كان مبنى الفكرة الليبرالية السياسية والفكرة الديمقراطية على مقدمة نظرية تقول إن الشعب مصدر السلطة، وإنه يمارسها من خلال ممثليه في المجالس ممّن ينيبهم لذلك بإرادته الحرة المعبَّر عنها في صناديق الاقتراع، ومن خلال مؤسسات الرقابة (الشعبية) التي يُحْدِثها لمزيد إحاطة حقوقه السيادية بالضمانات، تولد من ذلك أن القوى الليبرالية السياسية والديمقراطية، المنتحلة صفة التعبير عن المنظومة الديمقراطية، مَرْكزت سياساتها وخطابها الإيديولوجي والإعلامي على مقولة إرادة الشعب وصوته واختياره كمرجع حاسم في المنافسة السياسية. وهكذا لم تتوقف القوى تلك عن تبجيل فكرة الشعب صاحب الإرادة الحرّة، حتى وهي تعرف أنّ التصويت لم يكن يوماً عملية شفافة نظيفة وناجمة من ضمير صادق، بل كثيراً ما تخلَّلته دوافع أو ضغوط أو إكراهات حرفته عن أن يكون ذلك الفعل الإرادي الحر والواعي كما تصوره المقولة تلك. كما أنها لم تتوقف عن تبجيل صناديق الاقتراع، بل تقديسها أيضاً، مع علمها أنها لم تكن، دائماً، الرّحم التي تولَّدت منها سلطة ديمقراطية.
من مقدّسات هذا الخطاب، ثنائية الأغلبية والأقلية. وهكذا تصبح سلطة ما، عنده، سلطة شرعية وديمقراطية لمجرد أنها منبثقة من غالبية. لا يهم كيف تكونت تلك الأغلبية، بأي آليات وهل اجتمعت -فعلاً- على اقتناع حر بخيار برنامجي ما، وهل كان التصويت على أساس مواطني وعلى أساس ولاء مدني وحزبي أم على أساس مناطقي أو عصبوي، وهل صنع الغالبية تلك مواطنون حقاً أو شركات وقوى مصالح…؟ الأهم، في الخطاب ذاك، أنها تكونت فأزِف تكوُّنُها بميلاد «سلطة تمثيلية».
إن هذه الشعبوية الليبرالية هي التي أنتجت النازية والفاشية،وهي التي أفقرت الحياة السياسية في كثير من مجتمعاتنا العربية التي تعيث فيها النخبُ الليبرالية فساداً، وتصل فيها إلى السّدة -باسم الشعب- فئات طفيلية من قوى النهب! هل كان صدفة أن أفلاطون لم ير، قبل ألفين وأربعمائة عام، في النظام الديمقراطي سوى النظام الديماغوجي، فيما لم يختلف معه في ذلك كثيراً تلميذه أرسطو، نعم، الشعبوية «الديمقراطية»، اليوم، هي أعلى أشكال الشعبوية جميعاً، بل هي جددت كل شعبوية! ألا ترى كيف أصبح الإسلاميون واليساريون، في بلادنا العربية، يتهافتون عليها، وينضمون إلى قوافلها، وهم يقدسون صناديق الاقتراع!.