أحدثت العولمة انقلاباً هائلاً في التوازنات الكونية، بعد أن أمكنَ حركتها الزاحفة كسر حدود الأوطان والدول، واستباحةَ سيادتها الذاتية وبالتالي، فتْحَ داخِلِها على التيارات والمؤثرات والقوانين الوافدة من خارج هو عينُه مركزُ إنتاج العولمة. وما كانتِ الاستجابة تلك فعلاً مادياً، اقتصادياً وتجارياً وتِقانياً وسياسياً، فحسب، وإنما أتت تُفصِح عن نفسها في شكل فعل ثقافي اجتماعي، قِيَمي أيضاً. ومع أن الآثار الثقافية والاجتماعية – القيمية لأي مؤثر (خارجي) ذي مفعول انقلابي، مثل الاستعمار أو الرأسمالية أو الحداثة أو العولمة، عادةً ما تكون بطيئة ودون الآثار المادية كثافة وإيقاعاً، وقد لا يتبيّن مفعولُها قبل ردح من الزمن، إلاّ أنها بدت آثاراً فورية، في سياق العولمة، تُساوِق نظيرتها المادية حتى لا نقول إنها أتت تسبقها في الزمان.
لم تكن الدول الوطنية، والسيادات الوطنية، والاقتصادات الوطنية… قد تعرضت للأضرار الهائلة تحت وطأة زحف العولمة عليها واستباحتها سيادتَها، حتى كانت الثقافات الوطنية ومنظومات القيم في مجتمعات العالم تتعرض، بدورها، للأضرار عينِها وتهتز توازناتها وقدراتها على التماسك الذاتي وعلى إعادة إنتاج نفسها. لقد كفَّ الإطار الوطني عن أن يكون إطاراً مستقلاً ومرجعياً لحقائقه الاجتماعية الداخلية، أو محميًّا بمنظومة قوانينه وتشريعاته وبأحكام القانون الدولي القائم على مبدأ مرجعية السيادة الوطنية، لتُفْتَح في جدرانه الكُوى والثغر، ثم لتتوسع -مع الزمن-وصولاً إلى الإطاحة الكاملة بجدرانه. ولم تكن بلدان الجنوب، الضعيفة في قدراتها، وحدها التي تلقت آثار زحف العولمة تلك، وقدمت الأثمان من سيادتها واستقلالها، كما قد يُظَنّ، بل شاركتها في النتائج السلبية بلدان أخرى تنتمي إلى الميتروبولات الرأسمالية الغربية، مثل بلدان أوروبا الغربية واليابان. غير أن وطأة العولمة عليها بدت أخف مما كانتْهُ على بلدان الجنوب وفي جملتها بلدان الوطن العربي والعالم الإسلامي. أمّا السبب في الفوارق في حدّة الوطأة فمردّه إلى أن بلدان الغرب غير الأمريكي نجحت في توليد ديناميات للمقاومة سمحت لها بالتكيف الإيجابي مع حقائق العولمة.
قبل انبثاق فجر العولمة، لم تكن العلاقة بين الثقافات في العالم منتظمة على مقتضى التكافؤ والتوازن؛ حيث شابتها ظواهر الهيمنة وتولدت منها ثنائيات معيارية مختلّة: ثقافات مسيطرة وأخرى خاضعة، ثقافات زاحفة وأخرى منكمشة ومتشرنقة على الذات أو مستباحة، ثقافات مسكونة بنزعة التفوق وأخرى ترزح تحت وطأة الشعور بالدونية، ثقافات مصابة بداء المركزية الذاتية وأخرى يراد لها أن تستبطن الشعور بالهامشية، ثقافات تدّعي الكونية وأخرى شديدة التمسك بوهم الأصالة… إلخ. وليس مردّ تلك الثنائيات التقاطبية إلى اختلال في التوازن الثقافي، أو في التوازن بين ثقافات قوية ومتقدّمة، تتمتع بتراكمٍ للقيم هائل وأخرى ضعيفة ضعْف البنى الاجتماعية الأخرى في مجتمعاتها، وإنما مردّهُ إلى أن العلاقة بين الثقافات انحكمت بمثل ما انحكمت به المصالح المادية: التنازُع والتنافُس.
أفصحت إرادة الحوار والتبادل الثقافي عن نفسها هنا وهناك، في بلدان الغرب وفي بلدان الجنوب، في سياسات ثقافية عدّة لم يكن بعضها يخلو من أهداف أخرى مضمَرة غير التعاون والحوار. إذا تركنا جانبًا، الأطر والمؤسسات الدولية التي نشأت في حضن منظمة الأمم المتحدة وتعهدت العلاقات الثقافية بين الأمم، مثل «اليونيسكو»، أو التي نشأت في حضن منظمات واتحادات إقليمية -لأنّها أطرٌ ومؤسسات اكتسبت قدراً من الصدقية والنزاهة- سنلقى أن معظم العلاقات الثقافية العالمية جرى بين الدول على نحو ثنائي، وخاصة بين البلدان المتجانسة ثقافياً، المختلفة لغوياً، كبلدان الغرب الأوروبي والأمريكي، أو المتجانسة ثقافياً ولغوياً، كبلدان أمريكا اللاتينية والوطن العربي، أو (بينَ) تلك التي ربطت بينها مواريثُ الحقبة الكولونيالية ومخلّفاتُها أو الاشتراك في اللغة، بين بلدان «العالم الثالث» ، اشتراكًا كليًا (إفريقيا) أو جزئيًا (آسيا والوطن العربي). وكما حصلت وجوه من التعاون في العلاقات الثقافية هذه، سعت بلدان كبرى ذات إمكانات إلى نشر ثقافتها ولسانها في بلدان الجنوب من طريق مراكزها التعليمية و الثقافية واللغوية العاملة فيها والمرتبطة، غالباً، ببعثاتها الديبلوماسية، فضلاً عن اتّساع نطاق سوق الكتب والمنشورات من مجلاّت وصحف التي تَفِدُ من هنا ومن هناك، خاصة من بلدان الغرب إلى بلدان الجنوب. وبقطع النظر عمّا تخلل التبادل الثقافي الثنائي ذاك من أغراض التوسّع والسيطرة باسم التعاوُن والتبادُل إلاّ أن مجرد مرور إرادة السيطرة والتوسع من طريق مبدأ التعاون والتبادل، مع ما يفرضه من احترام لسيادات الدول، وفَّر مساحة دفاعية لحفظ الثقافات الأخرى ذاتيتها الخاصة بمقدار ما وفَّر، في الوقت عينه، فرصاً هائلة للتفاعل مع معطيات الثقافات العالمية وقيمها.
ستتوقف هذه السيرورة مع الانفجار التكويني للعولمة، في امتداد توقف آليات عمل الدول الوطنية والسيادات القومية، وانهيار الحدود والجدران الحمائية. وهكذا بدلاً من أن يبقى قانون التفاعل الثقافي سارياً، ستؤول التوازنات الجديدة إلى حال من الفعل الثقافي الواحدي الصادر من المركز الثقافي العولمي الأقوى (الأمريكي)، والزاحف على الأطراف والهوامش، هذه التي لم تكن في أول أمرها -أعني في مطالع تسعينات القرن العشرين- جنوبيةً أو «عالم ثالثية»، حصراً، بل وأوروبية أيضاً.
بلدان الغرب غير الأمريكي نجحت في توليد ديناميات سمحت لها بالتكيف الإيجابي مع حقائق العولمة.