أولوية العمل على النظر
عن جريدة التجديد العربي
«للنظر الأولوية على العمل»، دعوى تظهر في لحظات تاريخية معينة عندما يستحيل العمل ثم يأتي النظر تعويضاً عن هذا العجز، وتفريغاً للطاقة في ميدان آخر أكثر أمناً. عندما تنسد طرق العمل لا تجد الطاقة أمامها إلا أن تظهر في النظر كطريق فرعي حتى ينزاح السد، وتعود الطاقة إلى مسارها الطبيعي في العالم من خلال الفعل الإنساني.
في الحضارة الإسلامية صحيح أن أول ما نزل من القرآن اقرأ، ولكن القراءة لا تعني التعرف على الخطوط، قراءة المكتوب. فقد كان جبريل يعلم أن الرسول أمي لا يقرأ ولا يكتب. إنما القراءة هي التعرف على أفعال الله في الطبيعة «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق». والعلم فعل التعليم. «اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم». والنظر في القرآن ليس مجرد تأمل ومعرفة نظرية، بل هو إبصار ونظر بالعين. ليس فكراً مجرداً بل هو إعمال للحس، نظر للطبيعة والناس. وهو بداية السلوك والتوجيه في العالم، وليس التأمل النظري الخالص. النظر هو الإبصار، «وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون». والنظر في الطبيعة أيضاً للاعتبار. «أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها»، والنظر إلى الحيوان، «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت»، والله أيضاً ينظر كيف يعمل الناس، «ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون»، فالنظر علم، والله عالم، والإنسان عالم، وهو أيضاً نظر في الآثار كعظة وعبرة، تنظر النفس ماذا قدمت، «أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم». والنظر إلى سنن المجتمع والتاريخ. «فهل ينظرون إلا سنة الأولين».
والقصد هو الاعتبار والعظة، أي دلالة الواقع للاستفادة به في الحياة العملية، وليس تشييد بناء نظري خالص كبديل عن الواقع. المرة الواحدة الذي بها فعل «فكر» يَقرن بالقرار وبالفعل، «إنه فكر وقدر»، والباقي كله «التفكر»، أي التدبر في آيات الله في الكون وهي أغلب الاستعمالات، «إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون». فلا يوجد تفكير نظري، إنما التفكير تفكير في شيء. وقد ورد لفظ «العقل» في القرآن أكثر الاستعمالات في صيغة استفهام استنكاري، أفلا تعقلون، وفي المضارع أكثر من الماضي، كحقيقة ثابتة أبدية وليست كحقيقة زمانية ماضية. وبالإضافة إلى الصيغة الاستفهامية الاستنكارية هناك صيغة التمني، «لعلكم تعقلون»، والصيغة الشرطية، «إنْ كنتم تعقلون». والأهم هو الموضوع الذي يفكر فيه العقل. ويتطلب العقل الفعل وعدم أمر الناس بالبر دون فعل ذلك، «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون». والعقل النظري هو الذي يوجه العقل العملي ويمنع من الضلال، «ولقد أضل منكم جبلًا كثيراً، أفلم تكونوا تعقلون». وهو الذي يمنع من الهلاك يوم القيامة، «وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير».
وإذا صح ما يرويه الصوفية من أن «أول ما خلق الله خلق العقل، فقال له أقبل فأقبل، أدبر فأدبر، وعزتي وجلالي ما خلقت إلىَّ أعز منك» فإن العقل هنا هو العقل العملي، العقل الإرادي الذي يطيع. والفكر تفكر أي فكر منعكس على الذات، تأمل وتدبر، الفكر تفكير في النفس، وهو التفكر، وهو أيضاً تفكر في الطبيعة والكون.
وقد ورد لفظ «عقل» في الحديث بمعناه الاشتقاقي الحسي عقل البعير أي ربطه، فالعقل رباط وعلاقة، وليس عقلًا بلا رباط يهيم في أي واد. هو عقل موجه نحو غاية. وفي غياب العقل يكون البله والجنون والأسر. والصبية والحيوانات لا تعقل، وهو ما اتضح أيضاً في علم أصول الدين عندما جعل المتكلمون موضوع العلم ليس الذات الإلهية، بل الطبيعة والنظر في ظواهرها ومكوناتها وجواهرها، وحركاتها وعللها. وبعد ذلك تأتي الأدلة على وجود الله. وفي أصول الفقه، وبالرغم مما يبدو على الأدلة الشرعية الأربعة، الكتاب، والسُنة والإجماع والقياس من طابع استدلالي، فإن الكتاب نشأ في المكان والزمان، في «أسباب النزول» و«الناسخ المنسوخ». الواقع يسأل والوحي يجيب. والسُنة أيضاً التحقق النموذجي الأول للوحي في الواقع، وللشريعة في المجتمع، وللنبوة في الدولة. والإجماع أمة في التاريخ، وشعوب في الزمان والمكان. لكل إجماعه طبقاً لظروف العصر دون إلزام اللاحق بالسابق. والاجتهاد بالرغم مما يبدو عليه من طابع استدلالي، استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها اليقينية، إلا أنه يقوم على التعليل، تعليل الأفعال ومعرفة مكوناتها وعللها.
وعرض له الحكماء أيضاً في الأخلاق التأملية مثل ابن سينا ومسكويه. وهي في الحقيقة أخلاق نظرية طبقاً لقسمة قوى النفس إلى ثلاث: القوة الشهوية وفضيلتها العفة، والقوة الغضبية وفضيلتها الشجاعة، والقوة العقلية وفضيلتها الحكمة. ومن التوازن بين هذه القوى تنشأ فضيلة رابعة هي العدالة، وأعلاها الحكمة. وبصرف النظر عن مصدر هذه القسمة، أفلاطون أو غيره إلا أنها عرضت على العقل فقبلها، والعقل أساس النقل. وهو القاسم المشترك بين القرآن واليونان، بين الشريعة والحكمة، بين الدين والفلسفة.
وبالرغم من أن المدينة الفاضلة عند الفارابي يتربع على قمتها الملك الفيلسوف والنبي والإمام ويقبع في قاعدتها العمال والفلاحون والصيادون، وما بينهما الجند والعلماء، إلا أن ذلك نوع من تقسيم العمل، والتدرج في السلطة. الكل عمل سواء من يعمل بعقله أو من يعمل بيده.
إن المعرفة الإشراقية عند الحكماء أو النور الذي يقذفه الله تعالى في القلب عند الصوفية ليست معرفة نظرية خالصة، بل هي نتيجة لأعمال القلوب، وتصفية النفس. فالعمل يسبق النظر. وفي العلوم النقلية الخمسة، القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، اثنان منها عمليان، السيرة والفقه، وثلاثة منها نظرية، القرآن والحديث والتفسير. وهي نظرية في الظاهر عملية في الباطن. فالقرآن رسالة عملية للفعل والتحقق وحمل الأمانة وأداء الرسالة. وقد تم جمعه وترتيبه بفعل البشر. والحديث تفصيلات وإيضاحات عملية للقرآن. جمعه الرواة، ومن شروط الرواية تطابق النظر مع العمل عند الراوي. والعلوم العقلية الرياضية والطبيعية الخالصة، تبدو في الظاهر أبنية معرفية، وهي في الأصل علوم عملية، فالحساب إنما نشأ لضبط المواريث، والهندسة لبناء المساجد، والفلك لمعرفة مواقيت الصلاة والحج والاهتداء بالنجوم في الأسفار. ونشأ الطب لمعالجة جرحى الفتوحات، والكيمياء لصناعة الأدوية، والطبيعة لصناعة السلاح.