الحمد لله الذي أعان عبده الفقير لرحمته على قول الحق في وقته
هل سيكون الصيف الحالي الفصل الذي يغيرنا ضمن تغيير المملكة؟
يستطيع الجواب بالايجاب أن يخلق أفق انتظار واسع، يتجاوز استعصاءات سياسية مرحلية رأت النور من ترهل السياسة في زمن قياسي!
هو تغيير في الميدان لا في الميزان..
تغيير في الجذوة وفي الأفق لا في الطبيعة والجوهر الحاصل منذ عمَّق العهد الجديد بيئتنا الاصلاحية .
والذين ينتظرون بأفق متفائل، خطاب العرش لهذه السنة، يتطلعون في عمق الحقيقة إلى إحدى المهام الكبرى التي سيعرضها ملك البلاد على البلاد…
وصلب مهمة الملك محمد السادس، كما تعلمناه من مرافقته الذكية طوال عقدين من الزمن ، هي أن يقود البلاد نحو ملكية جديدة، منسجمة مع تاريخها
و ملائمة لتاريخها..
وملكية أكثر ملاءمة لطبعه الإصلاحي هو شخصيا…
ما يدفع العبد الضعيف لربه لقول هذا هو ما قاله ملك البلاد نفسه في خطاب محاط بنفس الشحنة التاريخية والسياسية التي نتطلع بها إلى 30 يوليوز المجيد..في 2011!
فلا شيء يمد اللحظة الحالية بالقوة أكثر من لحظة قوية نفسها منذ ست سنوات خلت..
مدة كافية لنسترجع، لحظة التأسيس نفسها التي سماها جلالته في خطاب العرش 2011 تجدد التعاقد..
في خطاب العرش لتلك السنة التأسيسة والمفصلية في تاريخ البلاد والنظام والنخب والشعب، ورد ما نبأني بتحول مورفولوجي عميق في الدولة وفي طبيعتها وفي تأسيس شرعيتها..
وقد أسسه – أي التحول – خطاب العرش لتلك السنة على المرتكزات الثلاثة التالية :
« أولا : الالتزام بسمو الدستور روحا ومنطوقا، كنهج قويم ووحيد لتطبيقه. ومن ثم، نعتبر أن أي ممارسة أو تأويل، مناف لجوهره الديمقراطي يعد خرقا مرفوضا مخالفا لإرادتنا، ملكا وشعبا».
« ثانيا : إيجاد مناخ سياسي سليم، جدير بما أفرزه هذا الدستور من مغرب جديد، مفعم بروح الثقة والعمل، والإقدام والتعبئة والأمل، والالتزام بتجسيد جوهره المتقدم على أرض الواقع».
« ثالثا : العمل بروح التوافق الإيجابي، على تفعيل المؤسسات الدستورية، بالاعتماد الجيد للنصوص القانونية، اللازمة والإصلاحات السياسية الهادفة لانبثاق مشهد سياسي ومؤسسي جديد وسليم، جدير بدستورنا المتقدم، وكفيل بعدم إنتاج ما يشوب المشهد الحالي من سلبيات واختلالات».
من حيث المبدأ، لم يعلن أي كيان سياسي أو مدني الخروج عن هذه المرتكزات،…لكن من حق العقل أن يطرح السؤال : أين نحن في الممارسة العملية من تلك المرتكزات وتفعيلها ميدانيا؟..
من عمق خطاب العرش 2011 نسترجع قول ملك البلاد ونمعن النظر في كون التحول الذي يمكنه أن يقلب طبيعة العلاقات بناء على النفس الجديد، هو تغيير التلازم بين المسؤولية والسياسة، من تلازم التوازنات الضيقة والمتكررة مع المسؤولية، إلى التوازنات العميقة كما جاء في خطاب 2011 ، التأسيسي للجدولة الجديدة للسياسة والدولة، حيث قال بالحرف:«إن تلازم المسؤولية بالمحاسبة قد صار قاعدة لها سموها الدستوري، وجزاؤها القانوني، وضوابطها الأخلاقية الملزمة» ..
لهذا لا يمكن لأي كان أن يغفل هذه المقولة المركزية ، في انتظار التحقيق الذي أمر به ملك البلاد، من قوة منبره الدستوري حول الأسباب الكامنة وراء تعطيل مشاريع كان جلالته قد دشنها ، لا سيما في الحسيمة..
من المؤكد، أن القرار المنتظر هو من صلب هذا التلازم، وهو تلازم سيغير من طبيعة السياسة في البلاد إذا كانت نهايته الجزاء المنطقي في حالة الاختلال ، بعيدا عن توازنات النخب، بعيدا عن مآلات الوطن والشعب..
نحن في لحظة، أسس لها خطاب التغيير الكبير، من خلال الإعلان عن نتائج التفتيش/ التحقيق التي دعا اليها ملك البلاد من خلال مؤسسة دستورية هي المجلس الوزاري..
وقد تلاه من بعد تبني رئيس الحكومة للجدولة الزمنية ولضمان التحقيق . ولعل التقدير الزمني سينتهي هذه الأيام لتظهر النتيجة…( انظر البلاغ الصادر عن الديوان الملكي، وإعلان رئيس الحكومة عن المدة الزمنية المعلنة).
النقطة الثانية، التي تسلط الضوء واسعا على الواقع من خلال مضمون سنة 2011 الفبرايرية، هي موضوعة -تيمة- الثقة..
كم مرة ذكر الخطاب إياه مسألة الثقة؟ وكيف أسس لها.؟.
ونحن نذكر هذه القاعدة، لأن المطروح في عمق مشكلة المغرب اليوم، على ضوء ما تعيشه البلاد في ريفها الأبي والجميل، هو موضوع نسميه الوساطة أو تآكل التعابير التنظيمية والمؤسساتية…. إلخ، وهي كلها تنويعات على موضوعة مركزية اسمها الثقة.. في هذا الباب، قال ملك البلاد:«كل تباطؤ من شأنه رهن دينامية الثقة، وهدر ما يتيحه الإصلاح الجديد من فرص التنمية، وتوفير العيش الكريم لشعبنا الأبي ، فضلا عن كون كل تأخير يتنافى مع الطابع المؤقت للأحكام الانتقالية للدستور»
مرفوض…!
توفير العيش الكريم لشعبنا الأبي
كما وردت مقولة الثقة في ثلاث مؤسِّسات مركزية في الخطاب :
-1-على الجميع، كل من موقعه، التعبئة الشاملة، والمشاركة المواطنة والملتزمة، في بناء هذا الصرح الدستوري المتقدم، بروح الثقة والعمل الجماعي
-2- التأهيل العميق والفعلي للمشهد السياسي، واستثمار مناخ الثقة لإعادة الاعتبار للعمل السياسي النبيل في بلادنا
-3- العمل الدؤوب، والاستثمار الأمثل لمناخ الثقة، الذي كرسه الإقرار الشعبي الجماعي للدستور.
هل كانت الممارسات السياسية الميدانية للنخب والمؤسسات أهل لهذه الثقة، هل عرقلتها؟ هل بددتها؟ وما مآلنا في هذه الحالة..
وهي مناسبة لكي نسأل، بناء على خطاب العرش لـدستور 2011، بصفته دستورا متقدما من الجيل الجديد للدساتير، هل تم ما كان يستلزمه بالمقابل، أي تكوين جيل جديد من النخب المؤهلة، المتشبعة بثقافة وأخلاقيات «سياسية جديدة»؟؟؟
نحن ولا شك ، أو في الحكم المنطقي، أمام تعامل على ضوء لحظة مماثلة، وإن كانت أقل توترا وامتدادا من حيث طبيعة المطالب وطبيعة الاتساع الزمني والمكاني للتظاهر وللمطلبية المعبر عنها في لحظة فبراير في 2011..إذ لم يعد سرا، أن جزءا كبيرا من النخبة والمجتمع والرأي العام الوطني والدولي والعواصم ذات الصلة بالبلاد، تنتظر خطاب العرش لهذه السنة.
(*)أولا بناء على تقليد دائم في الملكية، جعل من خطاب العرش «بؤرة» التوقع والحساب والتحليل والتخطيط في الحياة الوطنية، وربما يعود إلى نقطة الميلاد الأولى التي جعلت منه لحظة وطنية كبيرة بنت عليها الامة هوية مناهضة للاستعمار ولحظة لبناء هوية كفاحية يصنعها الشعب والعرش معا..
كما لاعتبار الخطاب أداة من أدوات ممارسة السيادة عند الدولة في شخص رئيسها الأعلى وممثلها..عودنا أن تكون ساعة الخطاب ساعة للحصيلة أو ساعة للكشف عن “حالة الأمة” كما قد يسميها الأمريكيون مثلا ..
(*)ثانيا للطابع التحفيزي، والتجديدي وأيضا البنيوي الذي أصبحت الخطابات الملكية تكتسيه في حياة الأمة المغربية منذ مجيء الملك محمد السادس، طابع لا يخلو من النفس النقدي والواقعي والتشخيصي، من موقع صاحبه الذي متعه التاريخ والسلطة الروحية والدستور بموقع تفوُّق مؤسساتي يستند إلى ريادة دستورية ومؤسساتية مصادق عليها شعبيا عبر الاستفتاء،…وهو خطاب له قاموس خاص، وتوجيه خاص وبرنامج خاص،….
(*)ثالثا ، لأن التفاعل، والتجاوب مع اللحظات السياسية الكبرى، سواء في القضايا الوطنية الداخلية أو تفاعلات القضية الوطنية أو في تحديد آفاق البلاد إقليميا وقاريا، أصبح السمة الرئيسية والتكوينية في خطابات الملك ، ولا سيما خطاب العرش.
ما ميزه في صيف 2011 هو أنه فَلسَف التجاوب الاستباقي في مارس من نفس السنة، وأطره .. ولا شك أننا نذكر أن خطاب التجاوب في مارس، ثم خطاب مفهمته conceptualisation في يوليوز 2011، كان اختيارا عقلانيا ، ميز من بين أطروحات عديدة كانت معروضة على صاحب العرش، اختار فيها التجاوب مع تطلعات شعبه لا مع اهتزاز النخبة (والفاهم يفهم )…
(*)رابعا: عدم تفادي العهد الجديد لأي موضوع يستأثر بالاهتمام، أو إرجاؤه إلى محددات أخرى غير مركزية الملكية في بناء الحلول، في وجود هاجس دائم منذ 2011 هو استحضار الإخراج الدستوري السليم دوما لكل خطوة سياسية.. ولعل قضية العفو كاختصاص ملكي، ثم العدالة واحترام التبرير الدستوري من أهم الامثلة التي يمكن أن نستحضرها في سياق هذا الترقب والاستشراف..
نحن نملك قوة اللحظة من قوة صاحبها، ثم من قوة التقليد الذي جعله ملك البلاد شخصيا سنة سياسية وطنية يستقبلها المغاربة بالترحيب..