لم يكن من مفاعيلِ زَحْف المدنية الأوروبية الحديثة على بلدان الجنوب، منذ نهايات القرن الثامن عشر، الظواهرُ التي عويِنَت طويلاً وأشبِعت درساً، من قبيل تدمير بُنى الاقتصاد والإنتاج التقليدية في البلدان تلك، وتحطيم بُنى السلطة والدولة الموروثة فيها: كلاًّ أو جزءاً، وتوليد طبقات اجتماعية جديدة ومراتبية اجتماعية جديدة، وإدخال مؤسسات وأنظمةٍ وعلاقات في بلدان لم يسبق لمجتمعاتها أن عرفتها، ناهيك عن محو سيادتها واستقلالها وفرْض الوصاية عليها بمسمَّيات لئيمة من نوع «الانتداب» و«الحماية» وما شاكل…، وإنما كان من مفاعيل ذلك، أيضاً، إحداثُ شروخٍ وتصدُّعاتٍ حادّة في النظام الثقافي والقِيَمي للمجتمعات تلك، وإطلاقُ ديناميةٍ صراعية بين القديم والجديد في النظام (الثقافي) ذاك. وليس مقصِد الملاحظةِ هذه إلى القول إنّ هذا الوجه (الثقافي- القِيمي- اللغوي) من مفاعيل زحْف المدنية الأوروبية أُهْمِل بحثُه، أو أُشِيح عنه النظر والانتباه، فلقد دُرِس طويلاً من نخب البلاد التي خضعت للاستعمار، مثلما احتَفَل به الدارسون الأوروبيون (والغربيون عموماً)، وتكوَّن في شأنه رصيدٌ من الكتابات هائلٌ قد لا يقِل، كماً ونوعاً، عن رصيد الكتابات التي رَصدت نتائج العملية الكولونيالية في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولكنّ الذي لم يُسلَّط عليه الضوء، على نحوٍ كافٍ، هو ظاهرة التفاوُت في آثار العملية الكولونيالية تلك في الميادين المادية والثقافية التي أصابها منها تغيير.
وبيانُ التفاوُت ذاك أن فعْل التدمير الكولونيالي للبنى الاقتصادية والسياسية كاد أن يكون شاملاً، وأن يقْلب النُّظم التي استقرت عليها عملية الإنتاج، من جهة، وطريقة تشكيل أدوات السلطة ونُظُم التشريع وإدارة الحكم من جهة أخرى، وآيُ ذلك أن المجتمعات التي وقَع عليها الزحف الأوروبي، وخضعت لاحتلاله عقودًا من الزمان، صَحَتْ على ميلاد نظامٍ اقتصادي وإنتاجي جديد فيها، هو النظام الرأسمالي، وعلى تكوُّن هيكلٍ للدولة والسلطة حديثٍ يشبه، في بعض ملامحه، ما تكوَّن واستتبَّ في البلاد الأوروبية، ولكن من دون أن يصحب ذلك مضمونٌ حديث للنظام السياسي على شاكلة ذاك الذي عليه قوامُ الدولة الوطنية في أوروبا. وكما فرضت الرأسماليةُ الجديدةُ الناشئة توحيداً للسوق، وتعميماً للعلاقة الأجرية في مناشط الإنتاج الأخرى غير الصناعية وبالتالي، مركزةً لعملية الإنتاج على مقتضى العلاقات الرأسمالية، كذلك فرض النظام السياسي الجديد الناشئ توحيداً للسلطات الأهلية المتفرقة في الأطراف في سلطةٍ مركزيةٍ واحدة، وتغليباً للقانون على الأعراف، واحتكاراً متزايداً للعنف، واستيلاءً سياسياً لفئات وطبقات جديدة على سلطة الدولة. ولم تكن الإدارات الاستعمارية، العسكرية والسياسية، قد جَلَت عن البلدان المستعمَرة-وفي جملتها البلاد العربية-حتى كان العمران الاقتصادي والسياسي للبلدان تلك قد تبدَّل عن ذي قبل، ثم تكفّلت حقبة الاستقلال الوطني باستكمال حلقاتٍ أخرى من التغيير ذاك، وبإحكام إخضاع البنى المادية -خاصةً الاقتصادية- لعلاقة الارتباط التبعي لنظام الإنتاج الرأسمالي المسيطر في العالم.
لكنّ البنى الثقافية والقيمية والاجتماعية في بلدان المستعمرات، والبلاد العربية منها، لم تتعرَّض للتقويض الكامل الذي أصاب البُنى المادية، فمع أنّ تصدُّعاً هائلاً أصاب النظام الثقافي -العربي الإسلامي- الموروث، جراء زحف المدنية الأوروبية على البلدان المستعمَرة، وأفقدهُ توازنَه المعتاد وقدرته على تجديد نفسه ضمن منطقِ استمراريةٍ مُرسَلةٍ منسابَة، وعلى الرغم من أنّ الزحف ذاك أفضى إلى اختراق النظام (الثقافي والقيمي) هذا، وأحدثَ فيه قيمًا ومنظوماتٍ من الأفكار جديدةً وغيرَ مسبوقة، وولَّدَ داخلَه تناقضات لا حصر لها بين القديم الموروث والوافد المحْدَث، بل مكَّن لهذا الوافدِ الجديدِ الكثيرَ من أسباب السلطان الثقافي، إلاّ أنّ آثار الزحف الثقافي الأوروبي لم تبلغ مبلغَ التدمير التام للنظام ذاك، على مثال التدمير الذي لحق البُنى المادية، ومن آي ذلك أنّ الفكر التقليدي ومنظومة القيم المحافظة استمرّا يُبديان أشكالاً من المقاومة، مختلفةً ومتفاوتةَ الآثار، لعمليات الاستئصال التي أجرتْها الجراحات السياسية الكولونيالية وسياسات «الدولة الوطنية» الجانحة لخيار التحديث. وإذا كانت البيئة الرئيسية للمقاومة تلك هي المجتمع، في المقام الأوّل، فليس معنى ذلك أن الدولة استثنت نفسها من المشاركة في بعض فصول تلك المقاومة المجتمعية للتحديث الثقافي والاجتماعي، بل إنّ واحدةً من أسباب إخفاقات الدولة في الدفاع عن برنامجها التحديثي في الميادين الاقتصادية والسياسية تشجيعُها للفكر التقليدي والمحافظ، وتعايشُها معه، بل تغذيتُه في نظامها التعليمي الرسمي وفي سياساتها تجاه المسألة الدينية. وما الصعود المدوّي لظواهر الأصولية والتشدُّد الديني إلاّ تمظهراً مادياً- اجتماعياً للإخفاق ذاك، ونتيجةً طبيعيةً لسياسات تغذية التقليد، السياسات التي تدفع ثمنها اليوم- هي والمجتمع معًا- في انفلات العنف من كلّ عِقال، وتهديده الكيان الوطني بزعزعة الأمن والاستقرار والسِّلم!
ويردُّ التفاوُتُ في أثر التدمير في البنية المادية والبنية الثقافية إلى ما تتمتّع به الأخيرة من مِنْعَةٍ ذاتية أعلى من الأولى، وهذا، بدوره، يفسّرُه تفاوُتٌ رديف بين زمنيْن بنيويَّين، ذلك أن الزمن الثقافي غير الزمن المادي في الامتداد والحركة، فإيقاعهُ أبطأ، واستمرارُهُ أطولُ مدى، والتغيُّر فيه يجري بمقدارٍ سريع إنْ كان الأثرُ الواقعُ عليه قويًّا وشديدَ الوطأة. هذا ما يفسّر لماذا اندثرت من العالم أشكال من الإنتاج بدائية، وأنظمةٌ قديمة، وعاداتٌ في المأكل والملبس والتواصل، بينما ظلت أفكارٌ مُغرقةٌ في القِدم، وقيمٌ اجتماعية ترسخت منذ آلاف السنين، مستمرَّةً في الوجود تبْسُط سلطانها على الناس، بل تتجدَّد من طريق استبطان الناس لها ونقْلهم إياها إلى أجيال جديدة بالتربية والتكوين. وعليه، ليستِ الثقافة، بهذا المعنى، مجرَّد تعبير عن العلاقات المادية الموضوعية، وإنما هي- في الوقت عينه- تعبيرٌ عن العلاقة بأزمنةٍ وجدانية أخرى غير الزمن المادي المباشر، أزمنة يكون مفعولُ الرموز فيها، أحيانًا، أشدَّ من مفعول العلاقات المادية.