أعترف بأن هناك استعصاءات في الفهم، لا تسعف العقل السياسي العادي، لكي يفحص بمودة، بعض التطورات التي تحدث في الحقل الوطني..
وأعترف بأن منظومة تفكيرنا، أو لنقل أن «اللوجيسييل» الذي دربنا عليه في المدرسة السياسية الوطنية، قد لا يجد المعادلات الناظمة التي تفسر جزءا مما يقع في وطن يمور بالتحولات في محيط يمور بالتحولات بدوره..
ذلك أن جزءا من الطمأنينة الفكرية والفلسفية السياسية، ينبني على ضرورة أن يمر المجتمع،
وتحولات المجتمع
وتطلعات الجيل الجديد من المجتمع عبر ما رسمناه من جسور
أو من طرق أو رسمناه من مدونات سلوكية.. تحدد من يسير باتجاه التاريخ ومن يتأرجح في مكانه ومن يتراجع لكي يفسخ للماضي شبابا جديدا!
وعند الاستعصاء ، وعندما يفيض المجتمع والشباب عن منظومتنا ، نميل إلى استصغار ما يحدث تارة أو التشكيك في نوايا أصحابه كتمرين على التوتر إزاء حركية تخلخل وجودنا
وتبدو أنها مارقة…
وأنها عصية..
وأنها تشق عصا الطاعة..
خذ عندك الفايسبوك :
كان جزءا من العقل السياسي المؤسساتي، حتى لا نقول عقلنا التقليدي قد قابل فورة المعلومة، أول الأمر بنوع من الاستصغار، ثم الاحتقار بعدها انتقل إلى نوع من التهيب، بعد أن تبين بأن التأثير الحاصل فيها ومن خلالها وبها وصل ما لم يكن متوقعا، وبعد التهيب ومحاولة التفسير جاء الدور إلى التشكيك واعتبارها أداة مخابراتية عالمية، تعوض الأجهزة والماكينات السمعية البصرية،.. كما لو أن العلم مجرد مؤامرة ينتجها العقل الاستخباراتي وليس محصلة تطور البشرية، الذي طالما احتفى به وأعلى من قيمته الفكر التقدمي…
والفعل التقدمي …
والنضال التقدمي..
في مرحلته الأخيرة يتعب العقل المؤسساتي المألوف، فيدعو إلى تبني الفايسبوك، وينتقد من لا يستعمله بطريقة… مألوفة!
إنه يجعل من «توبة» الفايسبوك شرطا لكي ينسى عداءه ، ثم تشكيكه فيه..!!
مجمل الخطاطات لم تستوعب أنه أصبح أكبر من أداة، بل صار طريقة في تقنين المخيال الجماعي بما فيه المخيال الجماعي الاحتجاجي..
ولعل في بعض العداء له، نوعا من الشبهة في محاربة طابعه »الديموقراطي» بلا ضفاف، وتجاوزه للعقل البنائي، الهرمي في تدبير الفعل السياسي والاجتماعي:فكل ما لا يشبه ما اعتدناه يعاني من شبهة شعبوية
لهذا سارعت الدول التي لا تومن إيمانا واسعا بدمقرطة الفعل والتعبير السياسيين إلى منع الفايسبوك
والتضييق عليه…
وترتيب استعمالاته أو مراقبتها…
وهو جحود بالتطور لا يقل عن جحود آخر ، أو لنقل يكمله ويعطي عنه صورة حديثة ومحينة ، إزاء أصل الديموقراطية : الشعب!
**
وفي غمرة التدمير الشامل للقيم الديموقراطية ، يكون تقويض الشعب عبر تقويض أدواته، ومنها صناديق الاقتراع… ولا تنتبه النخب والفئات التي تقوم على تقويض الشعب ، أنها تقوض في حقيقة الأمر فرصتها الوحيدة في صناعة الكاريزما!
فكل النخب التي أسقطت الشعوب من حسابها، لم تفلح يوما في أن تخلق الكاريزما
سواء كانت كاريزما الأشخاص..
أو كاريزما الأفكار..
والشعوب التي تشعر بأنها تعامل على أساس أنها «زائدة وديــموقراطية» لا يمكن الاطمئنان إلى سلامة اختيارها ، ترد بلامبالاة كبيرة
أو بسخرية حادة تشبه قهقهة «نيتشه» وهو يعلن موت الإنسان الصغير..
**
لقد بدأ التطبيع مع تقويض فكرة الشعب، من خلال التشكيك في قدرته الديموقراطية علي حسن الاختيار…
وسلامة حسه في معرفة ما ينفعه
وما ينفع الديموقراطية…
لهذا يتم الحجر عليه:تارة بتقنوقراطية النخب
تارة بالبيروقراطية المسلحة
ومرات بالبيروقراطية الناجعة
وأحيانا بالماركوتينغ السياسي..
غير أن ذلك لا يعطي في النهاية سوى الدليل على أن أصعب شيء هو ضمان السير العادي للديموقراطية، عوض البحث لها عن بدائل ، من داخل التقنوقراط أو من داخل الدولة المغلقة على نخبها وتوزيع أدوارها….
«زيرو» شعب، كما قد يميل إليها الكثيرون عبر تاريخنا الحديث معادلة لن تصيب إلا من يدعو إليها، ويصدق بأنها قادرة على أن تجعل لمن يدعو إليها مكانا مع الدولة أو في الدولة أو بالدولة..!
إنها معادلة لا تقتل سوى أصحابها في النهاية…