عرفت الثقافة السياسية ببلادنا، نتيجة توافقات حزبية بعضها سري وبعضها الآخر علني، تحولا كبيرا تمثل في مد المشهد السياسي بقواعد جديدة ترتكز، ظاهريا على الأقل، على فكرة التناوب على السلطة السياسية استنادا إلى ما تقتضيه الديموقراطية من اللجوء إلى صناديق الاقتراع كحَكم وحيد للفصل بين المصالح والأفكار والبرامج. وهو ما يعني، بعبارة أخرى وبكثير من التفاؤل، انتهاء زمن احتكار السلطة السياسية والاستفراد بالحكم والقبول به باعتباره قدرا أزليا لا يمكن مناقشته. ولقد رافقت هذا التحول سلسلة من الإجراءات السياسية والقانونية بل والاجتماعية أيضا ( من قبيل إلغاء تصويت الرجل نيابة عن زوجته أو أخته)، تسير جميعها في اتجاه تطوير هذا التحول وحمايته من أي انحراف أو تراجع. ومن بين هذه الإجراءات اعتماد اللائحة الواحدة ومنح الأحزاب ألوانا وأشكالا ورموزا يمكن التعامل معها استقبالا على أنها هويات بصرية إضافية ترفق باسم الحزب ورموزه البشرية والجغرافية. وبينما رأى البعض في هذه الرموز، استنادا إلى نظرة سياسية براغماتية تنتصر للمردودية الآنية والمباشرة للفعل السياسي، قفزة نوعية في ممارسة السياسة وتعميم الاختيارات وتسهيل إجراءاتها، يستندون في ذلك إلى ظاهرة تفشي الأمية في البلاد وانعكاساتها السلبية على الوعي السياسي، رأى فيها البعض الآخر، استنادا إلى نفس الظاهرة، انتكاسة حضارية عرت على واقع الجهل والتخلف اللذين لم تكن سنوات الاستقلال التي تقارب الخمسين كافية للقضاء عليهما، فأكثر من نصف سكان البلاد يوجد خارج التاريخ ويجهل الأبجدية الأولى للقراءة والكتابة، ويحتاج إلى رموز محسوسة للتعرف على الأحزاب والتمييز بينها. فمرحلة المكتوب ماتزال، فيما يبدو، بعيدة جدا، وعلى المتأمل في الوضع السياسي الوطني أن يستنتج الخلاصات الضرورية. وليس في نيتنا تأمل هذا المشهد السياسي الجديد للخروج بخلاصات تتعلق بهذه التجربة سلبا أو إيجابا فذاك مستوى آخر من التحليل، فغايتنا في هذا المقال لا تتجاوز حدود دراسة المضامين الممكنة للرموز المعتمدة في التمييز بين الأحزاب السياسية، ومدى قدرتها على التعبير عن الهوية الحضارية والفكرية لكل حزب على حدة. واستنادا إلى الإحالات الدلالية المتنوعة، وهي دلالات رمزية في المقام الأول، تندرج كل التساؤلات حول وضع هذه الهويات البصرية ذاتها، وهي تساؤلات لا علاقة لها بالمظهر التمييزي المباشر لهذه الأدوات، فتلك حكاية أخرى، بل تهتم بتحديد المضامين غير المرئية من خلال الوجه المباشر للأداة الرامزة ( فالرمز لا يستقيم وجوده إلا إذا كان إحالة مكثفة على مضامين لا تدركها العين المجردة )، وهو ما يعني، بعبارة أخرى البحث عن مجمل العناصر الثقافية/الحضارية التي تخبؤها التجربة الإنسانية في أشياء الكون وكائناته. ذلك أننا نفترض- وهو افتراض في حاجة إلى تأكيد- أن الهوية السياسية للحزب لا يمكن فصلها عن هوية معرفية وفكرية وحضارية منها يستمد الحزب تصوره لقضايا المجتمع المتنوعة، وإليها يستند من أجل قراءة الواقع وصياغة برامجه وتصريفها في أفعال سياسية مشخصة. وفي غياب هذه الهوية، فإن الحزب سيتحول إلى متجر توزع فيه بضاعة مغشوشة شبيهة بكل المواد المهربة التي لا يمكن تحديد تاريخ إنتاجها ولا مدة صلاحيتها. تأسيسا على هذا الأمر، فإن الخطوة الأساس في تناول هذه الهويات البصرية الجديدة يفترض التعاطي مع الرمز( ومع كل الدلالات الإيحائية التي تثيرها وضعية ما أو يشير إليها كيان ما ) باعتباره تنظيما جديدا لوحدات دلالية إضافية “سرية” لا تسلم نفسها إلا من خلال النقش في ذاكرة الرمز واستحضار أبعاده الثقافية المحلية أو الكونية. وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا من خلال استثارة القوة الدلالية من مكمنها، حيث ترقد رواسب التاريخ والأسطورة والدين وما يعود إلى الحكايات التي تروي، بطريقتها الخاصة، رحلة الكائن البشري على الأرض منذ أن تملكته الرغبة في التخلص من مملكة الحيوان ليستوي كائنا له مساره التاريخي الخاص. فنحن في جميع الحالات، لا يمكن أن نفصل بين الرمز وبين شيوعه بين الناس ونظرتهم إليه بهذه الصفة. ذلك أن الصيغ التعبيرية الرمزية لا يمكن أن تكون شيئا سابقا في الوجود على تداول الناس لها واستعمالها باعتبارها كذلك في وقائعهم الإبلاغية المتنوعة. فالرمز جزء من وجودنا اليومي، بل هو أساس إدراك عالمنا الخارجي وأساس تصوراتنا حوله. ويكفي أن نذكر، في هذا المجال، أن اللغة، باعتبارا تمثيلا رمزيا للكون، لا يجب النظر إليها باعتبارها بديلا للوقائع التي تقوم مقامها فحسب، بل تعتبر الكوة التي من خلالها نمسك بالأشياء والكائنات وكل ما يؤثث الكون ويمنحه وجها إنسانيا. والثقافة ليست في نهاية الأمر سوى سلسلة من الأنساق الرمزية كما يقول شتراوس. وهذا أمر بالغ الأهمية، فالرمز له طابع تعبيري خاص، فهو يختلف عن وحدات اللسان التي تفترض، كشرط أساس، معرفة السنن اللساني الذي تنتمي إليه هذه الوحدات بمعانيها الصريحة أو الضمنية. إن الرمز يحتاج إلى معرفة إضافية مصدرها التاريخ والأسطورة والحكايات والإسقاطات النفسية، الواعية منها وغير الواعية. ومن هذه العناصر يستمد طاقته التعبيرية، فهو ” يمتلك خاصية استثنائية تجعله قادرا على تكثيف كل تأثيرات الشعور واللاشعور، وكذا القوى الغريزية والروحية، المتصارعة أو الميالة إلى الانسجام داخل كل كائن بشري في شكل تعبيري محسوس”(1). وليس غريبا أن تؤول الأساطير والخرافات وحكايات الوعظ الديني باعتبارها كيانات رمزية تكثف داخل مضمون قصصي واحد سلسلة من المواقف والعلاقات الإنسانية النمطية. (2) استنادا إلى هذا التصور، فإن كل شيء يمكن أن يصبح رمزا لحالة إنسانية وفق شروط ثقافية بعينها، شريطة أن نكون على بينة من الروابط الدلالية التي تبيح لنا الانتقال من الدلالة التعيينية المباشرة إلى الوجوه الإيحائية الممكنة، أي الدلالات الجديدة التي تضيفها الممارسة الإنسانية إلى هذا الموضوع أو ذاك. ولهذا السبب تختلف بعض الكيانات الدالة على حالات اليأس أو حالات التشاؤم أو التفاؤل أو الحداد، عن الإحالات الدلالية الإيحائية المبثوثة في الوحدات اللسانية، أو تلك التي تثيرها بعض أدوات الاستعمال اليومي كما هو الشأن مع “البراد” أو “السيارة” أو “السنبلة”، وكل الموضوعات التي استعملتها بعض الأحزاب السياسية في الحملة الانتخابية الأخيرة. وهذه الكيانات هي التي استعملتها بعض الأحزاب السياسية رموزا لها. لقد تعاملت مع مجموعة من الأدوات التي تنتمي إلى اليومي باعتبارها أدوات تمييزية لا باعتبارها رمزا يلخص فلسفة الحزب وتوجهاته السياسية الكبرى. فمضامين تلك الكيانات لا يربطها أي رابط مع ما تدعو إليه تلك الأحزاب صراحة أو ضمنا. وهذا ما سنعود إليه لاحقا، فهو ما يشكل جوهر دراستنا. فالمقام التحليلي الحالي لا يستدعي دراسة كل رمز على حدة واستخراج دلالاته الممكنة، فذاك أمر لا طائل من ورائه ولن يساعدنا على فهم هوية الحزب من خلال هوياته المعرفية والاسمية والبصرية. فاختيار كهذا سينتج عنه حالة تتساوى فيها كل الأحزاب ما دام كل رمز يحمل في ذاته سلسلة من الدلالات. وهذا أمر بالغ الأهمية، فالأشياء ذات الأبعاد الرمزية تخضع، لكي تصبح حاملة لبعد دلالي رمزي، إلى سيرورة طويلة عادة ما يكون الانتقال داخلها من حالة الاستعمال إلى حالات التدليل الرمزي الإضافي انتقالا معقدا، ويستدعي استحضار ذاكرة موغلة في القدم قد تكون مضامينها تاريخية أو دينية أو أسطورية أو خرافية. فالأمر يتعلق بالانتقال من حالات التشخيص المحدود في الزمان والمكان إلى حالات التجريد المعمم الذي يضاهي الزمن في سرمديته. فمصدر” القيمة الرمزية لا يستمد من الإتقان الخارجي للرمز، بل مثواه الاستعداد الداخلي للمتفرج على إيداع قناعاته وإيمانه بموضوع يضعه للتأمل”.(3) وهذه السيرورة الطويلة والبطيئة هي التي قادت البشرية إلى بلورة بنيات مخيالية كونية. وضمن هذه البنيات تندرج مجموعة من عناصرالطبيعة والكائنات الحية، وهي العناصر التي يجب التعامل معها باعتبارها رموزا لها دلالات تكاد تكون واحدة في جميع الثقافات. ومع ذلك، فإن عمومية هذه البنيات لا تلغي خصوصية الإحالات الثقافية المحلية، فالواقع المخصوص قد يحتفظ من الكوني بنواة عامة مشتركة، إلا أنه يغذيها بدلالات أخرى تستمد مضمونها من المعيش اليومي الخاص بهذه المجموعة البشرية دون تلك. وعلى هذا الإساس، فإن ” الثيمات المخيالية التي تشكل هيكل أو صورة الرمز ( الأسد، الثور، القمر الخ …) قد تكون كونية وقد تكون لازمنية ومتجذرة في المخيال الإنساني، إلا أن دلالاتها تختلف باختلاف ثقافة الأفراد والمجتمعات، وطبيعة وضعياتهم في لحظة تاريخية معينة. ولهذا فإن تأويل الرمز (…) يجب أن يستند إلى حركيته الخاصة، كما يستند إلى الوسط الثقافي الذي أنتجه ويستدعي تحديد دوره في زمان ومكان معينين “. (4) وهو ما ينطبق على رمزية الألوان مثلا، فعلى الرغم من وجود دلالات خاصة بالألوان تكاد تكون كونية، ” فإن الخطاب الوحيد الممكن حول الألوان هو خطاب أنتروبولوجي “، (5)، أي يستند إلى العناصر الثقافية من أجل منح هذا اللون أو ذاك دلالات معينة. إن الرمز من هذه الزاوية يعبر عن ميل الإنسان الشديد إلى إيداع حقائق أو أحكام مجردة في كيانات مجسدة من خلال أشياء أو سلوكات محسوسة. وضمن هذا ” الشعور الإنساني العام” تندرج كل الرموز الأنتروبولوجية الكبرى التي ضمنتها الإنسانية، أثناء رحلتها التاريخية الطويلة، سلسلة من القيم الدلالية، وتدخل في هذا الباب كيانات كثيرة منها الصليب والهلال والذهب والنار والماء والسماء، وكذلك الخطوط والأشكال الهندسية الكونية كالعمودي والأفقي والمائل والمربع والمثلث والدائرة. وهذا ما يحدد للرمز وضعية خاصة، فهو يشير إلى مرحلة كانت النظرة التناظرية إلى الكون السابقة على الفكر العلمي هي أساس كل معارفنا ( 6). فالفكر التناظري هو الذي يفسر وجود هذا السيل من التقابلات بين كيانات محسوسة وأخرى مغرقة في التجريد. فما يستعصي على الضبط من خلال قواعد العلم وفرضياته الصريحة، يعوض بكيانات ترصد المفهومي المجرد من خلال الواقعة المحسوسة. فالتشابه بين الأسد والشجاعة وبين الدهاء والثعلب، وبين الصليب والمسيحية لا يمكن الحصول عليه من خلال برهنة علمية، بل هو تشابه مفترض يقود إلى ربط سلوك ممكن للأسد وبين صورة مثلى للشجاعة، وكذلك الأمر مع الثعلب وذكائه المزعوم، وحكاية صلب السيد المسيح. (7) وفي جميع هذه الحالات، فإن العبور من المجرد إلى المحسوس لا يتحقق إلا من خلال تكثيف سلسلة من القيم الدلالية وإيداعها داخل كيانات سينظر إليها لاحقا باعتبارها الوجه الدال على قيم بعينها. استنادا إلى هذه التمييزات الأساسية يمكن الإمساك بإواليات التدليل داخل العلامة الرمزية. فمضمون الرمز، على خلاف ما توحي به تلك الكيانات البسيطة، يشير، من خلال سيرورة مركبة في التكوين والاشتغال، إلى الدلالات التي يمكن أن تتسرب في غفلة منا إلى الكلمات والأشياء والطقوس والحركات. إنه فعل يمنح الأشياء أبعادا تخرجها من دائرة الوظيفية والاستعمال العادي لتدرجها ضمن سيرورة تدليلية جديدة تحولها إلى رموز دالة على حالات حضارية غالبا ما تتجاوز السقف الثقافي المحلي، لتصبح دالة على حالات إنسانية كونية كما سبقت الإشارة إلى ذلك أعلاه. ووفق منطق سيرورة التجريد والتقطيع المفهومي الرمزي المرتبط أصلا بالحضور الإنساني داخل الكون وطريقة تمثله للعالم الخارجي، فإن كل العناصر التي تؤثث عالم الإنسان تتحول، بهذا الشكل أو ذاك، إلى بؤرة لإنتاج دلالات لها علاقة بتنوع أبعاد السلوك الإنساني ذاته، دون أن يجعل منها، مع ذلك، رموزا بالمعنى الأصيل لكلمة رمز، لا لأن البراد ( إبريق الشاي) مثلا شيء لا يمكن أن يكون رمزا، بل لأن الرابط الدلالي المفترض بين البراد ومجموع القيم الحزبية، رابط واه جدا وضحل وسطحي. وهذا ما يتجلى في الخطاب السياسي اللفظي ذاته. فقد كانت اللغة السياسية التي تتحدث عن الرمز هي الأخرى بئيسة وضحلة وموغلة في الركاكة. فأغلبية المترددين على الشاشة الصغيرة كانوا يكتفون بالدعوة إلى التصويت على الرمز الفلاني، دون الحديث عن جوهره أو قيمته الدلالية الممكنة أو المفترضة من خلال السياق الثقافي الذي يتحرك داخله الحزب. ولهذا السبب لا يمكن ” للبراد ” أن يكون رمزا يشتغل وفق الميكانيزمات التي يشترطها الرمز بإحالاته الدلالية المتنوعة، فهذا “البراد ” محدود في الزمان وفي المكان، والقيم الدلالية الإيحائية التي يشير إليها ضعيفة جدا، فهو لا يمكن أن يتجاوز الإشارة إلى أداة تستعمل في تحضير الشاي أو إثارة حالة حياتية تشير إلى المشروب المفضل عند مجموعة بشرية ما. وهذا ما يصدق على مجموعة أخرى من ” المميزات الحزبية ” ( logo) كـ” الشقة” و”الباب” و”الخنجر” و”المفتاح” الخ. وأنا أشدد هنا على صفة المميز، فالغاية الاستعمالية من هذه الكيانات هي التمييز البصري، لا الإيحاء بمضمون دلالي ما. فهل يمكن اعتبار ” الكيانات ” التي اختارتها الأحزاب السياسية رموزا لها موقع في الذاكرة الحضارية للأمة، أو في الذاكرة الإنسانية كلها ؟ أم يجب التعامل معها باعتبارها كيانات مميزة شبيهة بكل المميزات التجارية التي تعتمدها المؤسسات الاقتصادية الكبرى ( الأبناك والشركات الكبرى كاتصالات المغرب أو ميديتيل ) كرافد تمييزي بصري يدعم الهوية الاسمية ويقويها ؟ هذا أمرفي حاجة إلى تمحيص، ولا يبدو أن الغاية الرمزية كانت هي المحفز الأول لاختيار هذه الكيانات. فباستثناء بعض الرموز الصريحة ذات البعد الكوني الحضاري كـ “الوردة” و”الميزان” و”المصباح” و”الشموع” و”الكتاب” و” راحة اليد”، فإن مجمل الأدوات التي استعملتها الأحزاب السياسية هي من صلب اليومي المباشر. فهي على الرغم من امتلاكها لبعض الإحالات الدلالية الإضافية، فإنها لا ترقى إلى امتلاك وضع الرمز، وليست قادرة على إضافة رافد فكري، أو الكشف عن رؤية جديدة تحيل على أبعاد حضارية مضافة. بل حدث أكثر من ذلك، فقد أفرغت بعض الكيانات من عمقها الرمزي البالغ الغنى لتتحول إلى رسم للتعرف أو ” فتيشة” دالة على هوية بصرية بدون أية إحالة إضافية. فما الذي يجمع مثلا بين الأسد باعتباره صورة رمزية كونية دالة على عالم الغابة والطبيعة والشجاعة الفردية المنفلتة من كل القوانين، وهي صورة رمزية صُدرت إلى كل الثقافات الإنسانية تقريبا حتى تلك التي لا تمدها تربتها الثقافية المحلة بصورة فعلية للأسد، وبين حزب ليبرالي يدعو إلى الحداثة القيمية واقتصاد السوق ؟ اللهم إلا إذا كانت الإحالة هنا تشير إلى الرابط الموجود حقا بين قيم ليبرالية متوحشة لا تعترف سوى بالربح السريع، وبين سلوك وحشي مفترض للأسد. وفي هذه الحالة فإن السحر ينقلب على الساحر، وحينها تتحول الأدوات الرمزية إلى إدانة مسبقة للحزب وقيمه حتى قبل أن يتولى إدراة شؤون البلاد. وما يدعم فرضيتنا التحليلية هذه أن أغلبية الأحزاب تحاشت اختيار الكيانات المجردة ( الألوان والخطوط والأشكال الهندسية المعزولة ) فكل الرموز هي من طبيعة محسوسة، تستعير من اليومي والمباشر دلالاتها البسيطة. حتى وإن كنا نسجل وجود تفاوت في المحسوسية، ( فمحسوسية الشمعة أوالوردة ليست هي محسوسية البراد أو المنبه أو السيارة ) ويعكس هذا الاختيار الحالة الحضارية التي تعيشها أغلبية الشعب المغربي، وهو ما أشرنا إليه في بداية هذا لمقال حول تقويم تجربة استعمال الرموز في الحملة الانتخابية. استنادا إلى هذه الملاحظة، يمكن القول إن مجموعة كبيرة من الكيانات التي اختارتها بعض الأحزاب ترتكز على تصور يتوهم وجود تناظر مباشر بين موضوع ينتمي إلى المحيط المألوف لدى الإنسان وبين الانفعالات التي يثيرها وجود هذا الموضوع ضمن وضعية إنسانية يمكن التعرف عليها بسهولة. واستنادا إلى هذا التناظر الصريح يمكن أن تتبلور مجموعة من الترابطات الدلالية البسيطة كتلك التي تربط بين ” البراد” ( إبريق الشاي) وبين طقس من طقوس الحياة اليومية للشعب المغربي، أو كتلك التي تجمع بين ” المنبه” وبين مفهوم الزمن كحافز على الالتحاق بركب التقدم عبر إشاعة قيم الديموقراطية في البلاد، أو تلك الروابط التي تختصر إحالات الفرس الرمزية ( وهي إحالات متنوعة وبالغة الغنى) في قيمة واحدة هي القيمة التي تنتصر للقبلي والمحلي على حساب الحس الحداثي الذي قد يستوعب الفرس بدلالاته الرمزية ضمن قالب حضاري جديد. ( رمزية الفرس والدائرة مثلا في المميز التجاري للبنك الشعبي). (8) فما علاقة السيارة مثلا باعتبارها رمزا مفترضا لحداثة ترتكز على فكرة السرعة والتقنية المتجددة، وبين التسمية الحزبية “العهد” التي تشير إلى انتكاسة ماضوية تحيل على الروابط القائمة على الضمير الفردي أو القبلي ضدا على القوانين الوضعية المؤسسة لديموقراطية حداثية؟ وما علاقة الجمل الجاثم بحزب الشورى والاستقلال أو علاقة النحلة، رمز الجد والتنظيم بحزب الوسط الاجتماعي، الذي لا يعرفه في المغرب سوى مؤسسيه؟ وما علاقة النخلة مثلا بحزب مغمور لا هوية له ولا إيديولوجيا ولا تاريخ ولا سند طبقيا، وعرف في الأدبيات السياسية المغربية بارتباطه الصريح بوزارة الداخلية ودسائسها التي لا تنتهي؟. وما علاقة الحمامة أيضا بالتجمع الوطني للأحرار؟ فما عدا فكرة الحرية التي تستعيد صفة الأحرار، فإن رمزية الحمامة لا تضيف شيئا إلى المضمون الفكري اللبرالي للحزب. فالسلام والبساطة والخفة والأمل والسعادة، وهي كلها صفات مستمدة من جمال هذا الطائر، مضامين غريبة عن هذا الحزب ولا موقع لها في أدبياته وبرامجه. صحيح قد نعثر على بعض الكيانات التي لها رابط رمزي مباشر مع اسم الحزب وتصوراته ( أو تلك التي يصرح بها على الأقل) من قبيل اختيار الغزالة للتعبير عن الارتباط بالبيئة والدعوة إلى الحفاظ عليها. فالغزالة في جميع السياقات ( نستثني بطبيعة الحال السياق الذي تدل فيه الغزالة على المرأة الجميلة) هي إحالة على حياة الحرية والبراري والهواء النقي بعيدا عن قيم الإسمنت والفضاءات المحدودة حيث يسود التلوث بكل أنواعة البصرية والسمعية والذوقية. إلا أن هذه الإحالة ذاتها محدودة، وتفتقر إلى بعد تجريدي يجعل “عشق البيئة” فلسفة حياتية قبل أن يكون موقفا سياسيا نفعيا مرتبطا باستحقاقات انتخابية محدودة في الزمان وفي المكان. فمفهوم العودة إلى الطبيعة ذاته لا يعبر عن انتكاسة حضارية تتملص من مكتسبات التقدم ومزاياه. إنه، على العكس من ذلك، فلسفة تقدمية تقاوم كل محاولات تقزيم الإنسان وتشييئه والحط من قيمه الجمالية الأصيلة ممثلة في الطبيعة. ولذلك، فإن أغلب الذين أسسوا لتيار” الخضر ” في الغرب ينحدرون من أصول يسارية، بل منهم من كان ينتمي إلى جماعات يسارية متطرفة كما هو الحال مع كوهن بنديت ورفاقه في ألمانيا مثلا. ولهذا السبب، فإن هذا التناظر مكشوف للعيان منذ الوهلة الأولى، فهو معطى من خلال هذه العلاقة ذاتها. وبعبارة أخرى، إن القيمة الرمزية مرئية من خلال عملية الربط المباشر بين الكيان الرامز وما يحيل عليه بشكل مباشر. فـ “ البراد” لا يمكن أن يحيل على أي شيء آخر سوى كونه يذكر بطقس من طقوس الحياة اليومية. ولهذا فإن التصريح بأن البراد دال على ” العمق الشعبي” هو من باب ” اللغو الديماغوجي” الذي تغذيه الأمية السياسية ويبرره غياب أي سند إيديولوجي/فكري حزبي صريح. ويندرج ضمن هذا أيضا ما قيل في صحيفة أسبوعية إن اختيار غصن الزيتون رمزا لحزب جبهة القوى الاشتراكية يعود إلى أن التهامي الخياري صاحب هذا الحزب ينتمي إلى منطقة تكثر فيها أشجارالزيتون ( فهل كان من الضروري أن أعرف موطن الخياري لكي أؤول هذا الرمز؟ وهل يعقل أن ترتبط رمزية حزب بالانتماء الجغرافي لشخص بعينه؟ )، تماما كما هو القول بأن السنبلة دالة على ” الخبز ” كما جاء على لسان أحرضان صاحب حزب ” الحركة الوطنية الشعبية”، وهو يحاول إقناع الناس بأن السنبلة هي رمز الحزب وشعاره البصري. والحال أن الأمر ليس كذلك، فلو كانت السنبلة دالة على الخبز فقط لسقطت قيمتها الرمزية من تلقاء ذاتها. فالسنبلة لا يمكن أن تصبح رمزا إلا إذا جعلت من نواتها الدلالية ( معناها المباشر الدال فعلا على مادة يصنع منها الخبز ) ممرا نحو تحديد عوالم دلالية تتخذ من مفهوم الخصوبة بؤرة تلتف حولها كل الطقوس التي يحيل عليها هذا المفهوم ( في أمريكا الجنوبية هناك شعوب لا يقتربون من الأرض في فصل الربيع لأنها تكون حبلى). ولهذا تعتبر تأويلات من هذا القبيل تأويلات ساذجة وتبسيطية تفتقر إلى حس تحليلي عميق قادر على الإمساك بالطاقات التعبيرية والتمثيلية للرمز. وهي نفس الخلاصة التي يمكن صياغتها بخصوص “العين” و“المفتاح” و“النحلة” و”النخلة” الخ. فلا يمكن أن ننكر القيمة الرمزية لهذه الكيانات، وهي قيمة حقيقية كونية تشير إلى الكثير من السياقات الإنسانية الموغلة في القدم، إلا أنها لا يمكن أن تحيل، في سياقنا المخصوص، على أية قيمة حضارية لها علاقة بالحزب الذي هي رمز بصري له. فرمزية العين مثلا أكبر من أن تحصى، وطاقتها التعبيرية أوسع من فكرة “المراقبة السياسية” أو “العين الساهرة” على مصالح المواطنين كما قد يتبادر ذلك إلى ذهن الرائي. فالعين قد تكون أيضا بؤرة لإيحاءات سلبية من قبيل الإحالة على فكرة التطير والخوف من شر العين الحاسدة، كما تحيل على الوشاية والتجسس ( عيون السلطة). تماما كما هو الشأن مع شعار “راحة اليد “ المرفوعة إلى أعلى الذي اختاره الحزب الاشتراكي الديموقراطي. فليس من السهل تعداد كل الدلالات الرمزية الخاصة باليد، فهي عضو الحركة والنشاطات المتنوعة، وهي بوابة العين ومدخلها الرئيس، وهي بؤرة الانفعالات الإنسانية المتنوعة. فمن خلال الصورة اللفظية لليد تنساب سلسلة من الحقول الدلالية المرتبطة بالاستعمالات الاستعارية لليد. فهي ” رمز الامتلاك ( ” وضع يده على “، ” في يده” ، ” بين يديه”..) والامتلاك في كل السياقات الثقافية مرادف للقوة والسلطة “.(9) واستنادا إلى هذه الحقول يمكن تصور مجموعة لاتعد ولا تحصى من السياقات تشتغل داخلها اليد باعتبارها من أكثر الأعضاء قدرة على إنتاج الدلالات الرمزية. إلا أن اليد من خلال الوجود الإيمائي تحتاج إلى استحضار سجل تعبيري آخر، تكون فيه رمزية اليد مرتبطة بنوعية الملفوظ الإيمائي الذي تقوم بتشكيله، وهو ملفوظ يتغير بتغير أوضاع اليد ونوعية الإيماءات التي تنتجها. ولهذا فإن البحث عن رمزية اليد يمر عبر تحديد أوضاعها المتعددة. فاليد المبسوطة ليست هي اليد المرفوعة إلى أعلى، واليد المضمومة ليست هي اليد المفتوحة، والمفتوحة إلى أسفل ليست هي المفتوحة إلى أعلى الخ. ولقد تصور الذين اختاروا هذا الرمز إمكان إبلاغ مضمون سياسي يتحدد في النقاء والطهارة السياسة : ” الأيدي النظيفة ” من خلال التعبير عن ذلك باليد. ولست أدري كيف غاب عن مهندسي سياسة الحزب ومنظريه أن اليد المرفوعة إلى أعلى على شكل قسم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحيل على هذا المضمون. فاليد في وضعها هذا تحيل على إنهاء حركة أوالإدلاء بشهادة، أو هي الإحالة على شعور بالخوف، وبطبيعة الحال لا نستبعد دلالاتها في الفكر الشعبي التبسيطي الخرافي الذي يرى في اليد المرفوعة إلى أعلى والراحة موجهة إلى الأمام تعبيرا عن التطير واتقاء لشر العين الحاسدة، بل قد تكون اليد المرفوعة إلى أعلى تعبيرا عن موقف المطيع الخاضع. ولا أعتقد أن هذه المضامين تدخل ضمن سجل حزب قال إنه يبشر بثقافة سياسية جديدة. والخلاصة أن هذه الكيانات مجتمعة لا تقود المتأمل فيها إلى إثبات وجود رابط بينها وبين الأسس السياسية والفكرية التي قامت عليها هذه الأحزاب. ولهذا سيكون من العبث البحث عن رابط فكري عميق يجمع بينها وبين هذه الرموز. وإذا نحن حاولنا فعل ذلك، فإننا سنكون كمن ينحت في ذاكرة الرمز ككيان معزول لتحديد كامل دلالاته، وليس البحث عن الرابط الممكن بينه وبين واقعة مخصوصة. والحال، كما سبق أن أكدنا ذلك أعلاه، أن المعنى الكلي للرمز لا يجب أن ينسينا الرابط المخصوص الذي يجمع الرامز بما يرمز إليه ضمن سياق محدد. ويمكن أن نحيل في هذا السياق أيضا على مجموعة أخرى من الكيانات البصرية التمييزية ك” المنبه” و“السيارة” و“الشقة” و“الباب المشرع” و” السفينة”وغيرها. فهذه الكيانات تمتلك، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، بعدا تناظريا مباشرا لا يقوم سوى بتنشيط ذاكرة دلالية مألوفة وسهلة الإدراك دون أن تكون لها القدرة على الإمساك بحالات حضارية تلخص نمط الوجود الثقافي للشعب المغربي أو الإنسانية جمعاء. ولهذا نستبعد جدا أن يكون الذين اختاروا هذه الكيانات على بينة من حمولتها الرمزية وممكناتها التعبيرية والتعبوية والتحريضية. فهذا الاختيار لا يستند إلى فهم فلسفي للرمز، ولا يكترث للممكنات الحضارية والثقافية التي يتوفر عليها، بل يقف عند حدود مد المواطن بأداة ( رسم أو لون أو شيء من أشياء الحياة ) يمكنه من التمييز بين هذا الحزب أو ذاك، من خلال إثارة حالة حياتية مألوفة لدى ” الشخص الذي يدلي بصوته في الانتخابات”. وهذا ما لا يصدق على رموز أخرى تندرج ضمن نفس السجل السياسي الانتخابي. فلا يمكن أن ننكر وجود روابط حقيقية بين “الشمعة” و“الوردة” و“المصباح” و“الكتاب” و“الميزان” وبين الأحزاب التي اختارت هذه الأدوات هوية بصرية وإعلانا عن مبادئ وتصريفا للفعل السياسي. فاختيار هذه الأحزاب لرمز يلخص فلسفته وتوجهه وارتباطاته الإيديولوجية أو الدينية أو الأممية مرتبط بقدرة هذا الرمز على إثارة عوالم دلالية تدعم فلسفة الحزب وتكشف عن بعض امتداداتها التي لا ترى من خلال الهوية الاسمية. وسنتوقف قليلا عند هذه الرموز، محاولين الكشف عن بعض دلالاتها الإيحائية دون ادعاء القدرة على الإحاطة الشمولية بكل دلالات هذه الرموز، فتلك مسألة مستحيلة لسببين : أولا لأن الرمز قابل للتكيف مع أوضاع إنسانية بالغة التنوع، تقود إلى تنويع دلالاته، وثانيا لأن ربط الرمز باسم الحزب معناه تحديد نقطة إرساء هي التي ستتحكم في توجيه تأويلاته من خلال انتقاء دلالات واستبعاد أخرى. ولقد كانت الشمعة، وهي الرمز الذي اختاره ” اليسار الاشتراكي الموحد”، من بين الرموز التي لفتت النظر إليها من خلال رمزية تتمحور حول الحلم والوحدة والاحتراق والشعلة الصاعدة بهدوء إلى سماء بلا نهاية. إن هذه العوالم هي الرابط بين رمزية الشمعة ورمزية الشعلة ( الشعلة لا تكون إلا إذا كانت اشتهاء للآخر)، فالشعلة إحالة على التطهير والاستنارة والحب (10) والهوى الجامح الذي لا يقف عند حد بعينه. وتلك هي الدلالات التي نعثر عليها في رمزيات ثقافية متعددة. وكما سنرى لاحقا، فإن ما هو مميز في الشمعة ليس نورها، فالنور ثانوي وعام يمكن أن ينبعث من المصباح والنار وضوء الشمس وقنديل الزيت الخ، إن المثير في الشمعة هو الاحتراق الهادئ الذي يطلق العنان للتأمل الشاعري ويلهب المخيال، (11) ويولد صورا وعوالم عدة ( الربط الدائم بين الثائر والشاعر). وعلى الرغم من أن اختيار الشموع ( والعدد في هذه الحالة لا قيمة له) هو اختيار مرتبط بحدث سياسي ( مكونات اليسار الأربعة )، فإن الدلالات الرمزية للشمعة ليست غريبة على فكر وممارسة هذا الحزب، وليست غريبة أيضا على تاريخه النضالي وطريقة تصريفه لمواقفه السياسية. فالشمعة فيها الكثير من فكرة الاستشهاد والاحتراق والالتفاف حول الذات رغبة في حمايتها مما قد يمس طهارتها ونقاءها الثوريين. وربما هذا ما يفسر موقع الحزب ذاته داخل الفسيفساء الحزبية المغربية. ففكرة الاستشهاد ( بالمفهوم السياسي للكلمة ) هي التي تغذي الموقف الحذر من المشاركة المباشرة في السلطة. فالاحتراق يتنافى ومنطق السلطة حيث تحسب المصالح بالأرقام لا ب” انفعالات القلب المنفلتة من عقالها”. فالسلطة في جميع السياقات لا تغري وتجهل سر الوجد الصوفي الذي يتطلبه التماهي المطلق مع فكرة تعد أصل الحزب ووجوده. إن السلطة تمتص رحيق البراءة وتحول المناضل إلى لاعب ” يحسب” و” يهندس” و” يتقدم ” ويتراجع”، في حين تستدعي الطهارة الثورية بقاء المناضل في الشارع يحترق لعله يقنع الناس بصواب رأيه. ولهذا لم يستطع هذا الحزب، لحد الآن، أن يتجاوز تردده ويحسم في الكثير من اختياراته. إن الرمزية الشاعرية للشمعة هي التي تدفع إلى تحديد عوالم الحلم كبديل عن فعل سياسي دؤوب ومنظم، واليسار في هذا المجال لا يبدو أنه مارس السياسة بمفهومها العقلاني. لقد عاش مبادءه على شكل أحلام وأحيانا أخرى على شكل أوهام، وهو ما يفسر خيبات الأمل والإحباطات الكثيرة في صفوف مناضليه. وعلى الرغم من أن الشمعة تشتمل، في جميع السياقات، على فكرة النور الذي يضيء الطريق، فإن ما يثير في الشمعة، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، هو الاحتراق ذاته ( التضحية)، فاحتراق الشمعة ليس ضوءا كاشفا يسطع كما يسطع نور الشمس أو نور المصباح. إن الشمعة تعطي لتموت إنها تحترق لتضيء وتذوب ليتلذذ الآخرون. فالذوبان لذة، ولذة الذوبان هي اللذة القصوى التي تثيرها، في كل السياقات، فكرة الاحتراق ذاتها ( ترتجف الشمعة لذة وهي تحترق، ويحرق المصباح مادة نوره دون أن يحترق). ولذلك، وعلى الرغم من إحالتهما على النور والاستنارة وإنارة الطريق، فإن الهوة الدلالية التي تفصل الشمعة عن المصباح كبيرة ولا يمكن تجاوزها. فالمصباح، وهو الرمز الذي اختاره حزب العدالة والتنمية، ثابت متواصل ينير دون أن يفقد من ذاته شيئا، إنه يستمد نوره من المادة التي تغذي نوره. لذلك فهو يشتمل على فكرة الهداية والدعوة إلى اتباع الطريق القويم. وهذه الفكرة مستمدة أصلا من المرجعية الدينية التي يدعي الانتماء إليها، حيث يشار إلى الله باعتباره نورا : ” الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شيء عليم” ( النور اية 35) وكما توضح كل السياقات المرتبطة بالمصباح، فإن النور لا يمكن أن يكون دالا إلا إذا كان نقيضا للظلمة ومبددا لها، وتلك هي الدلالة الرئيسة التي يشتمل عليها المصباح في سياقنا الحالي. فالاستعانة برمزية المصباح هي إحالة مباشرة على ” وجود سواد يعمه فيه الناس” ، وسيكون الحزب هو النور الذي يهدي مجتمعا يعيش في ” ظلام الكفر والفساد”. فنور المصباح هو أصل كل الأنوار ، لذلك فإنه يستمد إحالاته الرمزية من نصوص دينية، والمعرفة ضمن هذه النصوص ، مطلقة وحقائقها ثابتة لا ينال منها الزمن. ولهذا، فإن الحزب لا يدعو إلى حقيقة ضمن حقائق أخرى، بل يبشر بحقيقة تقصي كل الحقائق الأخرى. وهو ما يتناقض مع الشمعة التي هي احتراق في الفعل لا خارجه، فالحقيقة ليست خارج الفعل الإنساني بل هي جزء منه، داخله تتبلور وداخله تُعدل وتضمحل وتموت لتولد من رمادها فكرة جديدة. في حين يستمد المصباح نوره من حقيقة ثابتة ومطلقة وسرمدية استنادا إليها تقاس كل الحقائق الأخرى. وتلك هي نفس إحالات الكتاب، أو بعضها على الأقل. فالكتاب، وهو الرمز الذي اختاره حزب التقدم والاشتراكية، يشير في جميع السياقات إلى المعرفة والحقائق المثبتة في أصل مادي لا ينمحي. إنه يشير إلى السر الإلهي الذي لايمكن أن يحيط به أحد : ” قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى” ( طه ، اية 52.). كما يشير إلى الصلة الرابطة بين عالم السماء وعالم الأرض. وقد يشير في نفس السياق الديني إلى التعاليم التي يجب اتباعها للوصول إلى حقيقة تطمئن إليها النفس وتريحها من متاعب التيه في حقائق الكون التي لا تنتهي. وقد يكون الكتاب في سياق آخر دالا على حالات القلب وانفعالاته، فالكتاب المفتوح يشير إلى السريرة النقية التي لا تخفي أي شيء، أما الكتاب المغلق فإنه يشير إلى النفس الكتومة التي لا تكشف عن أسرارها. (12) وتلك فيما يبدو أولى العتبات لفهم اختيار الكتاب المفتوح رمزا للحزب. إلا أن هذه الدلالة لا تستنفد كامل دلالات هذا الرمز في هذا السياق بالذات. فالإحالة على معرفة جاهزة تشتغل كمرجعية ثابتة للحزب لا يمكن استبعادها ( تاريخ الحزب يؤكد ذلك). وهو ما يقربه من رمزية المصباح. وإذا كنا نستبعد أن يكون اختيار الحزب لهذا الرمز معبرا عن قناعة دينية، فإننا لا يمكن، من نفس منطلقات العدالة والتنمية، أن نستبعد وجود مرجعية فكرية ثابتة تشتمل على حقائق ثابتة تجيب على كل الأسئلة التي لا يكف الواقع عن إثارتها. ومعروف عن الحزب أنه من “أهل الكتاب”، به كان يهتدي إلى أمس قريب وربما لازال ( على خطى كارل ماركس كما كان يقول هوشي منه في القرن الماضي). إلا أن الكتاب لا يخلو أيضا من إحالات سلبية رهيبة، فهو إشارة إلى الموت والنهاية والحساب والعقاب، عندما تحين ” لحظة الحقيقة” فيحمل كل إنسان كتابه بيمينه ليجابه خالقه يوم القيامة. فللموتى كتاب فيه تدون أفعالهم وبه يواجهون خالقهم .(13) وعلى هذا الأساس، وعلى الرغم من التباين السياسي بين الحزبين ( التقدم والعدالة )، فإن الإحالات الرمزية عندهما تلتقي عند فكرة المرجعية والحقيقة الثابتة التي لا تتغير : يرمز لها عند الأول بالكتاب، ويرمز لها عند الثاني بالمصباح، فإذا كان المصباح نورا سماويا به يهتدي المريد وإليه يدعو، فإن الكتاب هو سلسلة من التعاليم الجاهزة هي سلاح المناضل في معركته اليومية مع الواقع. وفي الحالة الأولى كما في الحالة الثانية نكون أمام فكرة الهادي المالك للحقيقة التي لا يجف رحيقها. والوردة هي التي شكلت عند ” الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” الرمز الخالد لتصور سياسي يمتح معينه من تيار يتجاوز حدود الوطني والقومي ليحيل على فكر كوني، مازال متشبثا بأممية تقاوم بحياء ويأس الرياح العاصفية لعولمة رأسمالية شرسة لا تبقي ولا تذر. فكل الأحزاب الاشتراكية الأوربية تتخذ من الوردة شعارا لها، ولم يشذ الاتحاد الاشتراكي عن ذلك وجعل الوردة رمزا له. ولقد تنبه هذا الحزب منذ مدة ( حزب الاستقلال أيضا) إلى القيمة المضافة التي تأتي بها الهوية البصرية، وكان هو الحزب الوحيد الذي أعلن بشكل صريح انتماءه من خلال هويتيه الاسمية والبصرية إلى تيار الأممية الاشتراكية الثانية. ومن هذه الزاوية فإن الوردة، قبل أن تكون رمزا لأي شيء، هي في الواقع الأمر تعبير صريح عن انتماء لتيار حزبي أممي. ومن هذه الزاوية فقط يمكن الحديث عن رمزية الوردة لا كما تتجسد في الثقافة المحلية فحسب، بل كما هي متداولة في الغرب أيضا. والوردة في جميع السياقات تشير إلى القيم الجميلة والروح السامية والنفوس المهذبة التي تعشق جمال الكون ممثلا في جمال الوردة. فالثقافات الإنسانية جمعاء ربطت بين الورود والعواطف النبيلة والأشياء الجميلة، وربطت بينها وبين لحظات عمرية يكون فيها الإنسان في أزهى حالاته الجسدية والنفسية، وليس غريبا أن نتحدث عن الأطفال باعتبارهم براعم متفتحة، ونتحدث عن الفتيات باعتبارهن ورودا. والورود هي رسول القلب في كل حالاته النبيلة حين يعلن انتماءه إلى قيم الإنسان الجميلة : حين يعشق وحين يحتفل وحين يواسي. لذلك فإن الوردة هي إحالة على الفصل الذي يرمز للحياة في لحظات عطائها الأكثر قوة واندفاعا وبهاء وحماسا، إنه القوة المتجددة التي تعطي للإنسان باستمرار نفسا جديدا. وحتى عندما يأتي الغربيون إلى قبورهم وفي أيديهم الورود، فإن الوردة هنا رمز للبعث لا للموت، لذلك فهي ترمز عندهم أحيانا إلى الإناء الذي يوضع فيه دم المسيح وهي أحيانا الشكل الحي لهذا الدم وهي أحيانا أخرى رمز لجراح المسيح، وفي جميع هذه السياقات فهي تشير إلى فكرة انبثاق الحياة من التضحية. (14) وأن تختار الأممية الوردة رمزا لها ( وكذلك الاتحاد الاشتراكي )، فلأن الاشتراكية، كما بشر بها أصحابها الأوائل على الأقل، تشير إلى الاحتفاء بالإنسان والعودة به إلى صفائه الأصلي كائنا يتمتع بقيمه الجميلة خارج كل أشكال العسف والاستغلال. والوردة بالإضافة إلى ذلك تشتمل على فكرة التواصل الإنساني في أبهى صوره، الوردة رابط بين اثنين وبين قلبين وبين محفلين. فأن تهدي وردة أو تتوصل بها، فإنك في الحالتين تخرج من ذاتك لتبني جسرا للتواصل مع الآخر. أما الميزان، وهو الرمز الذي عرف به حزب الاستقلال منذ مدة، فهو رمز كوني، عرف في كل الثقافات بإحالاته على العدل والقياس والتوازن والحق (15). وتراثنا الإسلامي يزخر بصور متعددة للميزان كلها تحيل على الحث على إقامة العدل وإشاعة مبادئه بين الناس. والنصوص القرآنية زاخرة بهذه الصور، فالقرآن لا يكف عن التذكير بفكرة العدالة المرتبطة دائما بالميزان. وبما أن العدل مرتبط بالقضاء، فإن واجهات المحاكم في كل دول العالم تزينها الموازين التي تمثل الصورة المثلى للعدالة. لهذا فإنه يعد، في حالة حزب الاستقلال، الترجمة المحسوسة لفكرة ” التعادلية” التي بنى عليها الحزب كل تصوراته السياسية والاقتصادية، وهي مزيج من أفكار دينية ودنيوية تحاول التوفيق بين ما ينتمي فكريا وقيميا إلى الدين ممثلا في إقامة العدل والقسطاس، وبين مجموع القيم الاقتصادية المرتبطة بطبقة قيل إن حزب الاستقلال هو صوتها السياسي ( البرجوازية الوطنية)، وهي طبقة تؤمن بالسوق والتبادل الحر وتكسير الحواجز والتفتح على الآخر. من هنا تأتي التعادلية ( مرموزا لها بالميزان) كمحاولة للإفلات من أحكام التصنيفات السياسية الوضعية ( اسميا على الأقل). وهو ما يفسر موقع الحزب المتأرجح بين انتماء طبقي يدفعه إلى التشبث، اقتصاديا، بقيم طبقية صريحة الأهداف والوسائل ولا تعترف سوى بالربح، وبين الانتماء إلى فكر يجعله قريبا من الحركات الإسلامية التي يطمح أن يكون صوتها ” المعتدل”. وإذا كان الميزان هو الترجمة الحرفية للتعادلية، فإنه يندرج ضمن التصورات التناظرية التي لا تفتح الرمز على ممكنات دلالاية أخرى تستوعب فكرة الحق والعدالة وتدرجها ضمن رحابة الوجود الإنساني المتعدد. لذلك، فإن الرمز هنا محجوز وإمكانات التدليل داخله ضحلة وقصيرة النفس، فهي متربطة بفكرة واحدة، تعبر بشكل محسوس عما يقدمه الاسم بشكل لفظي. وإحالة من هذا النوع لا تخلق حالات متنوعة للتواصل تقود المتلقي إلى البحث في ذاكرة الاسم وذاكرة الرمز عما يعدد وينوع لا عما يوحد. وماذا بعد كل ما قلناه ؟ وماذا سيفيدنا تحويل الأدوات الرمزية إلى كوى نطل من خلالها على آليات الحزب الداخلية، وهي آليات فكرية وسياسية وتنظيمية أيضا، لها منطقها اللفظي الذي قد يغني عن تحديدات إضافية ؟ إن الرمز، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك ليس واجهة تزيينية وليس مميزا مرتبطا باستحقاقات انتخابية محدودة في الزمان وفي المكان. إن الرمز أكبر من ذلك وأعمق. إنه أداة من أدوات تسويق المنتوج السياسي ( والمنتوج السياسي لا يختلف في شيء عن المنتوجات الاستهلاكية الأخرى)، وهي أداة تشكل قوة إقناعية ضاربة للاستحواذ على وجدان المستهلك السياسي عبر أقرب الطرق وأيسرها. إنه في حالتنا أداة لإعداد وتنظيم ” كم سياسي” وإدراجه ضمن عجلة التواصل التي يستدعيها كل فعل سياسي عقلاني حداثي. ولهذا السبب فإن استحضار قصديات أخرى، غير تلك التي تبدو من خلال النسق اللفظي، تعزز وتدعم القصدية اللفظية البادية من خلال الهوية الإسمية أمر في غاية الأهمية. وتتميز هذه القصدية بانفتاح أكبر من ذاك الذي تقدمه القصدية اللفظية ، لأنها تملك واجهات كثيرة تتداخل فيها عوالم متعددة تنتمي إلى الجمالي والحضاري والتاريخي، ويتفاعل داخلها الكوني والوطني . فـ “بناء الثقة” و”مد الجسور” و”التسلل إلى الوجدان” عمليات لا ترتبط ب ” الأفكار الجيدة ” و” البرامج الصحيحة”، ولا علاقة لها بالنوايا الحسنة. إن الأفكار والبرامج وحدها لا تكفي لتحقيق تواصل ناجح وفعال. فالخطاب السياسي يعتمد في بناء مرجعيته الخاصة على أدوات متعددة منها ما يعود إلى الملفوظ ( مضمون البرناج وآليات تحققه) ومنها ما يعود إلى التلفظ ( الآليات المستعملة في إقناع الناس وخلق حالة تواصل مثلى معهم)، وحسن اختيار الرمز ومعرفة استثماره تدخل ضمن إواليات النشاط الثاني. فالمرجعية التي يبنيها الخطاب السياسي ليست هي تلك التي يعرفها المواطن وهي التي تشكل محيطه المألوف، إن الأمر يتعلق بمرجعية وجدانية تتداخل فيها معطيات الواقع وأحلام الآتي وصور الماضي. عندها، يتحول الحزب إلى جهاز لا يصف ويشخص فحسب ولا يوزع الوعود، بل يسهم في بناء وجدان حضاري جديد. ” فالحجاج الإقناعي هو إطلاق العنان لنشاط غايته التأثير في أفكار وآراء ومواقف وسلوكات الفرد أو الجماعات”. (16)إن إدراج الاسم ضمن عجلة ترميز ثانية هو إدراج للحزب ضمن عجلة تدليلية أكثر اتساعا ستزيد من أهميته وترفع من شأنه. وللقيام بذلك، يجب أن يكون الحزب متوفرا على جهاز داخلي مهمته تنظيم استراتيجيته التواصلية. وهذا ما تفقر إليه، فيما يبدو، جل الأحزاب إن لم نقل كلها.
———————- الهوامش1- Alain Gheerbrant : dictionnaire des symboles, p . VII Jean Chevalier –2- نفسه ص XII3- Adrian Frutger : L’homme et ses symboles, Atelier Perrousseaux éditeur, 2000, p 2064- dictionnaire des symboles, p VIII5- ميشال باستورو6- انظر Pierre Guiraud : Sémiologie de la sexualité,éd Payot, 1978, les structures de la pensée analogique p215 et suiv7- dictionnaire des symboles, p VIII8-انظر مقالنا : ” ولا يكف الحصان عن الصهيل” ، علامات، العدد 7 ، 19979- Pierre Guiraud: Le langage du corps , que-sais-je, 1980 p 5210- Gaston Bachelard : La flamme d’une chandelle, P U F , 1961, p 57 et suiv11 – نفسه12-Grand Dictionnaire des symboles et des mythes , article livre Nadia Julien :13- نفسه14-Alain Gheerbrant : dictionnaire des symboles, article rose Jean Chevalier –15- Alain Gheerbrant : dictionnaire des symboles, article balance Jean Chevalier –16- Rodolphe Ghiglione et Marcel Bomberg : Discours politique et télévision, La vérité de l’heure, P U F ,1998, p 9
|
الخلاف والاختلافأو الفصل بين الواحد والمتعدد * الدكتور سعيد بنكراد
عن موقع سعيد بنكراد يميز المشتغلون بأصول الفقه عادة بين أربعة مستويات في تناول النص ومحاو…