قال سبحانه و تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) سورة النساء
و قال رسول الله (ص) : (لا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا! وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلاَ تَظْلِمُوا) رواه الترمذي
قال الإمام الشافعي رحمه الله : “لأن تحسن الظن وتخطئ خير من أن تسيء الظن وتصيب”.
الثقة بناء متكامل يؤطر العلاقات وينظمها ويشحنها بأخلاق ايجابية صالحة مشتركة بين الناس تلقى القبول والاعتراف ..وتؤسس للاطمئنان والتكامل والتعاون وتماسك المجتمع , وتحقق مصداقية و تطور , وتقوي الدولة ..
الثقة بالنفس ترتكز على الايمان بالقدرات والارادة الذاتية التي تنبني عليها الإختيارات والقرارات وتنجز بها الأعمال والأفعال .. وقد تتكسر عندما تواجه بنقيضها في الواقع من أفراد أو جماعات أو مؤسسات ..والمبالغة المفرطة في الثقة لحد العمى أو غرورا لاينتج عنها إلا كل السلبيات والانزلاقات والمخاطر …
إن الثقة بين الناس تقوم على حسن النية و الصدق والجدية والتجربة والنتائج الملموسة المبتغاة… و قد تبنى على السماع دون العلم ولا الرؤية ولا الاتصال المباشر بالموضوع أو الواقعة أو السياسة .. ولاتتحقق أحيانا إلا بالسماع والنظر و إعمال كل الحواس ..ويمكن أن يسبق الشك والتشكك والتكذيب توفرها إلا بوجود مادي إيجابي ملموس في الواقع …
فعندما يقوم أي كان بقلب الحقائق وتزييفها وبالكذب على الناس لإيهامهم بصلاح ما يقول وما يعمل وما سيعمل … فإنه يـحجب تدريجيا الثقة حتى تنعدم ..وصدق أحد الشرفاء رحمه الله عندما يقال له .. :” علينا ان نستعد للانتخابات فيجيب وهو من الوطنيين والمقاومين السياسيين الشعبيين ..إننا كسياسيين ومنذ بداية الانتخابات بالمغرب ونحن ننتظر أن تتغير الامور بالسرعة المطلوبة والواجبة لبناء دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية والحريات والكرامة و…وقدمنا من أجل ذلك التضحيات الجسام طوال سنوات الجمر والرصاص وبلغنا من العمر عتيا ..فبالله عليكم كم من ست سنوات في عمرنا لنهرم ونفنى ..؟؟ وكيف سنقنع الشعب بان هذة المرة ليست كسابقاتها ونحن غير متأكدين من ذلك ..؟؟ ويكمل حديثه رحمه الله ..نحن على العهد حتى يتحقق ما ناضلنا ونناضل من أجله .. ولنا ثقة في الله وفي أنفسنا وفي الوطن بأننا سنصل يوما إلى ذلك ..فإن لم يكن في زماننا فسيكون من أجل ابنائنا ..”
إن من أسباب انعدام الثقة ضعف الوازع الاخلاقي ومرض وعلة بالضمير ..والانجرار وراء المنافع والمصالح الذاتية وانتهاز الفرص ..وعدم قدرة الانسان التغلب على متطلبات العيش في علاقاتها بوعود سياسية أو مؤسساتية تهم دخله واستقراره وتعلمه وصحته وسكنه ومستوى وظروف عيشه ..
فالتربية على الانتهازية والوصولية واستغلال النفوذ …تخلقها سياسات غير معلنة لكنها عامة يؤطرها ما يسمى تعسفا “امثال وحكم ” ما صدرت من حكماء ولا علماء ولا مفكرين بل وضعها من لهم مصلحة في تكريس واقع يحققون فيه ما يسعون إليه دون جهد او عمل او تضحية …
ان الثقة والشك معا ضروريان للبناء ..فلا ثقة عمياء صالحة ولا شك مطلق يبني مستقبلا … فالشك المحقق للثقة والمستحضر لضمانات اتمامها وتنزيلها يساعد على الوعي والتعقل وحسن الفهم والادراك …والشك لايقطع إلا باليقين .. تعلق الامر بالروحيات أو القلبيات أو العقليات أو الماديات ..وفي هذا تجارب كبيرة لانبياء و علماء وفلاسفة ومفكرين …قال الغزالي : ” الشك أولى مراتب اليقين … من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال “
لهذا فالشعارات والمبادئ والالتزامات والبرامج والخطب التي لايراها الناس ولا يلمسوها كما شرحت وقدمت و وصفت لهم ..ولا يتمتعون بها كما وعدوا وبموجب ذلك منحوا ثقتهم لحاملها والداعي والمنظر لها ..تصبح كذبا وتحايلا وتضليلا ومن أكبر الاختلالات التي تجعل الشك وفقدان الثقة مذهبا شبه عام يؤثر بشكل سلبي وخطير على الخيرين والجديين والمخلصين في أقوالهم وأعمالهم وتحركاتهم ..
إن الثقة راسمال روحي واجتماعي ومفتاح لكل خير ..وهي ضرورية فبها تـبنى وتستمر العلاقات بين الناس و الاسر , وعليها تقوم العلاقات العامة والخدمات وكل المصالح ..
إن مما يجب التعجيل به أن تـعتكف النخب السياسية والسلطات والمفكرين .. ليخضعوا أحوالهم لنقد بناء وقوي باعتبارهم أرضية لموضوع ” غياب أوضعف الثقة” الذي أصبح ظاهرة كادت تستوعب نظريا كما تطرح ويروج لها كل الشرائح والفئات والنخب والمؤسسات ..لدرجة المساس بـأهم ضمانة وشرط للاستقرار أي المصداقية ..مما سيوسع بشكل خطير العزوف والمقاطعة والقطيعة مع العمل السياسي وإدارة الشؤون العامة , ومما سيغدي التطرف والعدمية بكل انواعهما …
..إن أزمة الثقة في الخطاب السياسي للحكومة في علاقتها مع الناس .. وفي علاقتها مع المؤسسات التشريعية والتمثيلية شيئان متكاملان ووجهان لعملة واحدة … تطال بشكل قوي مؤسسات المجتمع من أحزاب ونقابات و .. بما يتعارض مع روح وفلسفة الدستور مما يتسبب في توسع رقعة عدم الثقة لتشمل التشريعات نفسها والمشرعين والعلاقات بين الناس ومكونات المجتمع ..أي أنها أخطر آليات التفكيك والإضعاف لأية قوة …
إن رغبة الناس في تحسين أوضاعهم وتطوير بلدانهم وتحولهم من دولة متخلفة أو في طريق النمو الى دولة رائدة عالميا على كل المستويات وأساسا في مجالات التعليم والتعلم والبحث العلمي , والقضاء التام على الأمية بكل أنواعها , و البناء المتماسك سياسيا وحقوقيا وديموقراطيا واقتصاديا واجتماعيا ..دولة يكون فيها فصل السلط واضحا والمسؤوليات محددة ودقيقة على أساس العدل والعدالة ..ووجود حدود أخلاقية وفكرية تمنع وتحرم أي تغول للمال على السياسة ..أو أي توظيف سلبي للدين من أجل التحكم في المجتمع والمؤسسات ..أو لجر المشهد السياسي ليخدم توجهات غير ديموقراطية لاتستقيم أمورها إلا باعوجاج وتأزيم أمور وحياة الناس ..
إن معايير الثقة في علاقة بالالتزامات والحقوق والواجبات والمسؤوليات تختلف حسب المرجعيات المؤطرة للاحزاب والمنظمات و لكل متحدث كان مواطنا عاديا أو مسؤولا محليا أو وطنيا … كما تختلف باختلاف طبيعة وأحوال أوضاع الناس وامكانياتهم الفردية والاسرية معنويا وماديا ..وباختلاف وتباين منهجية التشريع والتدبير والتسيير بالمؤسسات الترابية الممثلة لهم محليا واقليميا وجهويا …
..إن النظرة التشاؤمية للناس التي جاءت نتيجة للاحباط وعدم قدرة برامج ومخططات الإجابة على انتظاراتهم كما أرادوها وصوروها في حدودها الدنيا ..تصبح مرجعا لأحكام جاهزة تتصادم وتتعارض مع كل المبادرات التي تقدم ..لهذا أصبح من أوجب الواجبات أن تؤيد الدولة وكل القوى السياسية والمؤسسات الأقوال والتصريحات والبرامج والمخططات بالاعمال والاصلاحات الحقيقية والمستدامة والشاملة بكل القطاعات وفي كل بقاع الوطن وتشمل كل ساكنته …وليس بالتنظير لواقع الحال والتملص من المسؤوليات والتنافس في تقديم رزم أخرى من الوعود التي قد يطالها ما طال موضوع التدمر والاحتجاج اليوم وبالامس القريب والبعيد …لان ذلك سيؤدي إلى الاسوأ وسيجعل التكلفة ثقيلة ومهلكة ومتعبة ومؤلمة …
إن الاهم ليس هو التباكي على ما وقع والتبرم منه ..بل مراجعة النفس والعمل ثم العمل ثم العمل بصدق ونكران ذاث وجدية المتعبد المتصوف العازف عن الملذات الساعي لرضى الله بخدمة الناس ..وتلك هي العبادة الفضلى وجوهر الدين الحق ..
جاء في الاثر ما قرن شيء إلى شيء أفضل من إخلاص إلى تقوى ، و من حلم إلى علم ، و من صدق إلى عمل ، فهي زينة الأخلاق و منبت الفضائل
قال احد الشعراء العرب :
متى يستقيم الظل والعود اعوج
وهل ذهب صرف يساويه بهرج
و البهرج يقصد به الباطل والرديئ والزائف
ومما جاء في نهج البلاغة …” قيل لعالم من أسوأ الناس حالا قال من لا يثق بأحد لسوء ظنه و لا يثق به أحد لسوء فعله”