في منتدى «أصيلة» وجامعتها الصيفية كان النقاش الأسبوع المنصرم متمحوراً حول النزعات الشعبوية الجديدة وتأثيرها على إشكالات الأمن والديمقراطية ، تكريساً لسنّة حميدة دأب عليها مهرجان هذه المدينة الجميلة منذ قرابة أربعين سنة في نقاش مستجدات الفكر ومتابعة تحولات العالم.
بحضور عدد من أبرز السياسيين والمفكرين العرب والغربيين التأم الحوار حول موضوعين رئيسيين هما: هل تشكل هذه النزعات الشعبوية تحولاً نوعياً في الممارسة الديمقراطية أم هي في حقيقتها تهديد جذري للمسلك الديمقراطي؟ وما هو أثر هذه النزعات على النظام الدولي وتحديات السلم والأمن المطروحة بحدة في الخارطة الاستراتيجية العالمية؟
الإشكال الأول يحيل إلى جملة من المتغيرات من أبرزها: انهيار الأحزاب التقليدية العريقة في الغرب التي أطرت الحياة السياسية منذ قيام الثورات الديمقراطية وانحسار ثنائية اليمين واليسار التي كانت الإطار الناظم للديناميكية السياسية في هذه البلدان، والعودة إلى الخطاب القومي الانكفائي الذي يصل أحياناً إلى حد التعصب القومي والعنصرية الثقافية والدينية، وبروز استقطاب جديد في الحياة السياسية بين الكتلة الانتخابية المحافظة والنخب المنفتحة التي استفادت في العقود الأخيرة من حركيّة العولمة.. تلك ظواهر توقف عندها في الآونة الأخيرة الباحثون، في سياق كان الانطباع سائداً فيه بأن الديمقراطيات الغربية سائرة في خط الشعبويات الجديدة، ولو كانت هزيمة اليمين المتطرف في النمسا وفوز الرئيس «ماكرون» في فرنسا أبرزا حدود هذا المنعرج.
الملاحظة التي يتعين تسجيلها في هذا الباب هي أن النزعات الشعبوية وإن كانت تتفق في خروجها عن نموذج تعددية الجسم الاجتماعي الذي يترجم في الموازين السياسية الانتخابية (الشعب من حيث هو قوة انتخابية ممثلة في مؤسسات حرة)، كما تتفق في عدائها للنخب الحاكمة والمتحكمة واستنادها للجمهور بصفته التعبير عن كيان الأمة العميق والحقيقي.. فإنها تتوزع إلى شعبوية يمينية محافظة تتميز بنزوعها القومي الذي يستند في الغالب للموروث الديني ويسلك نهجاً مناوئاً للأجانب واللاجئين والمهاجرين (الشعبوية الأوروبية الحاكمة حالياً في بولندا وهنغاريا)، وشعبوية يسارية ظهرت بقوة في السنوات الأخيرة في بلدان أميركا الجنوبية (البرازيل وفنزويلا وبوليفيا..)، كما برزت مؤخراً في بعض البلدان الأوروبية (بوديموس في إسبانيا، سيرزيا في اليونان، حركة فرنسا الأبية في فرنسا)، وما يجمعها هو الرجوع إلى سردية الثورة الشعبية من خلال صناديق الاقتراع لبناء ديمقراطية تشاركية عادلة في مقابل النظام المالي -التمثيلي الذي «يحتكر» الإرادة الشعبية ويحرفها.
ومن أهم من يعبر اليوم عن تيار «الشعبوية اليسارية» الفيلسوفة البلجيكية «شانتال موف» التي تعتبر الشعبوية نمطاً من الممارسة السياسية يهدف لبناء «إرادة جماعية حرة»، مقابل المنظور التعاقدي للديمقراطيات الليبرالية الذي يلغي الصراع الاجتماعي من منطلق الصياغات التوفيقية التمثيلية التي أفضت تدريجياً إلى إلغاء الفوارق النوعية بين الأحزاب التي تتداول على السلطة. ما تطرحه «موف» هو الخروج من المقاربة التسييرية للسياسة التي هي ذات خلفيات اقتصادية تقنية بالعودة إلى المنطق «التصادمي» الذي يميز الظاهرة السياسية المنتظمة على ثنائية الصديق والعدو حسب التحديد الذي بلوره «كارل شميت».
ومن هذا المنظور، يمكن القول إن النزعات الشعبوية بقدر ما تعبر عن أزمة الديمقراطيات التمثيلية التي كثر الحديث حولها في السنوات الأخيرة، فإنها وإن كانت لا تطرح حلولاً بديلة، فهي قد تفسح المجال لصياغة آليات جديدة للديمقراطية تتناسب مع التحولات المجتمعية الراهنة وتترجم ثوابت الفكر الديمقراطي المتمحورة حول مطالب التداول العمومي والمشاركة الفاعلة والتمثيل الانتخابي.
أما الإشكالات الأمنية الاستراتيجية فتتعلق بتحديين كبيرين، أحدهما يتصل بتركيبة النظام الدولي ببروز نمط جديد من الحرب الباردة بين قوى شعبوية تتبنى الخطاب القومي الانكفائي (الولايات المتحدة وروسيا) بديلاً عن النموذج الأيديولوجي (الصراع الرأسمالي الاشتراكي)، ويتصل ثانيهما بتحدي الإرهاب وما يرتبط به من التباس بالموضوع الديني بما يترجمه تنامي الخوف والتخويف من الإسلام في الخطاب السياسي للشعبويات الجديدة في الغرب.
وإذا كان بعض المشاركين في ندوة أصيلة قد بالغ في التهويل من خطر الشعبويات الجديدة مقارناً بينها والحركات النازية والفاشية التي أججت فظائع الحرب العالمية الثانية، فالحقيقة هي أن الخطر الأساسي يتركز في الشعبويات ذات الخلفيات الأيديولوجية الدينية التي تنمو في بلدان ليست لها تركة ديمقراطية عريقة ولا موازين مؤسسية فاعلة (إسرائيل وتركيا وإيران وروسيا..).
في تحليله لمسار الشعبوية الجديدة، يُبين «بيار روزنفالون» أن هذه النزعة المتصاعدة نشأت من مفارقة حادة تعاني منها المجتمعات الديمقراطية كلها، وهي الشعور بأن النظام الديمقراطي التعددي لم يعد قادراً على توليد حكومات ديمقراطية، ومن ثم ميل الحركات السياسية إلى التمرد على المنظومة الديمقراطية من داخلها، والخوف كله هو أن يخرج التمرد عن ضوابط السلم الأهلي التي بلورتها الديمقراطيات التقليدية.