يعاني المجتمع العربي عامة والمصري خاصة من التطرف. وكم من الدماء تسيل من المتطرفين ومن قوات الأمن. وهي دماء عربية مصرية. لا فرق بينها في اللون أو الرائحة. والكل حزانى سواء احتفلت الدولة بالشهداء أم لم تحتفل، وهم غالبا أبرياء، هم ونساؤهم وأطفالهم وأسرهم. وقد وضع الإعلام سؤالا: هل يمكن معالجة التطرف بالتصوف؟

فماذا يعني التطرف؟ المقصود هو التطرف الديني أي الخروج على النظام الاجتماعي، في لباسه وقوله وعمله، واللجوء إلى العمل السري المسلح تحت الأرض والخلايا المجهولة المكان والزمان والأفراد للتعبير عن النفس بعد أن استعصى التعبير العلني. مدان إذا كان سرا، ومدان إذا كان علنا، فينفجر في نفسه أولا قبل أن ينفجر في الآخرين، ويفجّر نفسه مع البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، كنيسة أو مسجدا أو دار أمن أو أي تجمع لتكبيد النظام السياسي أكبر خسائر ممكنة. تهز صورته في الداخل والخارج، فالتطرف الديني في حقيقته رد فعل على التطرف السياسي، تطرفا بتطرف. لا يعالج بتجديد الخطاب الديني الكلامي ولا بمزيد من قوات الأمن على الهيئات الرسمية بل بمعالجة جذوره وأسبابه كما يفعل علماء أصول الفقه بالبحث عن العلل.

أما التصوف فإنه يعني باختصار الهروب من العالم الخارجي العصي على التغيير إلى العالم الداخلي، وهو أوسع وأرحب. وبعد العالم الداخلي يتم الارتفاع إلى العالم العلوي ليتم النصر فيه، حقيقة أم خيالا. هكذا نشأ التصوف عندما صعبت مقاومة بني أمية الذين استولوا على الحكم، ونقلوه من المدينة إلى دمشق، ورفض عرضهم بين العصا أو الجزرة. فإن قبل الجزرة عاش ونال الحظوة. ومن واجه العصا مثل الحسين استشهد وجزت رأسه. وأرسلت من كربلاء إلى دمشق. ورأي هؤلاء العودة إلى داخل النفس والشكاية إلى الله، العادل الذي لا يظلم. وأقاموا أحوالهم ومقاماتهم، الصحو والسكر، الغيبة والحضور إلى آخر هذه الثنائيات، ثم الزهد والرضا والتوكل والشكر التي تبين درجات السلم للوصول إلى دار الفناء. وقد شجع الأمويون هذا الاتجاه الثالث لبعده عن السياسة كما تفعل جماعة «مؤمنون بلا حدود» الآن بتمويل خليجي. فإنقاذ النفس مقدم على إنقاذ العالم. والعجز عن فهم العلل أو مقاومتها يؤدي إلى الهروب منها إلى عالم متخيل يتم النصر فيه. لا يذهب الصوفي إلى الكعبة عجزا بل تأتي الكعبة إليه نصرا. والتوجه إلى الواحد القهار العادل خير من البقاء مع الحاكم القهار الظالم. وليس أمام المعارض السياسي إلا الهجرة إلى الله أو الهجرة خارج الأوطان كما فعلت الإباضية وهجرتهم إلى جنوب الخليج العربي. يؤسسون حكما عادلا. لا يستشهدون في مقاومة الحاكم الظالم ولا يرضخون تحته.

فما الحل؟ هل تستطيع القوة أن تقضي على التطرف أي هل يمكن القضاء على عنف الجماعات المتطرفة بعنف مماثل، عنف الشرطة ورجال الأمن، وهو ما يحدث الآن؟ الحل هو الحوار السياسي بين الحاكم والمحكوم أو الحوار الاجتماعي بين طرفين متخاصمين. يعبر كل طرف عن رأيه ثم الوصول إلى رأي مشترك. يتحول الخصمان فيه إلى صديقين. ولا يبدأ الحوار في جو من الاستبداد السياسي وإلا تحول الخصم السياسي إلى خلية سرية تحت الأرض تنتظر الفرصة المواتية لممارسة العنف وتحويل الصوت المكتوم والعضب المكبوت إلى انفجارات تتعدد أشكالها. وبعد الحوار الوطني يتم الاشتراك في إدارة البلاد، مشاركة لا مغالبة، فالمسؤولية تقع على أكتاف الجميع.

أما التصوف فهو تفريغ المجتمع من حركته السياسية. استبداد من طرف الحاكم وهروب من طرف المحكوم، وكلما اشتد الاستبداد اكتفي المتصوف بالدعاء لله كي ينصر المظلوم على الظالم، فالقاهر في السماء أقوى وأعظم وأشد من القاهر في الأرض، فلو حدث أن استطاعت جماعة ثورية من الضباط الأحرار كما حدث في يوليو 1952 أو مجموع الشعب انتفض كما حدث في يناير 2011 قيل أنه نتيجة دعوات الصوفية، وتوجههم إلى الله، وجلب الانتقام. التصوف نقيض الثورة. والثورة نقيض التصوف، لذلك عندما أتى صلاح الدين ليحرر الشام من غزوات الصليبيين واحتلال القدس انطلاقا من مصر، طهرها أولا من الصوفية باعتبارهم طابورا خامسا للعدو، فالحب الإلهي في قلوب الصوفية يجعل كل البشر أحبابا. ويحسن الصوفية استقبال العدو قائلين أهلا بأحباء الله! وكما قال ابن عربي في أبيات شعره الشهيرة:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي    / إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

وقـد صار قلبـي قابـلا كـل صـورة      / فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيتٌ لأوثـــــانٍ وكعـــبةُ طــائفٍ        / وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن

أدينُ بدينِ الحـبِ أنّى توجّهتْ ركائبــهُ     / فالحـبُّ ديني وإيمَــاني

 

الطرق الصوفية هي جزء من الفنون الشعبية، والتصوف هجرة إلى الله مثل هجرة العقول خارج الأوطان للبحث عن إمكانيات أفضل للبحث العلمي دون تطوير لما هو موجود بالداخل، ومثل هجرة الشباب الشرعية أو اللاشرعية خارج البلاد بحثا عن رزق أفضل، فلا يجدون إلا التسول أو القبض عليهم أو الموت غرقا، ومثل هجرة المعارضة السياسية خارج أوطانها، فلا تملك إلا المعارضة بالكلام من خلال أجهزة الإعلام، وكلها هروب من المواجهة.

محاربة التطرف بالتصوف هو محاربة التطرف السياسي بالتطرف الديني، وكلاهما تطرف. التطرف السياسي هو الاستبداد. والتطرف الديني هو التصوف. الأول يعرف ماذا يريد، ويريد المزيد. والثاني يهرب مما يعرف باحثا عن معرفة أعظم. وفرق بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والوهم.

 

السبت 15 يوليوز 2017.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …