في جوار الفعل السياسي، قد تقتل الحياة نبض القلب..
وتنشر فوقه مرمرها البارد..
ويبعث الموت فيه حرارة خبأها للرحيل
وللوداع الأخير..
يحدث ذلك، كلما مات مناضل فريد، متميز، عصي على التنميط، عاش بدفق الإرادة المستعصية على الترويض..يحدث ذلك معي الآن، مع رحيل مصطفى بوحجار.. الرجل الاتحادي، الذي ودعنا منذ يومين إلى دار البقاء، هناك حيث يلتقي الشهداء والصديقين والموتى المتفردين حول مائدة طويلة من الذكريات، ويملكون ما يكفي من الأبدية لكي يسخروا من حياة سياسية ذاهبة إلى الهباء..
لا أذكر لحظة، أية لحظة من لحظات القسوة أو الرفق في مدينة الناظور، أومدينة ازغنغان، كنت فيها مناضلا في الشبيبة أو في النقابة أو في الحزب ليس لمصطفى فيها أثر:
أذكر أنه كان الأقرب إلينا، نحن جيل اللجنة المركزية للشبيبة الاتحادية، المنبثقة عن ثمانينيات القرن الماضي، في العمل اليومي على مشاريع النشاط الشبيبي..
كانت الناظور قد خرجت للتو من محنة 1984
وكانت الأجواء ما زالت تحمل جروحا كبرى، والشهير الأميري، يوزع الرهبة..على كل الطرقات..
والاستثناء غير المعلن يعشش في العواطف والمخيلات، وفي جنبات المقرات شبه الممنوعة..
قبل المؤتمر الإقليمي الثاني، في 1988، كنا نعاند وضعا صعبا، لحزب يخرج من بوتقة العضل
ومن اسمنت العطب الممتد في الفترة من 1981 إلى سنوات الردة في 1983 و1984، لينفجر الشرق والشمال الشرقي في وجه السلطة والنخبة والروتين..
هو الآن يشهد، هناك من عل، رفقة الساخرين الخالدين، من كل الذين ما زالوا متشبثين بالكراسي، بنفس اليقظة الدنيوية الراجفة..الذين لا يحبون من الحياة سوى .. قتل شركائهم!
الآن يذكر تلك الليالي التي قضاها معنا في ترتيب الذكرى الأولى التي تخلد في المغرب، في نشاط علني للراحل محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذكري الفضية لرحيله والتي استنفرت لها السلطات وقتها كل الموارد المادية والبشرية وأعلنت حالة احتقان رسمية حول مقر الحزب بشارع عبد الكريم إياه..
الآن يذكر خرجاتنا الصباحية إلى جبال ويكسان،
وتفانيه في معركة عمال »سيف ريف« ، طوال شهور ظل يحملها إلى آخر الرمق وآخر الكلمات الغاضبة..
الآن يجلس ، وسط غيمة من حنين، وينظر إلى قمة »اغيلو مضغار » ويذكر تنقلات بناء الفروع النقابية، ما بين بويفرار وبن الطيب !
الآن أنظر إلي …
وأحملق في العلى أصادف في نظرتي حيرته
وفي يدي خطوط كفه
وفي كلماتي نبرته..
الآن، أختلي لكي أذكر الرجل العنيد فيه، الصعب .. والمر أحيانا عندما لا يفهم بعض أشيائنا أوبعض سلوكاتنا: كأن يستفيد الواحد من رفاقه العتاة من امتياز انتخابي لا يفهمه
كأن يعامل مسؤول نقابي عمالا بصلافة لا يقدرها
كأن يتطاول الشباب على الكبار باحتقار الأخلاق السياسية…
لنا أشياؤنا الصغيرة التي كنا نطعم بها القلب، ونطعم بها جهدنا:موائد مع المرحوم القادري أو اجتماعات عاصفة مع المرحوم الباروزي، جلسات دافئة مع المختار البنتلي…
ولنا أيضا خيباتنا التي كنا نملأ بها الحنين إلى صفاء يتمنع أحيانا:
وكنا نشترك في أننا لا نفهم العقل الانتهازي
ونغضب
ونشترك بأننا أقل بكثير من ذكاء الذئاب
ونذهب..
هو إلى ماض
غير قابل للتجديد
وأنا إلى مستقبل
غير قابل للتحديد..
في عز فترة حرب الخليج الأولى، كان تحليله مشفوعا دوما بما يجب أن نربحه، إذا قال عبد الرحيم بوعبيد كلمته، يعزه ويجله وينظر إلى المغرب بعيونه، ومن بين كل المسؤولين معنا في الكتابة والشبيبة، كان بوحجار الأكثر تفهما لغضب الشبيبة وجزء من الأطر في التعبير عن الغضب:ولم يستسهل اعتقال أزيد من 15 إطارا في الشبيبة والحزب، من بينهم العبد الضعيف لربه ورحمته وخيره..
في الحوار مع الإخوة الغاضبين والعمل على عودتهم ..كان يعاند المعاندين ولكنه أيضا يدعو إلى النقد الذاتي وإلى تقييم المرحلة، وسرعان ما ينخرط في العمل، وسط العمال والمعلمين والفلاحين وعمال الاجور وسائقي الطاكسيات محاطا بهالة ماوية تجعله متفردا..
حدة التزامه لم تكن دوما محبذة
وأحيانا تكون موضع سوء فهم تراجيدي..لم يرد يوما الإقرار بأن لجسده طاقة تحمل لا يمكن تجديدها باستمرار، كان كمن يؤمن بأنه كلما انفق عمرا
زاد عمره
وكلما حرق طاقة
ارتفعت طاقته
كما لو أنه كلما استنفد نفسه بين الجريدة كمراسل وعضو قيادي في النقابة الوطنية للتعليم وفي الاتحاد المحلي وفي الجماعة وفي الحزب، كلما ضاعفها بقدرته على العمل والانخراط..
عصفت بنا صراعات أيضا..كنت أجد معه دوما الكلمات التي لا تجرحه وأجد معه الصبر الذي يجعلني ولدا لا ينكر جميله ولا ينكر صدقه ويحفظ له الود..وربما عندما أصابه جرح الحزب في الآونة الأخيرة، كانت آخر زيارته إلى البيضاء وهو يتابع علاجه، إلى مقر الجريدة..في الطابق الخامس حيث أعاد على مسامعي وحواسي
وعلى قلبي وذكرياتي
أياما مرت ووجوها وشخصيات وأحداثا.. وهو يتوجع كمن لا يصدق أن الحياة تعد له نهايتين:
نهاية الحياة
وألم الفراق مع إخوته..
تعفف في ذكر جراحه، وحدثني عن أسماء أثارها واحدا واحدة..
ولم يقتنع بكلامي وأنا أدعوه إلى الانشغال بالراحة اللازمة لمعالجة مرض ليس سهلا ..
كان يعتبر أن نضاله جزء من العلاج المعنوي الذي يفوق الحصص والأدوية والصدمات.. وهو دليل خلوده
وبقاءه…
وقد كان صادقا في ذلك حقا!