حتى في غمرة ما يمر به حزب “العدالة والتنمية” ذو المرجعية الإسلامية، من انقسامات وتبادل الاتهامات الثقيلة بسبب لعنة الحقائب الوزارية، منذ الزلزال العنيف الذي أحدثه إعفاء أمينه العام من مهمة تشكيل الحكومة، وتعويضه برئيس المجلس الوطني سعد الدين العثماني، لإنهاء “البلوكاج” الحكومي الذي دام نصف سنة، وإنقاذ البلاد من حالة الجمود الرهيب.
ورغم ما تناسل من فضائح أخلاقية لمسؤولين جماعيين وجهويين وغيرهم: “الكوبل الحكومي”، “الكوبل الدعوي”، السياقة أثناء السكر الطافح والاتجار الدولي في المخدرات… مازال هناك قياديون كثر وعلى رأسهم محمد يتيم وزير الشغل والإدماج المدني، يصرون على مواصلة التضليل والتلاعب بمشاعر الناس، بادعاء المظلومية واعتماد خطاب الأخلاق والطهرانية، منزهين أنفسهم عن ارتكاب المعاصي والسيئات، واتهام مخالفيهم الآراء والتوجهات بالمفسدين.
ولا يعني تصدر حزبهم نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية، في شتنبر 2015 والتشريعية خلال أكتوبر 2016 أنه توفق في تدبير الشأن العام واستطاع إقناع الناخبين، بل هناك أسباب أخرى منها: استغلال الخطاب الديني وتوفره على كتلة ناخبة ثابتة، فقدان الثقة في المؤسسات والعزوف الكبير عن المشاركة في الانتخابات… فقد كشفت تجربتهم الأولى عن زيف مزاعمهم وازدواجية خطابهم، تنصل كبيرهم من مسؤولياته وإخلاله بوعوده، وتنازله عن صلاحياته الدستورية، مفضلا استبدال شعار “محاربة الفساد والاستبداد”، الذي قاده إلى رئاسة الحكومة بمقولته اللئيمة: “عفا الله عما سلف”، واستمراره في التستر على كبار المفسدين، مكتفيا بالهش والنش من بعيد. ألا يعتبر مثل هذا السلوك، قمة في الجبن وعنوانا عريضا لخيانة الأمانة؟
فعوض تحلي وزراء وبرلمانيي البيجيدي بروح المواطنة الصادقة والحس بالمسؤولية، والقيام بواجباتهم الدستورية، اعتبارا لما يتقاضونه من أجور وتعويضات وامتيازات سمينة، تقتطع من أرزاق الشعب. وتكريس جهودهم في خدمة الصالح العام والدفاع عن هموم وانشغالات المواطنين، خاصة منهم الذين وضعوا ثقتهم في رمز المصباح، معتقدين أنه سينير لهم سبل الأمل ويفتح أمامهم أبواب المستقبل، استطابوا للأسف الشديد لعبة ال”كاشكاش”، بالاختفاء وراء “خربشاتهم” المستفزة للمشاعر على صفحاتهم الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي، بل منهم من يستغلون الموقع الإعلامي للحزب، جاعلين منه منبرا حرا لتصفية حساباتهم الضيقة مع من يعدونهم رموزا ل”التحكم” أو “الدولة العميقة”، وتصريف أحقادهم على خصومهم السياسيين…
ويأتي في مقدمتهم الوزير “السعيد” يتيم، الأكثر دهاء وحربائية وانتهازية. فهو لا يكف عن الثرثرة والتمطيط في تصريحاته وتدويناته، التي كثيرا ما تجر عليه الويلات حتى من داخل الحزب وكتائبه، دون أن يستطيع أحد ردعه بمن فيهم بنكيران نفسه، الذي اكتفى في الأيام الأخيرة بنعته ب”المشبوه”. لكن تهوره يسوقه أحيانا إلى ابتلاع لسانه أو تغيير رأيه بتبريرات واهية. ونستحضر هنا ما رافق فترة انتخاب رئاسة مجلس النواب من لغط، حيث أقام الدنيا وأقعدها على ضرورة احترام الأعراف في تشكيل الأغلبية قبل انتخاب الرئيس، غير أنه ما لبث أن رضخ لواقع الأمور. كما سبق أن وضعه ابنه في موقف حرج أمام الرأي العام، بحصوله على مبلغ 50 مليون سنتيم في لعبة “البوكر” المحرمة شرعا. لكنه لم يجد بدا من التصدي لمنتقديه بدعوى أنها مجرد مسابقة تنافسية، لا ترقى إلى مستوى التحريم، علما أن علماء مغاربة يؤكدون على أنها قمار بواح وحرام صراح. وبالنظر إلى اشتداد الخناق عليه داخل حزبه وذراعه الدعوية “حركة التوحيد والإصلاح”، التي يعد أحد أبرز “منظريها”، اضطر إلى التراجع عن فتواه الخائبة، متذرعا ب”ألا وصاية له على ابنه”.
وفي ظل ما تعيشه شوارع مدننا من احتجاجات، للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد والظلم والتهميش والاضطهاد. وما أبداه الملك محمد السادس خلال المجلس الوزاري المنعقد يوم الأحد 25 يونيو 2017 بالدار البيضاء من حنق شديد، إثر تأخر إنجاز البرنامج التنموي “الحسيمة منارة المتوسط”، وما ترتب عنه من “حراك شعبي” بمنطقة الريف، اندلعت شرارته الأولى منذ 8 أشهر. وما ينتاب المغاربة من قلق عن اعتزام الدولة تعويم الدرهم، الذي قد تكون له تداعيات على قدرتهم الشرائية، وما أثارته قضية ضبط “السلطات” مبلغ 17 مليار سنتيم ببيت رئيس جماعة حد السوالم من جدل واسع، وما تغص به الصحف الوطنية والمواقع الإلكترونية من جرائم مالية هنا وهناك، يصر محمد يتيم على تماديه في نهج سياسة التطبيع مع الفساد: “عفا الله عما سلف”.
ذلك أن لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب، وجهت له اتهاما صريحا بالتستر على الفساد، لرفضه إعطاءها توضيحات عن خروقات سلفه عبد السلام الصديقي، التي كلفت الخزينة العامة الملايين. إذ وقف قضاة المجلس الأعلى للحسابات، على اختلالات مالية خطيرة، طالت جل صفقات سندات الطلب التي فوتتها وزارة التشغيل في عهده، خاصة صفقة تنظيم المنتدى الدولي الثالث للسياسات العمومية للتشغيل، المنعقد بمراكش يومي 2 و3 مارس 2016، والتي كانت جريدة “الأخبار” سباقة إلى فضحها. ناهيكم عن بنائه جدارين عازلين للصوت يهمان مكتبين، بتكلفة مالية خيالية: 40 مليون سنتيم، بينما حددها مختصون في 3 ملايين فقط ! ألا يندرج تمسكه بحجب الحقيقة في إطار رد الجميل لحزب “التقدم والاشتراكية” على مساندته ووفائه المستمرين للبيجيدي؟
نحن اليوم أمام حكومة مضى على تنصيبها شهران ونصف، وعليها أن تدرك جيدا أنها لا يمكن النهوض بأوضاع البلاد والاستجابة لتطلعات العباد، ما لم يشمر أعضاؤها عن سواعدهم وتتظافر جهود الجميع، من أجل تفكيك منظومة الفساد، السهر على تخليق الحياة العامة وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، المنصوص عليه دستوريا في الباب 12، المرتبط بالحكامة الجيدة، وخاصة الفقرة 2 من الفصل 154…
الاثنين 11 يوليوز 2017.