أفرطت الصحافة في تقديم الرئيس الفرنسي الجديد ممثلاً نجيباً للبنوك. لا شيء في دماغه سوى الشيكات. وانسقنا جميعا مع هذا “البروفايل”، حتى أن بعده السياسي العام لم يحظ بما يجب من عناية.
شخصيا لم أكن أعرف أن إيمانويل ماكرون الذي قدمته لنا الصحافة وأصحاب القرار المنهزمون بأنه ولد في حاضنة بنكية، ولا شيء غير ذلك، هو أحد تلامذة الفيلسوف بول ريكور، بل إنه ساعده على كتابه مؤلفه الضخم والعميق “الذاكرة، التاريخ والنسيان”، الصادر عن دار لوسوي. وهو كتاب يدور عن ثلاثية إشكالية حقيقية، يعرّفها بول ريكور نفسه بأنها “جغرافيات محددة ومتداخلة”. القسم الأول في المؤلف، تطلب من الرئيس ماكرون المعرفة الدقيقة بالظاهرة التذكّرية، عن طريق مقاربتها تحت عنوان “الفينومولوجيا”، كما نظّر لها وقاربها هوسيرل. وعليه، لا بد أن اسما قويا، من قبيل هوسيرل، كان “أليفا عنده”. والموضوعة الثانية عن التاريخ، عبر أبستمولوجيا العلوم التاريخية. والثالثة محاورة عاقلة للنسيان، وتأملات فيه، وتندرج ضمن إطار واسع اسمه “هيرمونيطيقا الشرط الإنساني”، وتضمّن النقاش بشأن هذا الشرط شطط الذاكرة والشطط في استعمال النسيان.
لم يكن لي معرفة بهذا لولا مريام ريفو دالون، الفرنسية صاحبة كتاب “المرآة والركح” التي كتبت عنه مقالة مطولة من صفحتين في يومية ليبراسيون الفرنسية، وهو الذي استلهمه كاتب هذه السطور في تدبيج هذه التأملات.
كان عمره 23 سنة عند ارتباطه بالفيلسوف، وقد كان ارتباطا وثيقا ضمن مجموعة معارف من الشخصيات الذين يبرهنون على أنه موجود، والذين ثمّن وجودهم وزكّاه في إطار من التبادل والمساواة في التقدير والاحترام. قد يتبادر إلى الذهن السؤال، شبه المنطقي، التالي: ما هو التأثير المفترض للفيلسوف على السلوك السياسي للرئيس؟ كما قد يعالج السؤال نفسه بسؤالٍ أكبر، يتفادى الإثارة الصحفية، من قبيل كيف يمكن لفلسفةٍ ما، وفلسفة بول ريكور بالذات، أن تسم بميسمها الفعل السياسي؟ إنه السؤال الذي تختزله عبارة شهيرة للفيلسوف بول ريكور نفسه، عندما تحدّث في كتابه “قراءات” عن الفيلسوف باعتباره “مربيا سياسيا”. تقول ميريام دالون: “العلاقات بين الفلسفة والسياسة متوترة، ومتقلبة، وقد بدأت بمأساةٍ نعرفها جميعا، سقراط، الأب المؤسس للفلسفة والأب الرمزي للفلاسفة، تم الحكم عليه بالإعدام من المدينة. وقد تأثر الفيسلوف الابن، أفلاطون، بهذه الكارثة، حتى أنه قال إن  الديموقراطية  ، أي حكم المدينة متطرف، حشد جاهل عرضة لانفعالاته وعواطفه وغرائزه، هذه الديموقراطية هي أبشع نظام سياسي ممكن”.
تتحدّد مهمة الفيلسوف في هذا الباب، حسب الفيلسوفة دوما، في أنه يقوم بإخضاع السياسة لمتطلبات المعرفة والحقيقة،
بحيث يبدو منطقيا أن المملكة الفلسفية، أو الملكية الفلسفية هي “الضامن للسير الحسن والعادل والمنظم للمدينة، غير أن المؤسف في هذا المنطق أن المشروع غير قابل للتنفيذ”، أي أن الملك الفيلسوف لا وجود له فعليا، بما أن السياسية الواقعية الفعلية تكون عرضةً للامتوقع، واللا منتظر، وعرضةً لإكراهات الفعل والتضارب والمنازعة الدائمة بين الآراء.

يبقى الحل، في هذا المشروع المستحيل هو الإعراض عن الكهف، بما هو يرمز إلى الشؤون البشرية، بإعلان إسقاط السياسة لكونها نشاطاً ضرورياً، وغير جدير بالاحترام في الوقت نفسه. وهنا، يسعف نيتشة النزعة الاحتقارية، عندما يقول إن العقول الرديئة كافية للسياسة، وليس لها أن تكون محور انشغال يومي للناس العقلاء.

ماذا عن بول ريكور، وماذا عن تاثيره على ماكرون، إذن؟ هو فيلسوف فرنسي، وعالم إنسانيات معاصر، ولد في فالينس، شارنت، 27 فبراير 1913، وتوفي في شاتيناي مالابري، 20 مايو 2005. هو واحد من ممثلي التيار التأويلي، اشتغل في حقل الاهتمام التأويلي، ومن ثم بالاهتمام بالبنيوية، وهو امتداد لفريديناند دي سوسير. يعتبر رائد سؤال السرد، أشهر كتبه “نظرية التأويل”، عن ­التاريخ والحقيقة والنسيان ­الزمن والحكي­ الخطاب وفائض المعنى. واجه في مساره العلمي امتحان الحدث، وظل الطابع الإشكالي لعلاقات السياسة بالفلسفة حاضنة فكره والعمود الفقري له، وقد نجم عن التفكير فيهما وضع مفارق للسياسة، إذ أنها تجمع في طياتها العقلانية والشر. ترتبط العقلانية فيها، وبالأصل الجماعي لممارستها، أي أنها تعبر عن الإرادة العاقلة في العيش المشترك. ولأنها تندرج، ممارسة وفهما في الديمومة والزمن الطويل، رابطة في ذلك بين الإرث التاريخي، ومشاريع التاريخية للناس والجماعات، فهي تلخص إنسانية الإنسان، وشهادة على هذه الإنسانية.

السؤال التالي: من أين يأتي الشر إلى السياسة. يلتقي في الجواب بول ريكور ومريام دالون في القول إن السياسة “عرضة للعنف والشر وانزلاقات السلطة”. إنها، مهما كانت طبيعة النظام السياسي، أو طبيعة المجتمع، بما في ذلك النظام الديموقراطي ، تعني دوما سلطة القرار وبالتالي قسطا من التحكّمية، والتعسف  . وعندما تحسم السياسة  في قرارٍ ما، فإن هذا الفعل السياسي يكون له ثمنه، أي يكون بالضرورة قرارا جزئيا، وغير منصفٍ، ويعني ضيقا في الاستشراف والتطلع، وفي زاوية الرؤية.
الانحياز التراجيدي للفعل السياسي لا يمكن أن يذوب في التوافق، مهما كان مبرّرا وضروريا. وإضافة إلى مفارقة الفعل السياسي، هناك أيضا مفارقات الخطاب السياسي عند بول ريكور، المربي السياسي لماكرون، حيث “السياسة تملك طريقتها الخاصة في استعمال اللغة، وهو ما يجعل الأخيرة تعاني من الهشاشة”.
النقاش، في الفضاء العمومي، وفي إطار الديموقراطية المعاصرة، حول مفاتيحها الراهنة، من 

قبيل العدالة والأمن والمساواة والسيادة والنمو.. إلخ يضعنا أمام مفاهيم تقف في تحديد جوهري للحكم الجيد أو المجتمع الجيد. وهذه المفاهيم حسب صاحبتنا، دالون، “ليست وحيدة المعنى، بقدرما أنها عرضةٌ للتقديرات المهتلفة. وبالتالي، تكتسي معاني متضاربة، بل تكون ذات شحنات انفعالية، تشجع على الاستخدام والتوظيف والدعاية، بدلا من النقاش”.

وهذا ربما ما يجيده الحاكم العربي، الذي لا يجد في نفسه أي حاجةٍ لكي يكون .. فيلسوفا. إن جزءاً من النقاش الفرنسي يمسّ “الصورة الملكية للرئيس”، لهذا صار، ربما من المفيد العودة الي الفلسفة ويكفي أن نذكر بأن الصحافة تتحدث عن مرحلة ما بعد الانتخابات في فرنسا أخيرا، والتي تميزت ب “تركز السلطات بيد الرئيس إيمانويل ماكرون، مع تراجع دور رئيس الوزراء، واتساع نفوذ حزب ماكرون في البرلمان، فيما يرى محللون أنها بداية عهد الماكرونية”.

وفي مؤشر على هيمنة الرئيس، قرّر ماكرون مخاطبة البرلمان لعرض التوجهات الكبرى لولايته، وعشية البيان السياسي العام لرئيس وزرائه، إدوار فيليب، الذي أفسح له في المجال. وقد انتقدت المعارضة هذا الترتيب، وأعلن نواب حركة فرنسا المتمردة (يسار متشدّد) والنواب الشيوعيون مقاطعتهم جلسة البرلمان، لكيلا يحسب عليهم أنهم جاؤوا لتزكية الملك الرئاسي.

وعلق الباحث في مركز البحوث السياسية (سيفيبوف)، باسكال بيرينو، إن مثل هذا التركيز للسلطة بيد الرئاسة التي تمارس وصايتها على رئيس الوزراء والحكومة والحزب الأغلبي والجمعية الوطنية، يجسّد خصائص الماكرونية التي بدأت ترتسم. وأضاف أن ماكرون، في كتابه “ثورة “، أوضح أنه يريد إعادة إرساء الرئاسة بكامل جلالتها، لكنه تحدث أيضا عن عمل متوازن مع الحكومة، لكنه سريعا ما أرسى خضوعا بدلا من التوازن. .. وهو ما يبرّر دخول الفلاسفة معترك النقاش العمومي، والإعلامي من أجل “تنوير النقاش العام والمساجلات المواطنة”.

 

 

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…