بحيث يبدو منطقيا أن المملكة الفلسفية، أو الملكية الفلسفية هي “الضامن للسير الحسن والعادل والمنظم للمدينة، غير أن المؤسف في هذا المنطق أن المشروع غير قابل للتنفيذ”، أي أن الملك الفيلسوف لا وجود له فعليا، بما أن السياسية الواقعية الفعلية تكون عرضةً للامتوقع، واللا منتظر، وعرضةً لإكراهات الفعل والتضارب والمنازعة الدائمة بين الآراء.
يبقى الحل، في هذا المشروع المستحيل هو الإعراض عن الكهف، بما هو يرمز إلى الشؤون البشرية، بإعلان إسقاط السياسة لكونها نشاطاً ضرورياً، وغير جدير بالاحترام في الوقت نفسه. وهنا، يسعف نيتشة النزعة الاحتقارية، عندما يقول إن العقول الرديئة كافية للسياسة، وليس لها أن تكون محور انشغال يومي للناس العقلاء.
ماذا عن بول ريكور، وماذا عن تاثيره على ماكرون، إذن؟ هو فيلسوف فرنسي، وعالم إنسانيات معاصر، ولد في فالينس، شارنت، 27 فبراير 1913، وتوفي في شاتيناي مالابري، 20 مايو 2005. هو واحد من ممثلي التيار التأويلي، اشتغل في حقل الاهتمام التأويلي، ومن ثم بالاهتمام بالبنيوية، وهو امتداد لفريديناند دي سوسير. يعتبر رائد سؤال السرد، أشهر كتبه “نظرية التأويل”، عن التاريخ والحقيقة والنسيان الزمن والحكي الخطاب وفائض المعنى. واجه في مساره العلمي امتحان الحدث، وظل الطابع الإشكالي لعلاقات السياسة بالفلسفة حاضنة فكره والعمود الفقري له، وقد نجم عن التفكير فيهما وضع مفارق للسياسة، إذ أنها تجمع في طياتها العقلانية والشر. ترتبط العقلانية فيها، وبالأصل الجماعي لممارستها، أي أنها تعبر عن الإرادة العاقلة في العيش المشترك. ولأنها تندرج، ممارسة وفهما في الديمومة والزمن الطويل، رابطة في ذلك بين الإرث التاريخي، ومشاريع التاريخية للناس والجماعات، فهي تلخص إنسانية الإنسان، وشهادة على هذه الإنسانية.
السؤال التالي: من أين يأتي الشر إلى السياسة. يلتقي في الجواب بول ريكور ومريام دالون في القول إن السياسة “عرضة للعنف والشر وانزلاقات السلطة”. إنها، مهما كانت طبيعة النظام السياسي، أو طبيعة المجتمع، بما في ذلك النظام الديموقراطي ، تعني دوما سلطة القرار وبالتالي قسطا من التحكّمية، والتعسف . وعندما تحسم السياسة في قرارٍ ما، فإن هذا الفعل السياسي يكون له ثمنه، أي يكون بالضرورة قرارا جزئيا، وغير منصفٍ، ويعني ضيقا في الاستشراف والتطلع، وفي زاوية الرؤية.
الانحياز التراجيدي للفعل السياسي لا يمكن أن يذوب في التوافق، مهما كان مبرّرا وضروريا. وإضافة إلى مفارقة الفعل السياسي، هناك أيضا مفارقات الخطاب السياسي عند بول ريكور، المربي السياسي لماكرون، حيث “السياسة تملك طريقتها الخاصة في استعمال اللغة، وهو ما يجعل الأخيرة تعاني من الهشاشة”.
النقاش، في الفضاء العمومي، وفي إطار الديموقراطية المعاصرة، حول مفاتيحها الراهنة، من
قبيل العدالة والأمن والمساواة والسيادة والنمو.. إلخ يضعنا أمام مفاهيم تقف في تحديد جوهري للحكم الجيد أو المجتمع الجيد. وهذه المفاهيم حسب صاحبتنا، دالون، “ليست وحيدة المعنى، بقدرما أنها عرضةٌ للتقديرات المهتلفة. وبالتالي، تكتسي معاني متضاربة، بل تكون ذات شحنات انفعالية، تشجع على الاستخدام والتوظيف والدعاية، بدلا من النقاش”.
وهذا ربما ما يجيده الحاكم العربي، الذي لا يجد في نفسه أي حاجةٍ لكي يكون .. فيلسوفا. إن جزءاً من النقاش الفرنسي يمسّ “الصورة الملكية للرئيس”، لهذا صار، ربما من المفيد العودة الي الفلسفة ويكفي أن نذكر بأن الصحافة تتحدث عن مرحلة ما بعد الانتخابات في فرنسا أخيرا، والتي تميزت ب “تركز السلطات بيد الرئيس إيمانويل ماكرون، مع تراجع دور رئيس الوزراء، واتساع نفوذ حزب ماكرون في البرلمان، فيما يرى محللون أنها بداية عهد الماكرونية”.
وفي مؤشر على هيمنة الرئيس، قرّر ماكرون مخاطبة البرلمان لعرض التوجهات الكبرى لولايته، وعشية البيان السياسي العام لرئيس وزرائه، إدوار فيليب، الذي أفسح له في المجال. وقد انتقدت المعارضة هذا الترتيب، وأعلن نواب حركة فرنسا المتمردة (يسار متشدّد) والنواب الشيوعيون مقاطعتهم جلسة البرلمان، لكيلا يحسب عليهم أنهم جاؤوا لتزكية الملك الرئاسي.
وعلق الباحث في مركز البحوث السياسية (سيفيبوف)، باسكال بيرينو، إن مثل هذا التركيز للسلطة بيد الرئاسة التي تمارس وصايتها على رئيس الوزراء والحكومة والحزب الأغلبي والجمعية الوطنية، يجسّد خصائص الماكرونية التي بدأت ترتسم. وأضاف أن ماكرون، في كتابه “ثورة “، أوضح أنه يريد إعادة إرساء الرئاسة بكامل جلالتها، لكنه تحدث أيضا عن عمل متوازن مع الحكومة، لكنه سريعا ما أرسى خضوعا بدلا من التوازن. .. وهو ما يبرّر دخول الفلاسفة معترك النقاش العمومي، والإعلامي من أجل “تنوير النقاش العام والمساجلات المواطنة”.