لم تَكَد حقبةُ المدّ اليساري تنصرم، في خواتيم ثمانينات القرن الماضي، في بلادنا العربية كما في العالم، فتنصرم معها الثقافةُ الثورية- وفي جملتها الشعبوية اليسارية- حتى أطلَّت هذه ثانيةً في رداء جديد، ولكن بمفرداتٍ أخرى غيرِ مألوفة في الحياة العامة. و«المفارِقُ» في المسألة أنها أطلّت من ضفّةٍ أيديولوجية نقيضٍ لضفّة اليسار، التي نبتت في بيئتها (الشعبويةُ) قبْلاً، هي ضفة «الإسلام الحزبي»؛ الأمرُ الذي تأكَّد به أنّ النزعة هذه ليست وليدةَ أيديولوجيا سياسية بعينها- مثلما اعتَقد طويلاً مَن نسبوها إلى الماركسية حصراً- وإنما هي وليدةُ كلِّ نزعةٍ سياسيةٍ غيرِ ذاتِ مضمونٍ سياسيّ واقعي، وغير مبنيةٍ على أيّ رؤيةٍ فكريةٍ إلى السياسة والعمل السياسي، وإلى عملية التغيير الاجتماعي برمّتها! وسرعان ما طفِق الحركيون الإسلاميون، وألسنتُهم الناطقة، يرمِّمون ما تصدَّع، ويُحْيون ما كان في حكم المَوات، فيستأنفون سيرة الشعبوية، بعد انقطاعٍ، بل ويجدِّدون فيها من مَعين ما تفرَّدوا به من موادّ المخاطَبَة الأيديولوجية للشعب والجمهور. تغيّرت معهم، قطعاً، مفردات مألوفة من قبيل: طبقات الشعب، الطبقات الكادحة، الجماهير الشعبية… إلخ، وكان الاعتياض عنها بمفردات أخرى من قبيل: الناس، المسلمون، المؤمنون.. لكنّ منطقَ المخاطَبَة وأدواتها ظلَّ هو نفسه من غيرِ كبيرِ تعديل.
على أنّ جنوح الحزبية الإسلامية للشعبوية اقتضتْه، عندها، موجباتُ انتقالها من لحظة «الدعوة» إلى لحظة السياسة والعمل السياسي، ابتداءً، ثم انتقالها من الميادين المتباينة والطرق المتعرجة للعمل السياسي، إجمالاً، إلى تقفي آثار حزبياتٍ سياسية أخرى في ولوج ميدان العمل السياسي القانوني، بعد طولِ تمنُّعٍ وإباء، ومصالحةِ النفس مع فكرة المشاركة في المؤسسات السياسية للدولة أخيراً. ولما كان على هذا الانتقال أن يعيد تأهيلَ خطابها، وتشذيبَه من آثار النزعة الدّعَوية ومفرداتها الدينية، وأقْلَمتَه مع فروض السياسة وسُنَنها، لم يكن أمام الحزبية الإسلامية غير أن تخوض في ما خاض فيه، قبلها، خصومُها الحزبيون من ضروب المخاطَبَة السياسية للجمهور، خاصةً مع إدراكها المتزايد بالفوائد الجزيلة الناجمة من ركوبها مَرْكب الشعبوية، ومنها يُسرُ استمالة الجمهور من طريق مخاطَبَة مظلوميته الاجتماعية وحرمانه المزمن، أُسوةً بمن سبقها إلى ذلك من كيانات حزبية كان لها أكبرُ حضورٍ في الحياة العامة قبل انتكابها. وما كان الإسلاميون مفتقرين، تماماً، إلى العُدّة والعتاد اللذين بهما يكون تأهيل خطابهم ليلبس لبوس الشعبوية؛ فهُم، وإن كانوا فقيرين إلى الثقافة السياسية لانغماسهم في شؤون «الدعوة» طويلاً، ودوران تفكيرهم على الواجب لا على الممكن، عَبُّوا كثيراً من رصيدهم الدّعوي وضخُّوه في السياسة، حيث ما من شيء يناسبُه – بل يُطابقُه – مثل الشعبوية بما هي، في المطاف الأخير، شكلٌ معاصر من أشكال النزعة الدّعوية.
ولم تَعْدم الشعبوية الإسلامية حيلةً للتميّز والتمايُز من الشعبويات المنصرمة، تجدِّد بها أمرَها؛ فكان من ذلك -مثلاً- استثمارُها الذكيّ لعدم مسؤوليتها، سابقاً، عن السياسات التي فاحت منها روائحُ الفساد، ونُسِب إلى خصومها؛ وهكذا قدّمت للجمهور عن نفسها روايةً بَدَت فيها مثالاً ل «النقاوة» ونظافة الكفّ. ولعلّها استغفلتِ الجمهورَ إياه، في ادعائها الطُّهرانية، أو لعلّها أتقنت استثمار «رأسمالها الأخلاقي» عند الناس (من حيث إنها لم تكن شريكاً في السياسة والحكم قبْلاً)، ولعلّها تكون صدّقت، فعلاً، أنها صاحبة رسالةٍ خلاصية ستؤديها من طريق السلطة. في الأحوال جميعاً، اكتشفت الحزبيةُ الإسلامية أن ركوب الشعبوية، في نطاق خيار العمل السياسي القانوني، أدعى إلى الفائدة، بل أقلّ كلفةً على النفس من خيارات الاعتراض الراديكالي على الدولة والنظام والسياسة باسم الدين؛ فهي في الأداء السياسي الشعبوي – المسموحِ لها به قانوناً – تَمْلِك أن تخاطب من الجمهور الاجتماعي العريض ما لم يكن في مُكْنها مخاطَبةُ عُشر أعشاره في بيئاتها الدّعوية التنظيمية الضيقة؛ وهي، في المخاطَبة تلك، تملك أن تبلِّغ من الرسائل السياسية المباشرة ما لم يكن يسعُها تبليغُه بالخطاب الدينيّ الدعوي؛ إلا أنها- فوق ذلك كلّه- تستفيد من الموارد الدينية في شرعنة خطابها السياسي وأخْلَقَته على نحوٍ لا يبدو معه الإسلاميون – مثلما هُم فعلاً وكغيرهم – طلاَّبَ سلطةٍ ودنيا!
لقد أنفقت الحركات الإسلامية زمناً، غيرَ قليل، في الطعن على عدم التزام المسلمين (الشعب) أحكام دينهم، والتشنيع على انغماسهم في نظامٍ للحياة لا يأتمر بأوامر الدين. وإذا كان المغالون منهم، ممَّن تأثَّروا في مواقف سيّد قطب ومحمد قطب وتلامذتهما، ذهبوا برجم مجتمعات المسلمين بتهمة المجتمعات «الجاهلية»؛ فكفّروها واستحلوا دماء أبنائها، وانتدبوا أنفسهم لأداء «رسالة الدعوة» فيها (وكأن دعوة الإسلام لم تصلها بعد!)، بل وُجِد فيهم مَن هاجر من «المجتمع الكافر» إلى أن يشتدّ عودُه فيأتيه فاتحاً (على طريقة جماعة «التكفير والهجرة» اقتداءً بالهجرة إلى يثرب وصولاً إلى فتح مكة).. فإن الأعمّ الأغلب من الإسلاميين لم تبارِح وعيَه فكرةُ الحاجة إلى إقامة «مجتمع إسلامي» تحكمه «دولة إسلامية». وإذا كان من جديدٍ قد جَدَّ على الفكرة، عندهم، فهو أن الطريق إلى ذلك لم يعد ممكناً سلوكُه بالعنف – كما تفعل الجماعات «الجهادية» المنشقَّة عن «الإسلام الوسطي» – وإنما يمكن قطعُه من خلال أدوات السياسة.. وصناديق الاقتراع. هكذا يُضمِر حديث الإسلاميين في الشعب – صاحب السيادة ومصدر السلطة – الكثير من الكذب الاضطراري الذي حَمَلتْهُم عليه السياسةُ وإكراهاتُها!