رغم مرور أزيد من ثلاثة أشهر على تكليف الدكتور سعد الدين العثماني بمهمة تشكيل الحكومة بدلا عن السيد عبد الإله بنكيران الذي فشل في هذه المهمة؛ ورغم تنصيب الحكومة الجديدة دستوريا (من خلال حصولها على ثقة البرلمان) وانصراف أعضائها لممارسة مهامهم واختصاصاتهم، فإن قرار تعويض بنكيران بالعثماني لا زال يثير بعضا من اللغط السياسي والإعلامي، الذي لا يريد أن ينتهي.
وهذا بالضبط ما دفعني إلى الرجوع لبلاغ الديوان الملكي- الذي بموجبه انتهت مهمة بنكيران فيما يخص تشكيل الحكومة المغربية الجديدة- للوقوف على حقيقة الأمر واستجلاء بعض حيثياته، سواء من حيث دستورية القرار وشرعيته أو من حيث ضرورته وملحاحيته، دون التوهان في قراءة ما بين السطور ودون الخوض في الخلفيات التي تحرك هذه القراءة أو تلك أو الوقوع ضحية لبعضها.
ويتضح من قراءة (والأصح، إعادة قراءة) البلاغ المذكور أن قرار الملك منسجم تمام الانسجام، نصا وروحا، مع مقتضيات الوثيقة الدستورية ومحترم تمام الاحترام للمنهجية الديمقراطية. وهذا ما أجمع عليه (أو يكاد)المحللون والمتتبعون، وفي طليعتهم، المتخصصون في القانون الدستوري.
وهنا، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ماذا كان ينتظر بنكيران وقد فشل في تشكيل الحكومة فشلا محققا، تعطلت معه جل المؤسسات الدستورية وتعطلت بذلك مصالح البلاد والعباد لمدة تقارب نصف سنة كاملة؟ وبالتبعية، وأمام هذا الهدر البيِّن للزمن السياسي، الذي لا يحتمله الوضع الاقتصادي والاجتماعي الهش ببلادنا، ما ذا كان يتوقع أو ينتظر من يتباكون الآن على بنكيران ويتألمون لطريقة إعفائه؟
نتذكر جيدا اعتكافه ببيته وتحويله إلى مقر لإجراء المشاورات الحكومية وإلى قاعة للاستقبال، وهو متحلل من كل الرسميات، بما في ذلك المرتبطة بالهندام، ومنها ربطة العنق التي ألفها واستأنس بها خلال الخمس سنوات التي قضاها على رأس الحكومة، مكتفيا بارتداء”قشابة” (تشامير، دراعة، بدعية، فوقية…وغيرها من الأسماء التي تطلق على هذا اللباس بحسب كل منطقة من مناطق المغرب، المتنوع والمتعدد ثقافيا ولغويا وعرقيا وجغرافيا… )، وكأنه في رخصة مرض أو في فترة نقاهة أو، على الأقل، في عطلة.
كما نتذكر بعض خرجاته الإعلامية، التي يحضر فيها التهريج ودغدغة العواطف ويغيب عنها التبصر والحكمة والخطاب السياسي الرصين والمتعقل، قبل أن يصوم عن الكلام (إلا ما كان من قبيل “إلى دْخَلْ الاتحاد الاشتراكي للحكومة، أنا ماشي عبد الإله”؛ ناسيا أو متناسيا بأن الأمر قد أصبح من باب تحصيل الحاصل بعد تمكن الاتحاد من ترؤس مجلس النواب في شخص الأخ الحبيب المالكي) و”يضرب” (من الإضراب) عن الفعل، وكأن أمور البلاد ومصالح العباد لم تعد تهمه في شيء، خاصة بعد أن وصلت المشاورات الحكومية إلى الباب المسدود، بفعل تعنته غير المفهوم وتنطعه غير المقبول سياسيا. وما بلاغ “انتهى الكلام” الذي أقفل به باب المشاورات في وجه الحلفاء المحتملين، إلا تعبير عن غياب الحكمة والحصافة ودليل عن عدم تقدير ظروف البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعدم استيعاب الرهانات الوطنية.
أمام هذا الوضع، كان لا بد من تدخل أعلى سلطة في البلاد لوضع حد لوضعية الجمود التي تسبب فيها بنكيران نفسه، بوعي أو بدونه؛ وذلك بخلق شروط فشله في مهمته. لقد أبان عن ضيق الأفق وغياب بعد النظر من خلال تمسكه بمفهوم ضيق للديمقراطية وللمنهجية الديمقراطية؛ كما أبان عن عدم استيعاب روح دستور 2011، ناهيك عن النظرة المتعالية تجاه الحلفاء المحتملين؛ إلى غير ذلك من العوامل التي خلقت الشروط المناسبة لسيادة ما اصطلح على تسميته بـ”البلوكاج”.
وبعد صدور بلاغ الديوان الملكي، لم تَحُلْ دستورية قرار الملك وقوة مبرراته السياسية والمؤسساتية (التي لم تجد، أماها، قيادة “البيجيدي” من مخرج آخر غير الرضوخ للأمر الواقع والاستسلام للمنطق السياسي والدستوري)، دون نشاط خطاب المظلومية وارتفاع منسوب استهلاكه، وبشكل ملفت، داخل صفوف العدالة والتنمية، سِمَتُهُ الأساسية الغلو، واللغو أيضا؛ وهما، على كل حال، صنوان أو وجهان لعملة واحدة. أما “الكتائب” المعلومة، المجندة في الإعلام الإليكتروني وفي وسائط التواصل الاجتماعي، فقد تحركت وبقوة لتهاجم الدولة ورئيسها الذي نعتته بـ”راعي البلوكاج”.
وقد أورد موقع “الزنقة 20” بعض التغريدات وبعض التعليقات “لعدد من قيادات الحزب واللجان الإلكترونية له تهاجم الملك والدولة”، حسب تعبير الموقع؛ مضيفا أن “قيادي بشبيبة الحزب الإسلامي (كتب) مهاجماً بلده ووطنه المغرب واصفاً الوطن بـ’دولة الكلاب’، قبل أن يسترسل في كيل السب والشتم للدولة ورموزها معتبراً أن ليلة صدور بيان الإعفاء هي ‘ليلة مظلمة'”.
ولم ينحصر التعبير عن عدم قبول مسوغات وحيثيات القرار الذي نحن بصدده في الشباب أو في الأعضاء العاديين؛ بل شمل أيضا قيادات وازنة في الحزب الذي يقود الحكومة. فمن خلال ما أطلعتنا عليه بعض وسائط التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الإليكترونية من مواقف إما لمسؤولين عن مؤسسات حزبية أو مؤسسات دستورية (رئيس الفريق بمجلس النواب و رئيس الفريق بمجلس المستشارين) أو لأعضاء فيها (أعضاء بالأمانة العامة للحزب، أعضاء بمجلس النواب أو مجلس المستشرين أو بمجالس الجهات أو الجماعات المحلية…)، نجد الكثير من الكلام الذي يسهل إدخاله إما في خانة اللغو (أي الكلام الزائد وغير المفيد) أو في خانة الغلو (أي المبالغة) أو هما معا؛ خاصة فيما يتعلق بتقدير آثار القرار، حيث تم التركيز على قساوته والتغاضي على دستوريته ومبرراته السياسية، أو فيما يتعلق بمسببات القرار نفسه (المراوحة بعد التوقيف الإرادي للمشاورات الحكومية) التي اعتبروها صمودا وعنوانا للبطولة أو زهدا في المنصب، الخ.
وربما هذا (ونقصد المواقف الشبابية المتطرفة ومواقف بعض المسؤولين عن المؤسسات الحزبية والمؤسسات الدستورية) ما دفع موقع “زنقة 20” إلى القول بأن “قرار الملك محمد السادس بإعفاء عبد الإله بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية من تشكيل الحكومة المغربية، كشف عن التطرّف الذى يتصف به عدد من أعضاء الحزب – الإسلامى وذراع الإخوان في المغرب – وحقدهم الدفين لكل ما هو مؤسساتي”.
ومن خارج صفوف العدالة والتنمية، نشط، أيضا، خطاب اللغو والغلو، إما بهدف صب الزيت على النار؛ وذلك بتغذية المزايدات وترويج الإشاعات والنفخ في الجزئيات لدفع الحزب إلى مواقف متطرفة؛ وإما بهدف التشفي والشماتة في بنكيران وحزبه. ويتضح ذلك من خلال بعض الألفاظ التي لا تمت للسياق السياسي والدستوري بصلة، من قبل استعمال لفظ العزل أو الطرد في توصيف حدث تعويض بنكيران بالعثماني في مهمة تشكيل الحكومة.
ويبدو لي، من خلال هذه النازلة وما يتصل بها من تفاعلات سواء القبلية منها أو البعدية، أن تردي الخطاب السياسي لا يزداد إلا تكريسا واستفحالا وهامش الثقافة السياسية والديمقراطية لا يزداد إلا ضيقا وانحصارا.