في مستهل هذه الورقة المتواضعة، تجدر الإشارة إلى أن كلمة “طنطنة” الواردة في العنوان أعلاه، هي مصدر من فعل “طنطن” أي صوت أو رن تباعا، جاءت في معاجم اللغة بدلالات متعددة، وقد تستعمل في صوت الذباب والنحل وغيرهما. ومن أبرز معاني الطنطنة، صوت الطنبور وضرب العود ذي الأوتار مرة بعد مرة، وتفيد أيضا الدندنة، وكثرة الكلام والتصويت به والكلام الخفي. وعندما نقول بالعامية مثلا: “الحال مطنطن”، فإننا نقصد أن الجو شديد الحرارة.
وبالفعل تعيش منطقة الريف في ظل أجواء ملتهبة، بفعل الحراك الشعبي الساخن، الذي لم يفتأ نشطاؤه يبدعون الكثير من أشكال الاحتجاج السلمي، منذ مصرع بائع السمك الشاب محسن فكري، داخل شاحنة لطحن الأزبال يوم الجمعة 28 أكتوبر 2016، لتنطلق الشرارة الأولى من غضب سكان الريف، والخروج للتنديد بالجريمة النكراء والمطالبة بمحاكمة الجناة. ومن ثم تفاقمت الأزمة وتوالت التظاهرات والمسيرات، للتعبير عن الاستياء العميق مما آلت إليه أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية من ترد صارخ، وما يعانونه منذ سنوات من حيف وهوان وتهميش وإقصاء… فبعد الشموع والورود الشعارات القوية، للمطالبة بإنصافهم وحمايتهم مما يتعرضون له نهارا جهارا أمام عيون العالم ومسامعه من حملات قمعية ومطاردات محمومة وخنق الحريات، لجأوا إلى وسيلة أخرى ذات رمزية خاصة، وهي “الطنطنة” الليلية، متمثلة في قرع الأواني ببعضها من على الشرفات وفوق السطوح، بعد العودة من صلاة التراويح وإطفاء الأنوار، تضامنا مع إخوانهم القابعين في غياهب السجون بتهم ثقيلة.
وهم بذلك يؤكدون على تشبثهم بضرورة الإفراج عن زملائهم وتلبية مطالبهم الاجتماعية والاقتصادية المشروعة، وتحديهم للمقاربة الأمنية وتجاهل المسؤولين لاحتجاجاتهم. ويبعثون أيضا برسائل مباشرة لمن يهمهم الأمر حول فقدانهم الثقة في السلطات، وعدم إيمانهم بوساطة مؤسسات البرلمان والهيئات السياسية ومجالس الأقاليم والجهات وغيرها، مصرين على مواصلة النضال والاحتجاج في إطار القانون، مهما كلفهم الأمر من “ضرائب” إضافية، وغير مبالين بما يحاك ضدهم من مؤامرات مكشوفة في تأليب الناس عليهم وتلفيق التهم الباطلة، بهدف شق صفوفهم ونسف حراكهم، رغم أنهم أبدوا في عدة مناسبات اعتزازهم بمغربيتهم حتى دون رفع الأعلام الوطنية، نافين عن أنفسهم أية نزعة انفصالية، بل يرون أن الدولة هي من فصلت منطقتهم عن باقي المناطق الأخرى، من حيث التهميش والاحتقار والتلكؤ في تنفيذ المشاريع التنموية الملكية “الحسيمة منارة المتوسط” نموذجا.
بيد أن كل المحاولات القمعية اليائسة وتلفيق التهم البئيسة، لم تزدهم إلا تلاحما وتماسكا، نساء ورجالا، شبابا وشيوخا. وجعلتهم يكسبون تعاطف الجماهير الشعبية داخل البلاد وخارجها، ولعل في مسيرة 11 يونيو 2017 التضامنية بالعاصمة الرباط خير دليل على ذلك. فضلا عن استقطاب آلاف المواطنين في مختلف ربوع الوطن، اتساع رقعة الاحتجاجات وامتدادها إلى سائر المناطق التي طالها الإهمال ولم تنل حظها من التنمية…
فعلى مدى ثمانية شهور من النضال والصمود، مازال سكان منطقة الريف عازمين على شق طريقهم بثبات صوب ما رسموه لأنفسهم من أهداف نبيلة، غير مكترثين بما يتلقونه من ضربات موجعة سواء على أيدي الأجهزة الأمنية وبعض “البلطجيين” في مواقع التواصل الاجتماعي وخارجها، أو على أيدي الأعداء والمغرضين الساعين إلى إشعال النار من خلف الستار، ولا مبالين بما يلاقونه من شطط واستفزازات واعتقلات وملاحقات واختطافات قسرية وحصص تعذيب جسدي ونفسي في مخافر شرطة وأحكام جائرة…
ويكفي “الريفيين” شرفا أن حراكهم لم يكن منحصرا في التنديد بالمقتل المأساوي للسماك فكري، الذي سيظل وصمة عار في جبين مغرب القرن الواحد والعشرين، ولا في عودة الحكومة إلى تبرئة النشطاء من دعوات الانفصال وتلقي أموال خارجية، بل تجاوز ذلك إلى التنبيه بما صار يتهدد البلاد من “براكين” قد تشتعل في أي لحظة، بسبب فشل السياسات العمومية وتفشي الرشوة والمحسوبية والفساد الإداري والمالي، وانعدام الشفافية والحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة والتوزيع العادل للثروة واستمرار الفوارق الاجتماعية والمجالية… والكشف عما أصبح المغرب يعرفه من نكوص ديمقراطي، وعبث سياسي واقتصادي وحقوقي، وما يحسه المواطنون من إحباط وخيبة أمل، بعدما اعتقدوا صادقين أن “الرياح” التي جاءت بدستور 2011، قادرة على حملهم نحو عالم الازدهار والنماء…
وأهل الريف ليسوا في حاجة إلى “إطفائيين” مزيفين، بقدرما هم في حاجة إلى مسؤولين حقيقيين، يحرصون على توفير العيش الكريم والعدالة الاجتماعية والحرية للمواطنين، وليس على إنتاج الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، إذ كيف لهم الوثوق بوساطة من ساهموا في تجويعهم وتفقيرهم؟ وفي جميع الأحوال لا ينبغي أن تخرج منطقة الريف خاوية الوفاض ومهيضة الجناح من معركة الكرامة، التي خاضها أبناؤها بعزيمة وإصرار، وأبانوا عن نضجهم وعلو كعبهم في التنظيم، ولا أن ينتهي الحراك الشعبي إلى مجرد صرخة في واد عميق، بل أن يكون بداية دينامية جديدة للمطالبة بالإصلاحات الكبرى وتفكيك منظومة الفساد…
نحن اليوم أمام جيل جديد واع ومنضبط، وعلى الدولة والنخب السياسية التقاط رسائله، والعمل على تأطيره واستثمار مؤهلاته. فقد حان الوقت لإعادة النظر في السياسات العامة، وبات ضروريا التعجيل بوضع خارطة طريق بتدخل ملكي لنزع فتيل التوتر السائد، وتغليب المصلحة العليا للوطن بلا غالب ولا مغلوب، عبر الإفراج عن المعتقلين وإعادة بناء الثقة المنهارة، العودة إلى الهدوء والاستقرار والانكباب على إنجاز المشاريع المبرمجة: مستشفى، جامعة، بنية تحتية وسد…