معلوم أن المسلمين اشتغلوا، منذ القرن الثاني من الهجرة، بالفلسفة، ترجمة وتأليفا، على اعتبار أن الفلسفة تشمل مختلف المعارف المحصَّلة، علمية كانت أو فكرية؛ وقد اتخذ هذا الاشتغال الإسلامي بالفلسفة اتجاهين اختلفا باختلاف هذه المعارف، فاتَّسم أحدهما بالعطاء والإبداع، وذلك في مجال المعارف ذات الصبغة العلمية مثل “الرياضيات” و”الطبيعيات” و”الطب”؛ في حين اتَّسم الاتجاه الثاني بالتقليد والتبعية، وذلك في مجال المعارف ذات الصبغة الفكرية مثل “ما بعد الطبيعة” و”علم الأخلاق” و”علم السياسة”؛ وفي هذا مفارقة واضحة، حيث إن الأصل في المعرفة الإسلامية أن لا تقل فيها مكنونات المجال الفكري عن ممكنات المجال العلمي، بحكم صلتها بدين جديد جاء للعالمَين بمبادئ وقيم مُميَّزة تفتح للفكر الإنساني آفاقا غير مسبوقة.
ولما استقلت العلوم بنفسها وأضحى مجال الفلسفة منحصرا في الجزء الفكري من المعارف الإنسانية، فقد صار التقليدُ والتبعية السمةَ المميِّزة للفلسفة الإسلامية برمّتها، قديما وحديثا ؛ ولا شيء أدعى إلى موت العقل الفلسفي في الأمة من هاتين الآفتين: “التقليد” و”التبعية”؛ لذلك، يتعيّن أن ننهض إلى دفع هذا الموت الفلسفي الذي بات يتهدَّدها ؛ ولا سبيل إلى دفعه إلا بأن يُحصّل مفكروها القدرة على الاستقلال عما ينقلون وعلى الإبداع فيما ينتجون، علما بأنه لا إبداع إلا مع وجود الاستقلال، ولا استقلال إلا مع وجود الإبداع؛ فلنسأل إذن كيف نحصّل هذه القدرة على الإنتاج الفلسفي المبدع والمستقل؟
معلوم أن تعامل المسلمين الفكري مع القول الفلسفي يتمثل فيما حصَّلوه من أغراضه أو مقاصده، بناء على ما نقلوه وحفظوه من نصوص فلسفية معلومة، لكن ذلك جعلهم يجمدون على محتويات هذه النصوص ويتمسكون بحرفيتها؛ والحرفية لا تولِّد إلا التبعية، على فرض أن هذه الحرفية تحفظ الأصول؛ وحتى نَخرج من هذه التبعية الفلسفية، يتعين أن نطوي طور تحصيل الأغراض أو المقاصد الفلسفية، ونجاوزه إلى طور ثان من فوقه، وهو الاشتغال بتعليل هذه الأغراض والمقاصد؛ والمراد بـ”التعليل” هو الوقوف على العلل المختلفة التي أدت إلى إنشاء الأغراض أو المقاصد الفلسفية؛ ومِثْلُ هذا التعليل يستلزم أن نُعامِل القول الفلسفي على أنه جملة ظواهر خطابية موضوعية تَحكمها قوانين محددة، مَثلُها في ذلك مَثل الظواهر اللغوية؛ وواضح أن المعاملة التي تكون بهذا الوصف هي حتما معاملة علمية صريحة.
يترتب على هذا أن تحصيل القدرة على الإبداع والاستقلال يوجب تحصيل فرع علمي جديد، يمكن أن نطلق عليه اسم “علم القول الفلسفي”، أي العلم الذي يتخذ ظواهر القول الفلسفي موضوعا له، متوسِّلا في ذلك بالمناهج المقررة في مجال المعرفة النظرية؛ وقد ينقسم هذا الفرع العلمي إلى قسمين يختلفان باختلاف التعليل الذي تخضع له ظواهر القول الفلسفي:
فهناك “التعليل السبَبي”، أي التعليل الذي يتعلق بالأسباب التي تؤثر في إنشاء مضامين القول الفلسفي، أي، باختصار، يتعلق بسياقات أو ظروف إنتاج هذا القول؛ ويمكن أن نخص هذا القسم الأول من علم القول الفلسفي باسم “فهم القول الفلسفي” ، وتدخل تحته الدراسات الاجتماعية والتاريخية والسياسية والثقافية والإناسية للقول الفلسفي، أي الأبحاث التي تتوسل بما يسمَّى في التراث بـ”علوم المقاصد”.
وهناك “التعليل الآلي”، أي التعليل الذي يتعلق بالآليات التي يُتوصّل بها إلى بناء صُوَر القول الفلسفي، أي، باختصار، يتعلق بآليات أو أدوات إنتاج القول الفلسفي، ونخصُّ هذا القسم الثاني من علم القول الفلسفي باسم “فقه القول الفلسفي”، وتندرج فيه الدراسات اللسانية والبلاغية والمنطقية والحجاجية والكلامية والأصولية للقول الفلسفي، أي الأبحاث التي تتوسل بما يُسمّى، في التراث، بـ”علوم الآلات”.
مع ذلك، يبقى أن اشتغال المتفلسف المسلم بعلم القول الفلسفي بشقيه: “فهم القول الفلسفي” و”فقه القول الفلسفي”، لا يوصِّله بالضرورة إلى مبتغاه الذي هو الإبداع في إنتاجه والاستقلال في فكره؛ ويرجع ذلك إلى مفهوم القول من حيث هو كذلك، إذ أن وضعه ليس واحدا في كل مجالات التداول، بل يختلف باختلافها؛ وعلى هذا، فإن القول الفلسفي من حيث هو قول لا يتخذ في المجال التداولي للمتفلسف المسلم نفس الصورة الذي يتخذها في المجال أو المجالات التداولية التي ينقل عنها ـ كالمجال اليوناني قديما والمجالات الغربية حديثا ـ ولا هو ينزل في مجاله نفس الرتبة التي ينزلها في هذا المجال أو المجالات الثانية؛ وبيان ذلك أن أحد مقتضيات مجال التداول الإسلامي هو أن القول فيه لا ينفك عن الفعل، حتى إن الفعل يصير ميزانا يوزن به القول، صدقا ونفعا، بحيث ينزل الفعل رتبة تعلو على رتبة القول، بينما لا نجد نفس المقتضى في مجال التداول غير الإسلامي، إذ يكون فيه القول منفكا عن الفعل، حتى إن القول هو الذي يصير ميزانا يوزن به الفعل، معقولية ومشروعية، بحيث ترقى رتبة القول على رتبة الفعل.
وإذا ظهر أن الفعل يظل ملازما للقول في مجال التداول الإسلامي، وجب أن ينتقل المتفلسف المسلم إلى طور ثالث قد لا يلزم غيرَه الانتقالُ إليه، وهو الاشتغال بتعليل فعل الفيلسوف أو قل الفعل الفلسفي؛ والمراد بهذا التعليل كشف العلل التي تُحدِّد أفعال وتصرُّفات الفيلسوف؛ ويقتضي هذا التعليل، هو الآخر، أن يكون الفعل الفلسفي عبارة عن ظواهر سلوكية موضوعية تضبطها قوانين محددة، مَثلُها في ذلك مَثل الظواهر الاجتماعية؛ وهذا يعني أن هذا المتفلسف مطالب أن يُحصّل فرعا علميا ثانيا نطلق عليه اسم “علم الفعل الفلسفي”، أي العلم الذي يتخذ ظواهر الفعل الفلسفي موضوعا له، متوسِّلا في ذلك بالمناهج المقررة في مجال المعرفة العملية؛ وقد ينقسم هذا الفرع العلمي الثاني، هو بدوره، إلى قسمين يختلفان باختلاف التعليل الذي تخضع له ظواهر الفعل الفلسفي:
فهناك “التعليل السبَبي”، أي التعليل الذي يتعلق بالبواعث التي تؤثر في حصول الفعل الفلسفي، أي بإيجاز، يتعلق بظروف إنتاج هذا الفعل؛ ونخص هذا القسم الأول من علم الفعل الفلسفي باسم “فهم الفعل الفلسفي”.
وهناك “التعليل الآلي”، أي التعليل الذي يتعلق بالكيفيات التي يتحصَّل بها الفعل الفلسفي، أي، بإيجاز، يتعلق بأدوات إنتاج الفعل الفلسفي، ونخصُّ هذا القسم الثاني من علم الفعل الفلسفي باسم “فقه الفعل الفلسفي”.
وعلى الجملة، فإن اكتساب القدرة على التفلسف المبدع والمستقل لا يُغني فيه مطلقا الاقتصار على تحصيل أغراض المقالات الفلسفية على طريقة فلاسفة الإسلام ولا، بالأوْلى، على طريقة المتفلسفة المحدثين، وإنما يتعيّن تحصيل علم جديد نسميه “علم الفلسفة”؛ وموضوع هذا العلم هو الظواهر الفلسفية، أقوالا وأفعالا، ومنهجه هو التعامل الموضوعي مع هذه الأقوال والأفعال على طريقة تعامل العلوم الأخرى مع موضوعاتها؛ ويتفرّع علم الفلسفة إلى قسمين: أحدهما، “فهم الفلسفة”، وموضوعه هو ظروف إنتاج الفلسفة، قولا وفعلا، ومنهجه مأخوذ من مناهج علوم المقاصد؛ والثاني “فقه الفلسفة”، وموضوعه هو أدوات إنتاج الفلسفة، قولا وفعلا، ومنهجه مأخوذ من مناهج علوم الآلة.
ولم يَبلغنا قط أن المشتغلين بالفلسفة من مفكري الأمة، متقدمين كانوا أو متأخرين، حاولوا تأسيس مثل هذا العلم، أي “علم الفلسفة”، ولا حتى حصّلوا الوعي بالحاجة إلى هذا التأسيس ولو أن حاجتهم إليه أشدُّ من حاجة من ينقلون عنهم، لأن هؤلاء الفلاسفة المنقول عنهم يكابدون ظروف إنتاج ما أنتجوه، وفي هذه المكابدة غَناء لهم عن العلم بهذه الظروف، في حين أن مقلديهم من المسلمين لم يكابدوا هذه الظروف، فيلزمهم العلم بخواصّها؛ كما أن هؤلاء الفلاسفة ارتاضوا على أدوات إنتاج ما أنتجوه، حتى استبطنوا قواعدها، وفي هذا الاستبطان غَناء لهم عن العلم بهذه الأدوات؛ بينما مقلدوهم من المسلمين لم يرتاضوا قط على تلك الأدوات مثل هذا الارتياض، فيلزمهم العلم بأسرارها.
كما لم يبلغنا أن الفلاسفة المنقول عنهم، متقدمين كانوا أو متأخرين، اشتغلوا بتأسيس “علم الفلسفة” وإن حصّل بعض المتأخرين منهم الوعي بإمكان قيام هذا العلم؛ ويتجلى هذا الوعي في بعض الدراسات الاجتماعية والتاريخية “المادَّانية” التي تتناول ظروف إنتاج الفلسفة، وأيضا في بعض الدراسات اللغوية والمنطقية الوضعانية التي تتناول أدوات إنتاج الفلسفة؛ ولولا أن قصد هذه الدراسات يناقض قصد “علم الفلسفة”، لجاز إدخال الصنف الأول من هذه الدراسات في باب “فهم الفلسفة”، وإدخال الصنف الثاني منها في باب “فقه الفلسفة”، ذلك أن قصدها ليس إقدار المتفلسف على الإبداع والاستقلال كما هو قصد علم الفلسفة، وإنما، على العكس من ذلك، هو القدح في الفلسفة والتنفير منها.
لذلك، أخذتُ على نفسي أن أضع بعض أصول هذا العلم، مؤمّلا فتح الطريق لغيري من الدارسين ولمن شغَفَه حب الفلسفة، حتى يواصلوا هذا التأسيس والبناء على هذه الأصول، لأن مثل هذا العلم أوسع من أن تحيط به جهود باحث واحد، ولا حتى جهود الجيل الواحد من الباحثين؛ واستقر رأيي على أن أقدِّم الاشتغال بفرع “فقه الفلسفة” من هذا العلم على الاشتغال بفرع “فهم الفلسفة”، وذلك لِسببين اثنين:
أحدهما أن فقه الفلسفة يدور على الجانب التقني من الفلسفة، متمثلا في آليات النظر وكيفيات العمل؛ ولا شكَّ أن الإحاطة بهذا الجانب تورّث مهارة صناعية لا تُورِّثها الإحاطة بالجانب المضموني الذي يدور عليه “فهم الفلسفة”؛ فكان هـمّي الأول هو أن يكتسب المتفلسف هذه القدرة الصناعية؛ فلو فرضنا أن المتفلسف أحاط علما بظروف إنتاج نص فلسفي مخصوص، ولكنه لم يُحط علما بأدوات إنتاج هذا النص، فيبعد أن يقدر على ما يقدر عليه لو أنه تَمكَّن من ناصية هذه الأدوات، مع وجود جهله بظروف الإنتاج.
والسبب الثاني أن مقتضى فقه الفلسفة يناسب خصوصية المجال التداولي الإسلامي، ذلك أنه لا شيء من المعرفة في هذا المجال، كما تقدم بيانه، إلا ويوزن بميزان العمل، بحيث لا يُعتدُّ بالعلم الذي لا يُستعمَل أو لا يورّث عملا؛ والتقنية الفلسفية التي يختص فقه الفلسفة ببحثها إنما هي عبارة عن طرائق تطبيقية؛ وهذا الجانب التطبيقي يوافق، بالذات، التوجه العملي العام للمجال التداولي الإسلامي؛ فكان هـمّي الثاني هو أن يستخدم المتفلسف هذه التقنية الفلسفية المناسبة في بناء فلسفة إسلامية عربية حقيقية، أي فلسفة تكون ظروف وأدوات إنتاجها منطبعة بالخصوصية العملية للمجال التداولي الإسلامي العربي.
وعلى هذا، يكون غرضي من الاشتغال بفقه الفلسفة غرضين اثنين:
أولهما، كشف أسرار التقنية في القول الفلسفي والفعل الفلسفي المعهودين؛ واضح أن هذا الكشف يقتضي تحديد “مفهوم الفلسفة” قبل المُضي فيه، فكان أن وضعتُ المسلَّمة التالية، وهي: “أن الفلسفة، قولا كانت أو فعلا، لا تنفك تتأثر بمقوّمات المجال التداولي للفيلسوف”، وأسَمّيها “مسلَّمة تداولية الفلسفة”؛ فلا تزال أقوال الفيلسوف وأفعالُه تستوفي مقتضيات هذا المجال، حتى ولو بدا عليها ظاهر مخالفة بعضها، لأن مراده بهذه المخالفة ليس نبذ هذه المقتضيات ولا كسر هذا المجال، وإنما هو تجديد هذا العنصر التداولي أو ذاك، تقويةً لروح التواصل في هذا المجال المشترك؛ والداعي إلى اختياري لهذه المسلّمة دون غيرها هو أن الوفاء بالمقتضيات التداولية هو وحده الذي يُمكّن الفيلسوف من إقامة أسباب التواصل بينه وبين غيره من أفراد هذا المجال، فضلا عن أنه بإمكانه استثمار دلالات وإشارات هذه المقتضيات التداولية في بناء فكره وترسيخه.
والغرض الثاني هو التوسل بهذه التقنية الفلسفية غير المعهودة في إنشاء فلسفة إسلامية؛ واضح أيضا أن هذا التوسّل يقتضي تحديد “مفهوم الفلسفة الإسلامية” قبل الشروع فيه، فكان أن وضعتُ المسلَّمة التالية، وهي: أنه ينبغي للفلسفة الإسلامية أن تتوسل بهذه الآليات المستنبطة، منطلقةً، في صوغ مقاصدها ودعاويها وإشكالاتها، من نقد الواقع العالمي الذي تأسَّس على فلسفة غير إسلامية؛ وأسمّيها مسلَّمة “نقدية الفلسفة الإسلامية”؛ والداعي إلى اختياري لهذه المسلَّمة دون سواها هو أن هذه التقنية الفلسفية، ككل التقنيات، تحظى، من ذاتها، بشيء من الحياد، إذ يمكن أن يوظفها الفيلسوف في بناء أي فكر فلسفي شاء، في حين أن فادئدتها بالنسبة لي، ها هنا، هي، على التعيين، أن أستخدمها في إنشاء فلسفة ذات طابع إسلامي تجمع إلى راهنية مضمونها جدلية منهجها.
وهيهات أن أُوفي هذين الغرضين حقهما ولو أنسئ في عمري؛ وعندئذ، لم يكن لي مفرٌّ من أن أكتفي بشواهد مخصوصة على إمكان تحقيق الغرضين، فأصوغ نماذج معدودة من التقنية الفلسفية وأبني بواسطتها نماذج محدودة من الفلسفة الإسلامية؛ لكن، على الرغم من أن بلوغ هذين الهدفين، على تمامهما، يحتاج إلى تعاضد جهود الكثيرين وتواصلها لزمن غير مسمّى، فإن المسلَّمتين المذكورتين اللتين انبنى عليهما هذان الغرضان، وهما: “مسلَّمة تداولية الفلسفة” و”مسلَّمة نقدية الفلسفة الإسلامية”، تفيدان في تكوين تصوُّر مفصَّل لكيفيات تحقيقهما.
وهكذا، فقد أفادتني مسلَّمة تداولية الفلسفة في تَصوُّر مجمل الكيفيات التي يتحقق بها الغرض الأول الذي هو “استنباط التقنية الفلسفية”؛ وبيان ذلك أن هذه المسلمة، لما كانت تُقرِّر بأن الفلسفة، على خلاف الرأي الشائع، ليست معرفة أو ممارسة كونية خالصة، وإنما تجمع بين الكونية المقصدية والخصوصية التداولية، بل تبني الكونية المقصدية على الخصوصية التداولية، فقد لزم التفريق في القول الفلسفي والفعل الفلسفي بين جانبين اثنين: الجانب الكوني أو العمومي الذي سمَّيته “المكوِّن العباري”، فالعبارة تفيد هنا أن المقصود منها تشترك جميع مجالات التداول في الأخذ به؛ والجانب المحلي أو الخصوصي الذي سمّيته “المكوِّن الإشاري”؛ فالإشارة تفيد هنا أن المقصود منها تنعكس فيه خصوصية مجالات التداول بحيث يختلف باختلافها.
وبناء على هذا التفرقة الأصلية بين المكوِّنين: العباري والإشاري، ميّزت في التقنية الفلسفية المستويات التالية:
أولها تقنية الترجمة؛ وتوجب التفريق بين “النقل” و”التحويل”؛ وقد اتضح في الكتاب الذي خصَّصته لهذه التقنية الأولى كيف أن النقل يتعامل مع القول الفلسفي الأصلي بكليته تعاملا عباريا، وكيف أن التحويل، على العكس من ذلك، يقضي بوجود جانب إشاري في هذا القول خاص بمجاله التداولي، كما أنه يقضي بأن نستبدل مكانه جانبا إشاريا آخر نستمده من المجال التداولي للمتلقي، بحيث أضحى من الضروري الأخذ بأشكال ثلاثة من الترجمة الفلسفية بدل الشكلين المعهودين: اللفظية والمعنوية، إذ تبيَّن أن الحرفية ليست نوعا واحدا، وإنما نوعين اثنين: “الحرفية اللفظية”، وهي تقابل اللفظ باللفظ، و”الحرفية المعنوية”، وهي تقابل المعنى بالمعنى؛ والحال أن هذه المقابلة المعنوية بين مجالات التداول يتعذر وجودها، لأن المعاني ليس واحدة، لا كما ولا كيفا؛ وهذه الأشكال الثلاثة من الترجمة هي: “الترجمة التحصيلية”، وتقع في آفة الحرفية اللفظية؛ و”الترجمة التوصيلية”، وتقع في آفة الحرفية المعنوية؛ والترجمة التأصلية، وهي، على العكس من السابقتين، تدرأ الآفتين معا.
والمستوى الثاني تقنية المفهوم، وتقتضي التفريق بين “الاصطلاح” و”التأثيل”؛ وقد تبيَّن في الكتاب الذي أفردته لهذه التقنية الثانية أن الوضع الاصطلاحي للمفهوم الفلسفي قد يوهم بأنه مفهوم عباري خالص، في حين يُبيّن جانبه التأثيلي كيف أن المدلول الاصطلاحي لا يصفو في المفهوم الفلسفي ألبته، وإنما تُسنده، على الدوام، دلالات وبنيات ذات طبيعة إشارية، بحيث يتعين استخراج أنواع مختلفة من التأثيل: فهناك “التأثيل المضموني”، ويندرج تحته “التأثيل اللغوي” و”التأثيل الاستعمالي” و”التأثيل النقلي”؛ وهناك “التأثيل البنيوي”، ويندرج فيه “التأثيل الاشتقاقي” و”التأثيل التقابلي” و”التأثيل الحقلي”؛ والفيلسوف لا يفتأ يستثمر هذه الأنواع المختلفة من التأثيل في تأصيل المدلولات الاصطلاحية لمفاهيمه وتوسيع مجال إجرائيتها، فاتحا فيها آفاقا استشكالية واستدلالية غير مسبوقة لم تكن لتنفتح له بدونها.
والمستوى الثالث تقنية التعريف، وتوجب التفريق بين “التقرير” و”التمثيل”؛ وقد اتضح في الكتاب خصّصته لهذه التقنية الثالثة والذي سوف يصدر، بإذن الله، جزء منه، كيف أن الجانب التقريري من التعريف الفلسفي قد يوهم بأنه تعريف عباري صرف؛ والحقيقة أن التقرير لا يصفو مطلقا في هذا التعريف، بل يزدوج بجانب إشاري هو التمثيل، وهو على أنواع، فقد يكون عبارة عن “إيراد مثال توضيحي” أو يكون “بيان مماثلة” ـ أي “تشبيها” ـ أو يكون عبارة عن “ضرب مَثل”؛ وقد يختلف التمثيل في التعريف الفلسفي باختلاف التقرير؛ لهذا، يتعيّن تمييز أنواع مختلفة من التعريف الفلسفي؛ فهناك “التعريف التحليلي”، وينقسم إلى “تعريف تحديدي” و”تعريف تقسيمي” و”تعريف استقرائي”؛ وهناك “التعريف التفريقي”، ويتوسل بآليات ثلاث، وهي: “التوجيه” و”التنويع” و”التدقيق”؛ وأخيرا هناك “التعريف التنسيقي”، ويستخدم آليتين هما: “الإنشاء” و”التفسير”.
والمستوى الرابع تقنية الدليل؛ وتقضي بالتفريق بين “الاستنتاج” و”التخييل”؛ وقد تبيّن في الكتاب الذي أفردتُه لهذه التقنية الرابعة والذي سوف تصدر منه بإذن الله بعض الفصول، كيف أن الجانب الاستنتاجي من الدليل الفلسفي قد يوهم بأنه دليل عباري محض؛ والواقع أن الاستنتاج، هو الآخر، لا يصفو في هذا الدليل، بل يزدوج بجانب إشاري صريح هو التخييل، إن على شاكلة “أساطير” و”أمثولات” و”قصص” و”أحلام” أو على شاكلة “صور” و”استعارات” و”مجازات”، وذلك بحكم اتصال الفلسفة الوثيق بالأدب، حتى إن هذا الاتصال تولّد منه جنس أدبي مستقل يمكن أن نسميه بـ “الأدب الفلسفي”؛ وهذا الازدواج بعناصر التخييل هو الذي ينزع عن الأدلة الفلسفية، على اختلافها، الصبغة البرهانية، ويلبسها لباسا حجاجيا؛ ولا مراء في أن الحجاج أغنى من البرهان، إذ يتقدم فيه المضمون على الصورة والقيمة على الواقعة كما يتقدم فيه الإقناع على الإلزام والتفاعل على الفعل؛ والظاهر أنه لا دليل فلسفي يَبرُز فيها العمل التخييلي للفيلسوف بروزَه في ما يسمى بـ”الاستعارة التهكمية”، إذ يرجع إليه وحده فضل السبق إلى كشف قيمتها الخطابية وضبط وظيفتها الفنية.
والخامس تقنية السيرة، وتوجب، هي الأخرى، التفريق في الفعل الفلسفي ـ كما في القول الفلسفي ـ بين مكوِّن عباري، أي مكوِّن تشترك جميع مجالات التداول في التسليم به وبين مكوّن إشاري، أي مكوّن يختلف باختلاف هذه المجالات؛ وهذان العنصران المكوِّنان للفعل الفلسفي هما: “النموذجية” كمكوِّن عباري و”الشذوذية” كمكوّن إشاري،: فما هو شاذّ بالنسبة لبعض المجالات، قد لا يكون كذلك بالنسبة لغيرها.
ولو أني لم أحرّر إلى حد الآن إلا مقالة واحدة تناولت تحليل الفعل الفلسفي الذي ميّز فلاسفة الغرب الإسلامي، فإن هذا التحليل أبرَز أن الجانب النموذجي من الفعل الفلسفي يتمثل في أمور أربعة، أحدها، موافقة ظاهر الفيلسوف لباطنه؛ والثاني، موافقة فعله لقوله؛ والثالث لزوم هذه الموافقة المزدوجة حتى يستحق أن يُؤخذ عنه باعتباره معلّما؛ والرابع التغلغل في هذه الموافقة المزدوجة حتى يستحق أن يُقتدى به باعتباره حكيما؛ كما أن هذا التحليل أبرز أن هذه النموذجية قد توهم بأن الفيلسوف لا يكون إلا إنسانا صادقا وعاملا ومعلما وحكيما.
وليس الأمر كذلك، لأن هذه النموذجية تزدوج بجانب إشاري هو الشذوذية؛ فغالبا ما يأتي الفيلسوف أفعالا تصادم المألوف من تصرُّفات الجمهور، وتَخرج عن القواعد المقرّرة في مجاله التداولي، بدءا بالصمت أو الاعتزال وانتهاء بالجنون أو الانتحار؛ ويأتي بهذه الأفعال، إما استهتارا منه بالقيم الدارجة والعوائد الجارية أو إذكاءً للوعي وإيقاظا للهمة أو، على العكس، يأسا من الحياة وفقدا لمعنى الوجود، مما يدعو إلى التمييز بين نوعين من “الشذوذية الفلسفية”:
فهناك “الشذوذية الإيجابية”، وهي التي تُحيي أو تُرسّخ قيم “الصدق” و”العمل” و”العلم” و”الحكمة” في المجال التداولي للفيلسوف، بحيث تكون هذه الشذوذية الأولى خادمة للنموذجية؛
وهناك “الشذوذية السلبية”، وهي التي تُميت هذه القيم أو تضرُّ بها في هذا المجال، بحيث تكون هذه الشذوذية الثانية هادمة للنموذجية، حتى إنه يمكن ترتيب الفلاسفة بحسب طبيعة شذوذهم وأقدارهم من هذا الشذوذ.
وكما أن “مسلَّمة تداولية الفلسفة” أفادتني في تصوُّر هذه الكيفيات المختلفة لإنجاز الغرض الأول، أي “تقنية الفلسفة”، فكذلك أفادتني “مسلَّمة نقدية الفلسفة الإسلامية” في تصوُّر كيفيات إنجاز الغرض الثاني، أي “التوسل بالتقنية الفلسفية المستنبطة في بناء فلسفة إسلامية”؛ وبيان ذلك أنه لَمّا قضت هذه المسلّمة بأن تصطبغ هذه الفلسفة، ثقافيا وحضاريا، بصبغة الإسلام، لزم أن تستوفي ثلاثة شروط متعلقاً بعضها ببعض:
أحدها أن تتوجه، بالأساس، إلى نقد الفكر الفلسفي الذي يصادم المنظور الإسلامي للحياة، لا انتصارا لكونية قيم الإسلام فحسب، بل أيضا كشفا لأبعاد مسؤولية الإنسان في هذا العالم، بحيث لا يبتغي هذا النقد تشنيعا ولا هدما، وإنما كل بغيته هو درء الآفات الخُلُقية والأزمات الروحية عن المجتمع البشري والإسهامُ في بناء إنسان أكمل وعالم أفضل.
والشرط الثاني، أن تكون هذه الفلسفة فلسفة حية بحق، ولا حياة حقيقية لها إلا إذا استمدت مضامينَها وقضاياها من دائم تفاعلها مع الواقع العالمي، أحداثا وتحديات وآفاقا.
والشرط الثالث أن تبني هذه الفلسفة نقدها للواقع العالمي على أهم مقوّم يُميز صبغتها الإسلامية وتأخذ به مجالات التداول الأخرى، ألا وهو “الأخلاق” بشقيها: السلوكي والروحي.
وقد اتخذ عندي هذا النقد الأخلاقي المتوسِّل بالتقنية الفلسفية الأشكال التالية:
أولها، نقد الحداثة؛ فقد أفردت لهذا النقد كتابين هما: سؤال الأخلاق وروح الحداثة؛ وتناولت في الكتاب الأول منهما “أزمات النمط المعرفي الحديث” و”أشكال هيمنة النظام التقني”؛ وميّزت في الكتاب الثاني بين “روح الحداثة”، وهي عبارة عن مجموعة القيم والمبادئ التي قد تشترك فيها مختلفُ مجالات التداول، وبين “تطبيقات الحداثة”، وهي تحقيقات لهذه القيم والمبادئ تختلف باختلاف المقتضيات التداولية لهذه المجالات؛ ذلك لأن هذه الروح، ولو أنها عامة وواحدة، فإن تجلياتها لا تكون إلا خاصة ومتعددة، مَثلها في ذلك مَثل أي معنى ذهني؛ وبناء على هذه الحقيقة، أنكرتُ تقليد هذه التطبيقات نفسها الذي وقع فيه مُدَّعو الحداثة من بني جلدتنا، فاجتهدت، على عكسهم، في وضع اللبنات الأولى لتطبيق روح الحداثة بما لا يُخل بمقتضيات مجال التداول الإسلامي، عَقَدية كانت أو عملية.
والشكل الثاني، نقد العولمة؛ لئن كنت قد تعرَّضتُ للعولمة في مواضع مختلفة من مؤلفاتي، لا سيما في الكتابين المخصَّصين لنقد الحداثة المذكورين، فإني ركَّزت على نقد قِيَمها الثقافية والسياسية والاقتصادية في الكتابين: الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري وسؤال العمل، إذ أن العولمة، بخلاف ما يزعم دعاتها، لا تقيم حوارا جادّا بين الثقافات، ولا تفاعلا حقيقيا بين السياسات، ولا تكاملا عادلا بين الاقتصادات، وإنما تُمارس، في بلوغ غايتها التنميطية، ضروبا من العنف الجلي والخفي حوَّلت العالم، على تنوُّع آياته، إلى متجر واحد بلا قيود، وحوَّلت الإنسان، على سُمُوِّ تطلعاته، إلى مستهلك طيّع بلا حدود.
والشكل الثالث، نقد العلمانية؛ فمعلوم أن العلمانية هي فصل السياسة عن الدين؛ ولقد شغلَتْ تأملاتي فيها الحيزَ الأكبر من كتاب روح الدين؛ وسُقت من الأدلة ما يثبت أنها تقع في محاذير ثلاثة:
أحدها أن أُفقَها ضيّق؛ فلولا ضيقُ أفقها، ما حصرَت الوجود الإنساني في ما نراه من العوالم، لأن هذا الوجود يتسع لما لا نراه من هذه العوالم، وما لا نراه أكثر وأعظم مما نراه.
والمحذور الثاني أن منطقها متناقض؛ فلولا تناقض منطقها، ما دعت إلى الخروج من الدين؛ ذلك أن كل منهج أو نظام، كائنا ما كان، هو عبارة عن دين، فيلزم أن النظام العلماني، هو الآخر، دين، حتى ولو قطع الصلة بالدين المنزل، فما الظن إذا ثبت أنه يقلّد مراسيم هذا الدين، بل لا يفتأ يقتبس منه العنصر تلو العنصر، زاعما محو صبغته الدينية!
والمحذور الثالث أن مآلها التأله؛ فلولا أنها تؤول إلى التأله، ما نزعت السيادة من الإله الخالق ونسبتها إلى الإنسان المخلوق، معتبرة الفرد سيّد نفسه ولو أنه لم يخلق ذاته، وسيّدَ العالم من حوله، ولو أنه لم يخلق هذا العالم.
والشكل الرابع، نقد الدهرانية؛ وضعتُ مصطلح “الدهرانية” للدلالة على معنى “فصل الأخلاق عن الدين”، تمييزا له من معنى “فصل السياسة عن الدين” الذي يَغلُب استعمال لفظ “العلمانية” فيه؛ وقد بَحثُّ الفصل الدهراني، أشكالا وآثارا، في كتابي الأخير: بؤس الدهرانية، وأقمتُ الأدلة على بطلانه من وجوه ثلاثة:
أحدها، أنه ينبني على تصورات فاسدة لعلاقة الإنسان بالإله، لأن الغالب على هذه التصورات الدهرانية أنها تأخذ بالتشبهين الباطلين: “تشبيه الإله بالإنسان” و”تشبيه الإنسان بالإله”.
والوجه الثاني أن هذا الفصل يفضي إلى إلغاء الدين المنزل، إذ يَستغني بالأخلاق عنه، بل يجعل من الأخلاق دينا، حتى كأنها أحقُّ بالوصف الديني من الدين المنزل.
والوجه الثالث أن هذا الفصل ينتهي إلى إلغاء الأخلاق نفسها، واقعا في نقيض مقصوده، ذلك أن الصلة بين الأخلاق والروح تغذو منقطعة، والأخلاق بلا روح تُحييها وتجدّدها إنما هي أخلاق جامدة وفانية؛ ولا ينفع طلبُ روحانية دهرية، إنقاذا لهذه الأخلاق، لأن الروحي، أصلا، مباين للدهري بمعنى “الزمني” ومطابق للغيبي بمعنى “غير المرئي”، والغيبي لا يُخبر به ولا ينشئه إلا الدين الموحى به وحده.
وقد توصّلت في الطور الأول من هذا النقد الأخلاقي للواقع العالمي إلى بلورة مفاهيم فلسفية إسلامية عدة في سياقات تأثيلية وتمثيلية وتخييلية خاصة بالمجال التداولي الإسلامي العربي، كما توصّلت، في طوره الثاني، إلى وضع أصول فلسفة مستقلة حرصتُ على أن تكون فلسفة أخلاقية إسلامية بحقّ، وأطلقتُ عليها اسم “الفلسفة الائتمانية”، وهي تنبني على مبادئ ثلاثة، وهي: “مبدأ الشهادة،”، وتتحدّد به الهوية الوجودية للإنسان؛ و”مبدأ الأمانة”، وتتحدَّد به مسؤوليته الكونية؛ و”مبدأ التزكية”، وتتحدد به فاعليته السلوكية؛ وإن أفْسَح الله لي في الأجل والعمل، فسوف أزيد هذه الأصول تفصيلا، وأفرِّع عليها من المسائل والوسائل ما تحتاجه الأمة في رفع التحديات الأخلاقية والروحية الراهنة، حتى يكتمل لهذه الفلسفة الإسلامية بناؤها ويستوي نظامها.
وبناء على ما ذكرته، يظهر أن إنتاجي في فقه الفلسفة تنازَعَه الغرضان الرئيسان المذكوران، أي “استنباط آليات الفلسفة” و”إنشاء فلسفة إسلامية باعتماد هذه الآليات”؛ فلو أني تفرَّغت بالكلية للغرض الأول، على ما هو عليه من السعة والغور، لانقضى عمري ولَمّا أبلُغ مرادي في أن أعيد إلى المفكر المسلم الثقة في قدرته على العطاء الفلسفي، إذ إني لم أخض في استخراج هذه الآليات إلا من أجل أن يأتي هذا العطاء على طريقة تفضل طريقة المتقدمين من فلاسفة الإسلام، أصالة وإبداعا؛ وكم كنت أشعر بالتقصير كلَّما لاحقني الباحثون بأسئلتهم عن الأجزاء الباقية من فقه آليات الفلسفة، واستعجلوا إنجاز ما تبقَّى منه ولو أن هذا الإنجاز ـ كما تبيَّن ـ أكبر من أن ينهض به الفرد الواحد كاملا، حتى ولو تفرّغ له وحده، وأنه لا يقدر على أن ينهض به إلا العمل المؤسَّسي المتشعّب والدؤوب!
والقول الجامع في هذا العرض هو أنه ليس بمقدور أهل الاشتغال بالفلسفة من مثقفي الأمة أن يُحصّلوا القدرة على إبداع فلسفي مستقل ما لم يتعاطوا، بكل ما أوتوا من وسائل، تأسيس “علم الفلسفة” بفرعيه: أحدها فرع “فهم الفلسفة”، وهو علم ينظر في سياقات إنتاج الفيلسوف لأقواله وأفعاله قصدَ التوصل إلى بيان مضامين هذه الأقوال والأفعال؛ والثاني فرع “فقه الفلسفة”، وهو علم ينظر في آليات إنتاج الفيلسوف لأقواله وأفعاله قصْدَ التوصّل إلى كشف بنيات هذه الأقوال والأفعال؛ وتشمل هذه الآليات “الترجمة”، نقلا وتحويلا؛ و”المفهومَ”، اصطلاحا وتأثيلا؛ و”التعريفَ”، تقريرا وتمثيلا؛ و”الدليلَ”، استنتاجا وتخييلا؛ كما تشمل “السيرةَ”، نموذجا وشذوذا.
وليس هذا فحسب، بل إن فقيه الفلسفة، بحكم توجُّهه العملي، لا يشتغل بعلم الفلسفة لذاته، وإنما لكي يُدرك رتبة الفيلسوف المبدع والمستقل؛ لذلك، لا يقف عند حدّ استخراج هذه الآليات الفلسفية، بل يتعداه إلى استخدامها في وضع فلسفة فيها من الإبداع بقدر ما هي عليه من الاستقلال؛ وقد أخذت أعمالي هذه الآليات بقوة، موضّحة كيف أنه يمكن الانطلاق من نقد الواقع العالمي، “حداثةً” و”عولمة” و”عَلمانية” و”دهرانية”؛ ومن ثَمَّ، إنشاءُ فلسفة أخلاقية إسلامية بديلة من الفلسفة غير الإسلامية التي تأسس عليها الواقع العالمي، فلسفة تكون قادرة على التصدي لِما يكتنف هذا الواقع من التحديات الخُلُقية والأزمات الروحية.