(*) ماذا لو كان حراك الريف في زمن البيضاء أو العكس؟
لم تكن أحداث الحسيمة أفضل طريقة في تخليد أحداث البيضاء 1981، لكن يصعب بالفعل الإفلات من «إغراء« المقارنات، بين مغرب مضت عليه قرابة 36 سنة، أي عبره جيل بكامله، ومغرب يعيش تحت عنوان كبير اسمه العهد الجديد..
أول شيء، يتبادر إلى الذهن:هما المكانان في الذاكرة المغربية الحديثة..كلا الموقعين تاريخ، وتربة خصبة للتاريخ وجغرافيا لا تستقيم سيرتها بدون الدم، والمجد والشرف..
وغير ذلك تبدو تفاصيل سياسية، لا تقف عند الألم مهما كان قويا، لشعب يسير بتؤدة نحو غده..
في البيضاء، ينزل التاريخ من الجبال، لكي يسير بالقرب من الميناء، وفي الأحياء الشعبية، وفي يده سجل للموتى وآخر للدروس السياسية..
وفي الريف يعود التاريخ إلى تسلق الصخور وتأمل السحنات المعلقة في أمل صحو، بوجود مغرب يسع الجميع..
نطرح سؤال الأحداث في الريف ونبحث عن الجواب في الأحداث بالبيضاء:ما الذي تغير وما الذي استعصى على التطور، ما بين 1981 و2017؟
نطرح سؤال الريف الآن، ونجيب بالبيضاء.. البارحة!
ما كان لأي حراك، في مغرب العهد القديم أن يدوم سبعة أشهر، ولو كان حراك …الموج في بحر الظلمات، ولو كان إقصائيات كروية بشغب مبالغ فيه!
كان الحدث سيثير القمع ويأتي بالنبالم إلى ذاكرته في المنطقة..
واليوم لم تخرج الدبابات من ثكناتها..
ولم تغادر المزنجرات
ولا القناصة
ولا الفرق المدربة غرفها المغلقة..
ولم يصب أي طفل أو مراهق برصاص في ظهره..
ولم تدفن جموع المحتجين ليلا في مقرات المطافئ..بلا ضوء
وبلا آيات الذكر الحكيم..
لقد ساعفتنا آلام الدار البيضاء في فتح صفحتها، بعد عقد من الزمن والتوجه نحو تضميد الجسد المغربي بمصالحة مفتوحة، من أجل تجاوز الماضي..
وأفسحت لنا مجالا لم يكن يطرح على البساط السياسي إلا في ظروف الصراع الدموي، والمقصود به الحكامة الأمنية!
بآلام الدار البيضاء ولا شك، نستطيع ألا نعمق آلام الحسيمة الآن..
لقد قيل الكثير عن التجاوزات الأمنية في تدبير لحظات التوتر في الحسيمة وامزورن بالذات، لكن مجال القاموس، بالرغم من انزياحات غير قليلة لم يقترض من الماضي كلماته الشائنة من قبيل الانتهاكات الجسيمة والاستبداد القمعي، وشبكة الجروح المفتوحة كالحديث عن القتل الجماعي والمواجهات المفتوحة والاختطاف المبني للمجهول والقتل العمد …الخ.
لا يمكن أن نقنع من مغرب الحراك الحالي بما هو أقل من الديمقراطية، ولا يمكن أن نكتفي بالاختلاف عن بيضاء 1981 لكي نكون، لكن من المقلق أن عدم تسمية الأشياء باسمها الحقيقي يضيف إلى بؤس العالم..
هناك فرق واضح، في طريقة الاحتجاج الراقي وهناك أيضا تطور في أسلوب معالجة الأوضاع لا يمكن إغفاله..
لم تكن الداخلية تجد ضرورة في تفسير أفعالها
ولم تكن تجد نفسها مطالبة بتقدير الموقف أمام البرلمان أو غيره: كان القرار السياسي الأمني يقتل، ويطلب من العائلات نسيان الضحايا..
ويطلب من الحقوقيين الاختيار:بين الصمت أو الالتحاق بشهداء كوميرا والمعتقلين..
(*) لم تكن السياسة خلفية للأحداث، بل اجتاحت مغرب الهشاشة الاجتماعية كل موجات التردد العالي و السخط المرتفع ، وتجمعت، من قبيل البحيرات، في السياسة.
ويحدث اليوم أن المسألة الاجتماعية تطل من جديد على مغرب القرن الواحد والعشرين برؤوس من الوقيد!
الصرح الاجتماعي يتآكل، والطبقات تضيع وسط السجلات التي يفتحها الفقر والهشاشة والانهيار الشامل للنموذج الاقتصادي، والخصاص المريع في الدولة !
كلما اقتربنا من صندوق النقد الدولي، ابتعدنا من البلاد،
وكلما ابتعدنا عن البلاد، ابتعدنا عن شعبها واقتربنا من النيران.. هي ذي المعادلة التي لا يمكن إغفالها أو تبرير التوتر فيها بنوايا الأعداء والخصوم..
(*) منذ ثلاثة عقود كان الحقل السياسي مغلقا تماما:أو يكاد، فقد كانت قد مرت 4 سنوات على انتخابات كان التزوير فيها شفافا للغاية، وإرادة صنع الخريطة ونخبها وفرض بنية حزبية وتقنوقراطية بعينها على المغاربة ، لا غبار عليها.. وبدا أن الأصوات في صناديق الاقتراع لم تمنع أصوات الشارع من الارتفاع، ليرتفع فوق الجميع صوت الرصاص..
وكانت القاعدة الدستورية للنظام موضع محاججة، وتبين من خلال دعوة الاتحاد إلى مقاطعة دستور السنة التي سبقت الأحداث 1980 - المتعلق بالتمديد للبرلمان من أربع إلى ست سنوات - أن الوضع متأزم، بل كانت الشرارة الاجتماعية في إضرابات 1979 قد عبدت الطريق نحو الاشتعال الاجتماعي، ودخلت القضية الوطنية إلى أفق ملتبس، وكانت النتيجة وضع اجتماعي ضاغط، انغلاق سياسي وضبابية الأفق الوطني، الشيء الذي زاد من حدة التجاذب في الحقل الداخلي..
اليوم الوضع الاجتماعي حارق
الوضع البرلماني ليس في حالة تشكيك لكنه في وضع هشاشة سياسية ومؤسساتية
الأفق الوطني بحد ذاته يراكم الأداءات الجيدة والقوية
(*) الإطار الذي فتح الباب للتعبير عن مواجهة بين العمق التيوقراطي الاليغارشي اقتصاديا للدولة وبين الشارع، كان إطارا محدد الملامح قانونا وبعنوان معروف هو الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، لها مقراتها ووجوهها المعروفة وتاريخها وقاموس مطالبها، واليوم ليس أمام الدولة سوى موجة العمق الصاعدة من المجتمع، في مجالية معروفة بتاريخها العصي، شباب لا يرفعون بطاقاتهم النقابية أو الحزبية للإعلان عن برنامج لا يختلف عن برامج كل الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، برنامج لا يضع الحراك في أي معادلة سياسية مباشرة أو تدبيرية تفاوضية، إنه يطالب بالحق في الأساسيات، الصحة والعليم..
ويتزامن الحدث، مع وضع كل ما فيه يشير إلى ضمور واضح في التعبيرات المدنية والوسائطية، النابعة من المجتمع:هل ابتلعت الدولة مجتمعها حتى صار عاجزا عن ابتكار وسائطه ، وبالتالي وجدت نفسها أمام الموج البشري، والمحيط الإنساني الواسع؟
سؤال كسؤال آخر يسير بجانبه:لماذا تحتارالدولة عندما تتحدث في الفراغ ويعود إليها الصدى غير مشابه لأي صوت؟
* في 1981 كانت المصالحة أمامنا، واليوم كنا نعتقد بأنها وراءنا، إذا بها تقفز إلى الأمام، وتساءلنا بكل ما فيها من جرأة وأسئلة حارقة:ما الذي تحقق، ما الذي تراجع، ما الذي تعثرنا فيه، أين يقف التاريخ وأين يبدأ المستقبل في قضية يتلبس فيها حاضر كل آهات الماضي؟
التاريخ قد يصير أيضا حالة اجتماعية، عندما تعجز السياسة عن فهمه والتجاوب معه..!.