السياسة مزرعة السلطة؛ ما تزرعه جماعة في ميدان السياسة والعمل السياسي تحصده حين تصير إلى سلطة. وهي إذا ما داست زرعها، قبل حصاده ودراسه، فلأنها تكون راكمت من الأخطاء في إدارة السلطة ، أو في طريقة الوصول إليها، ما يذهب الزرع والضرع! تنطبق القاعدة هذه على القوى السياسية كافة، في حركة عبورها من المجتمع إلى السلطة، سلباً وإيجاباً، وهي تنطبق بأجلى صورة على تجربة عبور الحركة القومية العربية بين الضفتين في العقود الخمسة الأخيرة. والعبارة التي استخدمناها «السياسة مزرعة السلطة» أشبه بعبارة أبي حامد الغزالي: «الدنيا مزرعة الآخرة»، بل تحاكي عبارة الغزالي وتستلهم المعنى منها. وفائدتها إنما هي في التنبيه إلى أن ظواهر الحياة شأنها، في البدء والمنتهى، شأن الزراعة؛ إذ المنتوج المحصل وقف على المبذول في عملية الإنتاج بمراحلها كافة من جهد دؤوب. وقل ذلك عن التربية والتعليم والتكوين أيضاً، وعما يشترك معها من أفعال مدارها على استثمار الجهد لتعظيم الفوائد عند الناس.

ليس معنى ذلك أن عبور الحركة القومية من الحالة الحزبية إلى السلطة مسار شاذ أو غير طبيعي؛ فمنطق العمل الحزبي، حكماً، هو الوصول إلى السلطة، والشوط الذي قطعته الحركة القومية من الحزبية إلى السلطة مسار موضوعي تماماً، ولكنه قطع بقدر من الأخطاء ثقيل، كلفها كثيراً، بل أحياناً ما غرمها في صورتها. وإن شئنا الدقة، وشئنا معها بعض الإنصاف للحركة القومية، قلنا إن النظم السياسية التي قامت باسمها، منذ ما يزيد على نصف قرن، لم تكن نظمها، وإنما نظم نخب (سياسية وعسكرية) حكمت باسمها، واستعارت شرعيتها من التاريخ النضالي لأحزاب الحركة تلك. وهي عينها حال أحزاب أخرى غير قومية، بالمعنى المتعارف عليه، ولكنها وطنية تحررية قامت نظم سياسية باسمها، واستقت شرعيتها منها، من دون أن تكون هي نفسها من أقام تلك النظم؛ ولعل «جبهة التحرير الوطني الجزائرية»، والنظام الذي قام في البلاد باسمها بعد الاستقلال، مثال جلي للحالة تلك. ولكن هذه الحقيقة لا تعفي الأحزاب تلك من المسؤولية عن ترك مصائرها تتقرر من قبل نخبة صغيرة من المنتسبين إليها؛ ذلك أن الذين أقاموا سلطةً، باسم هذا الحزب أو ذاك، لم ينتحلوا الانتماء إلى هاتيك الأحزاب، بل كانوا، فعلاً، من أطرها وقياداتها، وإن هم انفردوا بالسلطة وأقصوا رفاقهم وعرضوا كثيراً منهم، أحياناً، للتصفية!

والمسؤولية، هنا، تقع عليها في كونها مكنت هؤلاء (الذين حكموا باسمها) من الاستيلاء على قرارها، بتوسل موارد قوة غير حزبية وغير تمثيلية، وهي للسبب هذا، مَنْ صنع لهم النفوذ.

ماذا يحدث إن انتهت الحزبية القومية إلى إنجاب سلطة لا تمثلها فيما هي تحكم باسمها؟ وماذا يحدث إن سقط قرار الحزبية تلك في قبضة نخبة غير سياسية وصلت إلى السلطة متوسلة شرعية القوى التي انتسبت إليها؟

ذلك خيار لم يفرضه أحد على الحركة القومية، وإنما أتته هذه بمحض اختيارها وإرادتها في غمرة انهواسها بالوصول إلى السلطة. كانت مصابة، شأنها في ذلك شأن غيرها من الحركات الحزبية الأخرى، بمنزع عضال هو المنزع الاستعجالي (للوصول إلى السلطة). وإذ أنساها ذلك فكرة الثورة، التي أقامت مشروعها السياسي عليها، تراءى لها أسلوب الانقلاب العسكري أدعى إلى الركوب لما يوفره من إمكانية لاختصار طريق الوصول تلك، فطفقت تؤسس الخلايا في القوات المسلحة، وتنشئ لجاناً عسكرية حزبية، وتوسع المساحات أمام عمل عسكرييها. هكذا توسلت الانقلاب بدلاً من الثورة الشعبية، والجند بدلاً من الجماهير، والسلاح الناري بدلاً من سلاح التكوين والتعبئة… إلخ. وما هي إلا فترة قصيرة حتى كان ضباطها يصلون إلى السلطة باسمها ويُحمّلونها تبعات سياساتهم في الحكم، بل وينقضون على فكرة الوحدة ومشروعها، مبرر شرعية أحزابهم، كما في تجربة الانفصال الذي قاد إليه الانقلاب على الوحدة المصرية – السورية! والنتيجة أن ما زرعته الأحزاب القومية من أخطاء فادحة، في عملها السياسي، حصدته خيبات متعاقبة: حكماً باسمها، وتهميشاً لها، وإساءةً إلى تراثها. أما ما زرعته النخب الحاكمة باسم التيار القومي من أخطاء فكان حصاده نظاماً سياسياً مغلقاً وتهميشاً لقوى اجتماعية مخالفة.

من يقرأ تاريخ الفكرة القومية العربية، في ضوء نتائج ما آلت إليه، يبدو له (التاريخ ذاك) تاريخاً تراجعياً وسيرورةً من التطور تأدت بالفكرة تلك إلى مصير بائس: من فكرة نهضوية (العروبة)، إلى إيديولوجيا سياسية (قومية) مدارها على فكرة التوحيد القومي، إلى مؤسسة حزبية جماهيرية، إلى نخبة سياسية – ثقافية قائدة، إلى نخبة عسكرية متسلطة، فإلى سلطة تفرض شرعيتها السياسية باسم القومية العربية. لعله هو عينه المسار الذي قطعته أفكار سياسية أخرى في الوطن العربي مثل الفكرة الإسلامية والفكرة الليبرالية والفكرة الاشتراكية، ولكن الفكرة القومية قُيض لها أن تتعهدها نخبة فكرية مميزة، وبالتالي، بدا التجافي صارخاً بين مقدماتها النظرية، وتراثها الفكري استطراداً، ومآلاتها السياسية عندما صارت إلى «تحقيق» مادي.

على أن هذا النقد، وهو فريضة فكرية وأخلاقية على كل وحدوي، ينبغي له ألّا يأخذ الأحكام على الحركة القومية إلى نظرة عدمية، وألّا يحجب النظر إلى المكتسبات الكثيرة التي تحققت، في كنف سلطتها، في مجالات التنمية الوطنية، وتوزيع الثروة، والتعليم، والتصنيع، والإصلاح الزراعي، وحماية الأمن القومي، ومواجهة المشروع الصهيوني، ونصرة الشعب الفلسطيني. المثال الأجلى هو المثال الناصري، ولكن على منواله، أيضاً، نسجت نظم عربية أخرى قامت باسم الشرعية القومية في بلدان المشرق.

 

الاربعاء 14 يونيو 2017.

‫شاهد أيضًا‬

الخلاف والاختلافأو الفصل بين الواحد والمتعدد * الدكتور سعيد بنكراد

عن موقع سعيد بنكراد  يميز المشتغلون بأصول الفقه عادة بين أربعة مستويات في تناول النص ومحاو…