ليس هناك أدنى شك في أننا نحن جيل الخمسينات ومطلع الستينات، رضعنا من أثداء أمهاتنا حليبا ممزوجا بحب الوطن، وسهر آباؤنا رغم دقة المرحلة وما تميزت به من محن وآلام، على ترسيخ قيم المواطنة الصادقة واحترام مبادئ حقوق الإنسان في أذهاننا منذ صغرنا، ما جعلنا نقاوم المستعمر الغاشم وندحره بقوة الإيمان ووحدة الصف. ولا يمكن بأي حال ومهما ضاقت بنا الأرض واحلولكت الدنيا في أعيننا، التنكر لتاريخنا المجيد وحضارتنا الإنسانية العريقة، أو التفريط في حبة رمل من ترابنا المقدس، لاعتزازنا الشديد بانتمائنا إلى المغرب. ترى هل يحمل أبناؤنا مشعل الوفاء للوطن؟
فبمناسبة اليوم العالمي للشباب، الذي تعتبره منظمة الأمم المتحدة فرصة ثمينة، للتأكيد على دور الشباب في تحقيق التنمية المستدامة، والوقوف على ما نالوه من حقوق في التعليم والصحة والشغل… والعمل على استثمار طاقاتهم في إيجاد حلول لمشاكلهم ودعمهم من أجل رفع التحديات وتطوير إمكاناتهم. كانت المندوبية السامية للتخطيط، قد أصدرت كتيبا تحت عنوان “الشباب في أرقام”، يتضمن مجموعة من المؤشرات والبيانات الإحصائية حول الشباب، تفيد بأن الفئة العمرية ما بين 15 و24 سنة، تمثل خمس سكان المغرب.
والشباب ثروة حقيقية وركيزة أساسية لبناء الأمم، لما يتميزون به من حيوية ونشاط وطاقة خلاقة. وهم قوة اجتماعة واقتصادية هائلة، لهم من القدرات ما يؤهلهم لخوض غمار معارك المستقبل ببسالة والإسهام الفعال في تقوية الاقتصاد الوطني وخلق التنمية الشاملة، من خلال الانخراط في سوق الشغل، إثراء الحياة السياسية بالتعبير الحر عن آرائهم، لاسيما أن الثورة التكنولوجية وفرت لهم وسائل حديثة للاتصال والتواصل… بيد أن البنك الدولي وجه مؤخرا صفعة موجعة للمغرب عبر تقرير قاتم، كشف فيه عن وجود 49 بالمائة من الشباب لم يلتحقوا بالمدارس ولم يسجلوا ضمن القوى العاملة. وأن غالبية العاطلين دون مستوى التعليم الثانوي أو بدون أي مستوى. وهو ما يشكل خطرا داهما على البلاد.
والمغرب غني بثرواته البشرية والفلاحية والبحرية والمعدنية ومصادره المائية، وبإمكانه توفير الشغل لكل أبنائه متى ما توفرت النوايا الحسنة، الحكامة الجيدة والإرادة السياسية. فأراضيه الفلاحية جد شاسعة، وتستطيع حقوله الزراعية تحقيق اكتفاء ذاتي على مستوى التغذية: حبوب وزيوت وسكريات ولحوم وألبان… دونما حاجة إلى الاستيراد من الخارج. تطل سواحله الممتدة على بحرين ويتوفر على ثروة سمكية هامة. وإلى جانب الفوسفاط الذي يملك منه 60 بالمائة من الاحتياط العالمي، هناك معادن أخرى كالزنك والذهب والفضة والحديد والنحاس والحامض الفسفوري والأورانيوم…. ثروات عديدة ومتنوعة يستغل حصة الأسد منها أصحاب النفوذ والشركات الأجنبية، بينما تكتفي الشركات الوطنية بالفتات.
وفي هذا الصدد يمكن الجزم بأن الملك محمد السادس كان محقا حينما تساءل يوما عن مصير ثروة المغرب ومن يستفيد منها، في خطاب سام بمناسبة مرور 15 سنة على توليه العرش، حيث أبدى استغرابا واسعا من كون البلد الذي استطاع التقدم في عدة مجالات، عجز عن التوزيع المنصف للثروة بين سائر المواطنين. ولاحظ عبر جولاته بأن هناك الكثير من مظاهر البؤس وحدة الفوارق الاجتماعية والمجالية. فهل من العدل والمعقول، أن يظل المغرب يرزح تحت قيود التخلف والأمية والفقر والبطالة، وثرواته تتوزعها “التماسيح والعفاريت” من إقطاعيين وأباطرة المخدرات ولوبيات العقار والفاسدين، وأن يستولي “خدام الدولة” ورجال المال والأعمال على أراضيه بأثمنة رمزية، لتحويلها إلى فيلات وعمارات سكنية وضيعات فلاحية ومجموعات اقتصادية عملاقة…؟
فتاريخ المغرب حافل بملفات الفساد في ظل سياسات عمومية معطوبة، لم تزد الفساد إلا استشراء والأغنياء ثراء والمعوزين فقرا وتهميشا، لانعدام الحس بروح المسؤولية والغيرة الوطنية في التصدي لهذه المعضلة المؤرقة، عوض الاستمرار في لعبة “الغميضة” مع لجن تقصي “الحقائق”، التي ليست في واقع الأمر سوى مهدئات منتهية الصلاحية. والفساد ذو وجوه متعددة وفروع متشعبة، منها الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ والريع، والفساد الانتخابي والمالي والإداري والسياسي والرياضي والتربوي… وهو العائق الأكبر أمام أي تطور أو إصلاح، والعدو اللدود للتنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية. وقد فشلت كل الحكومات المتعاقبة في اقتلاع أنيابه ومخالبه، وازداد في عهد حكومة بنكيران تغلغلا وغطرسة واستفزازا لمشاعر المواطنين. فأين نحن من القضاء النزيه والمستقل، والآليات الكفيلة بملاءمة التشريعات الوطنية مع القوانين والاتفاقيات الدولية حول محاربة الفساد؟ وكيف يمكن تفسير استمرار التلاعب بالصفقات العمومية، السطو على ميزانيات المشاريع التنموية وحجب آلاف التقارير حول اختلالات التسيير وجرائم نهب وتبديد وتهريب المال العام، دون تنفيذ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
ولا غرو أن يعيش المغرب فوق صفيح ساخن من الاحتجاجات الصاخبة والاحتقان الاجتماعي، جراء الاختيارات اللاشعبية واللاديمقراطية للحكومات وما ترتب عنها من أزمات بنيوية عميقة، ناهيكم عن إذعان الدولة لأوامر صندوق “النكد” الدولي، ورفع يدها تدريجيا عن الخدمات الاجتماعية، خاصة في التعليم والصحة، والإجهاز على المكتسبات وضرب القدرة الشرائية للبسطاء.
إن المواطنين عامة وفئة الشباب خاصة، يعانون بشدة من تأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، في ظل غياب سياسات مندمجة واستراتيجيات واضحة، تفتح أوراش اقتصادية تنموية لخلق فرص عمل حقيقية. وبعيدا عن التخوين والاتهامات الباطلة، فإنهم عندما يضطرهم تعنت المسؤولين وعدم الاستجابة لمطالبهم المشروعة إلى الخروج للشارع، يحرصون على أن يكون حراكهم الشعبي سلميا وحضاريا. فعلى الحكومة التعجيل بمراجعة سياساتها العقيمة، محاسبة المفسدين الحقيقيين وضرورة الاهتمام بالشباب، وحمايتهم من الكفر بالوطن والارتماء في أحضان قوارب الموت أو الانحراف أو الإرهاب…
الاثنين 12 يونيو 2017.