في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان «الطريق إلى مكان محدد»، يُبين المفكر البريطاني «دفيد غودهارت» أن الموجة الشعبوية العارمة التي تعرفها حالياً المجتمعات الغربية (من أبرز مؤشراتها البريكسيت ونتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية) هي تعبير عن تحول سياسي نوعي تشهده الديمقراطيات الغربية التي انتقلت من قسمة اليمين واليسار إلى قسمة جديدة تتصل بالهوية.
القسمة الجديدة هي بين «من لا ينتمون إلى أي مكان» anywhere ومن «ينتمون إلى مكان ما» somewhere. الفئة الأولى تتشكل من الأفراد الذين استفادوا من حركيّة العولمة الاقتصادية ومن الثورة التقنية الجديدة، فلم يعودوا يتشبثون بانتماءات عضوية جذرية، هوياتهم متحركة وأوطانهم متنقلة يشعرون بأن العالم كله وطنهم، أما الفئة الثانية فتتكون من أفراد متجذرين في أرضيات ثابتة وانتماءات موروثة يَرَوْن في العولمة وما يرتبط بها من الهجرات الجديدة تهديداً لأصالتهم وهويتهم وليس ظواهر طبيعية تاريخية.
وبالنسبة لغودهارد، يتعلق الأمر باستقطاب ثقافي في جوهره في ما وراء تلوناته السياسية: أولئك الذين لا انتماء لهم يتبنون قيم التميز الفردي والتعبير عن الذات والتفوق والنجاح، في حين يتبنى المنتمون القيم الأمنية والعائلية واحترام المعايير الجماعية والمشتركة.
المجموعة الأولى لم تعد تؤمن بالدولة القومية بل ترى فيها عائقاً أمام التطور والنمو ولذا يتطلع أفرادها إلى شراكات متعددة الجنسيات وإلى بناءات إقليمية أوسع من هذه الدولة (مثل الاتحاد الأوروبي)، أما المجموعة الثانية فلا تزال ترى في الدولة القومية التعبير الضروري عن الهوية الوطنية والحاضن الأوحد لمعايير ووشائج التضامن الاجتماعي والديمقراطية التشاركية.
وإذا كان من الجلي أن أحزاب اليمين المتطرف قد استفادت من هذا الصراع في السنوات الأخيرة، إلا أن الظاهرة في حقيقتها تتجاوز هذا الاصطفاف الأيديولوجي، فثمة شعبوية يسارية لا تختلف من حيث القاعدة الانتخابية عن تنظيمات أقصى اليمين، كما هو واضح من ديناميكية «حركة بوديموس» في إسبانيا و«حركة فرنسا الأبية» في فرنسا و«سيرزيا» في اليونان.
وإذا كانت هذه التنظيمات والأحزاب لم تتحول بعد إلى قوى سياسية راسخة، فإنها أصبحت من محددات المشهد السياسي وقد قلبت جذرياً ثوابته التقليدية من خلال «الانتفاضات الانتخابية» (حسب عبارة وزير خارجية فرنسا السابق هوبرت فيدرين) التي عرفتها عدد من كبريات الديمقراطيات الغربية في الفترة الأخيرة.
وعلى الرغم من الاختلاف الواسع بين السياق الغربي وسياقنا العربي الإسلامي من حيث رصيد التجربة السياسية وطبيعتها، فإن ثنائية غودهارت قابلة لأن تفسر جانباً أساسياً من جوانب التحول السياسي التي عرفتها المنطقة في السنوات الأخيرة، مع إضافة تحويرات جزئية على هذه الأطروحة.
ما نلاحظه في السياق العربي هو الانفصام بين النخب المتعلمة المندمجة التي استفادت من مسار التنمية الانتقائي المحدود الذي عرفته البلدان ذات الثقل الديمغرافي عن طريق سياسات الانفتاح الاقتصادي والشراكة الدولية والخصخصة الواسعة، والقطاعات العريضة التي لم تتمكن من الاستفادة من هذه الحركية بل دفعت قاسياً ثمن عجز السلطات العمومية وإخفاقها في تحمل الوظائف الرعوية والإدماجية التي قامت عليها شرعية الدولة الحديثة التي سعت إلى قيادة عملية التنمية والتحديث وحاولت إعادة قولبة المجتمع والهيمنة عليه.
الفئة الأولى تنزع إلى استقرار الدولة وقوتها وتتبنى قيم الانفتاح والشراكة الخارجية، والفئة الثانية هي التي انساق جناح عريض منها للتنظيمات الراديكالية الدينية والقبلية والإثنية، بحثاً عن دوائر انتماء بديلة عن الدولة، وهنا الفرق الجوهري بين المجموعات المنتمية في الغرب المتشبثة بالدولة الوطنية والجماعات «المنتمية» في منطقتنا التي تعادي هذه الدولة وتحاربها.
الدولة في السياق العربي هي مقوم الاستقرار والتنمية وأداة الانفتاح على العالم، وإن كانت ضعيفة الهوية وهشة الانتماء نتيجة لاصطدامها الضروري بالهويات المجتمعية الصلبة، في حين أن الهويات العضوية التي تستقطبها التيارات الراديكالية، وإن كانت مثمرة انتخابياً إلا أنها عقيمة ومهددة للكيان السياسي الجماعي.
لقد قال لي مرة المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري: لقد أخطأ اليسار المغربي والعربي إجمالا في سنوات الاستقلال الأولى عندما توهم أن الصراع الاجتماعي المطروح هو مواجهة الدولة بصفتها الوعاء المؤسسي للهيمنة الطبقية، بينما تبين أن الدولة هي الحليف الموضوعي للقوى التقدمية، وليس المطلوب سوى إصلاحها وتحويلها إلى دولة وطنية حقيقية.