يستطيع المراقب الحريص على عدد مقيمي الصلاة الاطمئنان بمجرد مروره قرب أي مسجد في أنحاء العالم العربي وقت صلاة الجمعة، فالأعداد بازدياد جمعة بعد جمعة، أما الحج فلا يكاد يمر عام إلا ونقرأ عن التوسعة التي تتم في الحرم المكي لاستيعاب أعداد الحجاج القادمين من كل حدب وصوب، وبالنسبة لصوم رمضان فحدث ولا حرج، الصائمون بالملايين، ولا تخلو معارض الكتب والمكتبات من موسوعات فقه الطهارة والوضوء، وتزدحم أقنية الإعلام بأشكاله بأسئلة من قبيل “هل يجوز وضع طلاء الأظافر؟” و “هل تزين الرجل بالذهب حلال أم حرام؟”، و”هل يجوز لنا أن نأكل الجني؟” فالأمة تسأل عن كل شاردة وواردة، ولا تبيح لنفسها التحرك في أدق الأمور دون فتاوى السادة العلماء، أمة “تقية” كهذه يفترض لها أن تنعم بالهناء والسرور، ترفل مجتمعاتها بالاستقامة والأخلاق والتكافل، لماذا إذاً يعم فيها الفساد والعنف وحالها من أسوأ الأحوال حتى يلجأ أبناؤها للغرق في سبيل الوصول لبلاد “الكفار”؟
لم تكن أزمة الإسلام على مر العصور أزمة شعائر، وفي ظل أي نظام استبدادي أم غير استبدادي، وطني أم أجنبي، جرى التركيز على الشعائر صباح مساء، وإهمال كل ما هو غيرها، ومع أن سنّة الحياة هي التطور، إلا أن المسلمين ركدوا كالمستنقع، يحلمون بتحقيق دولة الخلافة وفق شكلها الراشدي، دون المضمون، ونسوا تماماً أن سنة الله في خلقه هي التطور والتغير و{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد 11)، وأن الشعائر كعلاقة عمودية مع الله تعالى يجب أن تترافق بالعمل الصالح، وأن خلافة الإنسان على الأرض تكون من خلال مدى قدرته على القضاء في مصيره، وهذا لا يتحقق إلا بالمعرفة، وللأسف نحن أبعد ما نكون عن ذلك، فكيف نغير ما في أنفسنا؟
نقول أن التغيير لا يتم إلا بالقضاء على جميع أنواع الاستبداد وأشكاله، وإذا كان الاستبداد السياسي قد صادر حرية الناس وقمعها، فإن الاستبداد الفكري صادر العقل العربي الإسلامي منذ عصر التدوين وحتى اليوم، وجعل التاريخ يسير إلى الوراء، فوجدنا أنفسنا نجر الحاضر إلى الماضي، أو الماضي إلى الحاضر دون مستقبل لكليهما.
فالإطار الإسلامي الذي نراه اليوم وضعت أسسه في القرن الثاني الهجري، سواء تعريف السنة أم أصول الفقه أو أصول اللغة العربية، وذلك بناءً على النظم المعرفية السائدة حينه، وكل ما جرى فيما بعد هو استنفاذ للبحث ضمن ذاك الإطار لا غير، اعتماداً على حديث آحاد “خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِي يَلُونَهُمْ” وكأن النبي (ص) حكم، وما كان له أن يفعل، بأن الناس بعد القرن الثاني الهجري غير قادرين على الفهم، وأن تطور التاريخ والمعارف الإنسانية سيتوقف، وهذا ما كرس النظرة الدونية لأنفسنا مقارنة بالسلف، حيث لا أمل لنا مهما فعلنا بالوصول إلى مستواهم، وازدهار الفكر محصوراً في القرون الثلاثة الأولى، أما بعدها فالعاقل هو المقلد، وكل آيات التنزيل الحكيم التي تدعو للتعقل والتفكر والتدبر تخص أهل تلك القرون، بينما نحن لا عقل لدينا، علماً أن الحديث أعلاه يناقض قوله تعالى {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 188) عدا عن أن الصحابة الأخيار قد قتلوا بعضهم بعضاَ في معارك الجمل وصفين خلال القرن الأول، إضافة لإلغاء الشورى كتكليف إلهي للمؤمنين، واعتماد الحكم الوراثي بالقهر والقوة، وترسيخ الاستبداد السياسي، وعصيان أوامر النبي بعدم التدوين عنه، وذلك لجعله مرجعاً لتبرير كل المواقف السياسية والعقائدية والشعوبية التي اتخذها أصحابها من بعده.
ومع هذه النظرة الدونية لأنفسنا تجاه السلف الصالح تحولت أطروحة “فضلهم علينا” لنوع من القهر والاضطهاد الفكري، كما لو أن الله تعالى فوضهم ليفكروا بدلاً عن كل الأجيال اللاحقة إلى أن تقوم الساعة، وبالتالي تم تسليط سيف السلف على كل فكر حر نقدي إبداعي، وتم استغلال عواطف المسلمين في حبهم لله ورسوله أسوأ استغلال، فاندفعوا يقاتلون دفاعاً عن جهلهم، وانعكس ذلك على كل نواحي الحياة، وأصبنا بداء الكسل الفكري، وأصبحنا نرتاح لتفويض الآخرين بالتفكير عنا، ونأخذ ما قالوه دون نقاش، فالمهم عندنا من قال لا ماذا قال، والعلم لدينا مبني على الثقة لا على البينة، وغدت مناهج التعليم تلقيناً يعتمد على الذاكرة الحفظية، وبدلاً من البحث العلمي نحن نسقط أهواءنا على تفسير الأحداث وكيل الاتهامات، مبتعدين كل البعد عن قوله تعالى {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء 3)، وبينما طبق الأوربيون قوله {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ –} العنكبوت 20، فتوصلوا إلى الاختراعات التي تساعدهم على المعرفة، وعلى استعمار الأرض وشعوب الأرض، صرنا نحن سخرية الأمم، وأصبحنا مصابين بعقدتي دونية: تجاه السلف، و تجاه الغرب المتحضر.
ولا يقل أثر الاستبداد المعرفي ضراوة عن الاستبداد الفكري، إذ سيطر استبداد الموضوع والمنهج على قراءتنا للتنزيل الحكيم، مما انعكس على جل اهتماماتنا، فإذا نظرنا إلى آيات الأحكام مع تفصيلها لوجدناها تشكل سدس آيات التنزيل فقط، ولرأيناها جاءت لكل الناس، دقيقة الدلالة لكنها تفهم حسب الأداة المستعملة، و بينما كتب المسلمون خلال أربعة عشر قرناً موسوعات في الوضوء لا نجد في كل كتب التراث سوى بضع صفحات عن آيات خلق الإنسان مثلاً، أو آيات الزرع والنبات، صفحات فيها كثير من الوهم العلمي، معظمها خطأ، وهذا ما رمى إليه قوله تعالى {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}الفرقان 30.
والطريف اليوم أن نسبة توزع كتب العلوم والأدب والقانون في البلدان المتحضرة تتناسب مع بنية المصحف، حيث نجد أن نسبة الكتب العلمية في أي مكتبة عامة بما فيها التاريخ والفلسفة تفوق كثيراً نسبة كتب التشريع والقانون والتربية والسياسة، وهذه هي البنية الإسلامية السليمة التي تتطابق مع بنية التنزيل الحكيم في حجم المواضيع وتنوعها، وهذا هو التوازن المفقود في الحضارة العربية الإسلامية ولم يصحح حتى الآن، فالعالم بالنسبة لثقافتنا هو من يدرس أحكام الطهارة وهل الغناء حرام أم حلال، لا عالم الفيزياء أو الطب، ولذلك فقدنا المحاكمة العقلية، وأطبق الجهل على عقولنا، ونمت لدينا ملكة المسموح والممنوع بدلاً من المعقول وغير المعقول.
ومع أن النبي (ص) وازن في تأسيس دولته بين الاهتمام بعلوم المجتمع (تطور العرب التاريخي آنذاك) وبين أحكام أم الكتاب، وترك الدولة مفتوحة للحنيفية في كل زمان ومكان، جاء معاوية والشافعي والأشعري والغزالي وابن عربي وقضوا على هذا الأساس، واليوم تجد المسلمين يدافعون عن هؤلاء وعن الإسلام التاريخي الذي وضعوه، لا عن التنزيل الحكيم الموحى إلى محمد.
ومن الثابت أن الحضارة العربية الإسلامية أثرت تأثيراً كبيراً في صنع عصر النهضة في أوروبا، وانتقلت كتب ابن رشد في الفلسفة إلى اللاتينية، كذلك أثر ابن سينا على الفكر الأوروبي في الطب، وابن الهيثم في البصريات، لكن السؤال أين حضور هؤلاء في العقل العربي؟ لقد أحرقت كتب ابن رشد في شوارع قرطبة على يد “علمائها” ومات في المنفى، بينما تربع كتاب حجة الإسلام الغزالي “تهافت الفلاسفة” الذي يتهم فيه الفلاسفة بالزندقة على عرش ثقافتنا الموروثة، ورغم وقوف أوروبا على أبواب نهضتها بفضل تأثير ابن رشد وابن البيطار وابن النفيس إلى أن فكرها تجاوزهم ولم يقف عندهم ولم يجتر هؤلاء ويكررهم إلى يومنا هذا، بل أصبحوا من منسياته في مسيرته التاريخية، أما نحن فلم نحاول تجاوز الشافعي في أصول الفقه، ولم نتجاوز البخاري ومسلم، أو الكبريت الأحمر ابن عربي، وعلى العكس فبدل أن يصبح هؤلاء من اهتمام المؤرخين أصبحوا بما كتبوه عين الإسلام.
قد يظن القارىء أني أتجنى على قامات تراثية دون سبب، لكن أقول أن وزر أخطائهم نحمله اليوم، في كل أزمتنا الفكرية والمعرفية، ولن يشفع لنا عند الله تعالى حسن النية والتقليد الأعمى، بل على العكس تماماً، فقوله واضح {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر 38)، و{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام 164)، وقد أرسل لنا كتابه لينير طريقنا، وعلينا التفريق بين النص الموحى إلى الرسول (التنزيل الحكيم) وبين ما قاله الناس عن الرسول (الحديث)، فثمة أمران مختلفان تماماً، تم دمجهما وتقديمهما كأنهما أمر واحد، في حين أن الأول من عند الله والثاني من عند الناس، كذلك علينا التفريق في التنزيل الحكيم بين ما هو رسالة عالمية صالحة لكل زمان ومكان وبين ما هو تاريخ له زمانه ومكانه.
وعلى سبيل المثال وجدنا في أحد مواقع الإنترنت التي تجمع الكتب المصورة بشكل أسطوانات ليزرية؛ أن كتب “علوم الحديث” بلغت أكثر من 170 أسطوانة بينما الكتب المصنفة تحت “علوم القرآن” كانت في أقل من 40 أسطوانة، علماً أن علوم القرآن المقصودة ستكون من قبيل علم التجويد وأحكامه أو الناسخ والمنسوخ أو غيرها مما اخترعه المفسرون ولا يمت للعلم بصلة.
خلاصة الموضوع أنه إذا كنا معنيون بتغيير أنفسنا علينا العمل على تصحيح المسار الذي اتضح لنا بعد قرون أنه خاطىء، أو سنظل أسرى القرن السابع الميلادي ولن نتقدم قيد أنملة إلى الأمام، وإن كنا نعيش مخاضاً سياسياً فلا بد أن يصاحبه مخاض فكري ومعرفي، وإلا ستبقى الولادة متعسرة.