كيفما جرّبنا أن نفسر أزمةً من الأزمات الحادّة التي تعصف بالاجتماع السياسي العربي، وحيثما صرفنا النظر في إعضالاتها إلى هذه الوجهة أو تلك من وجهات التعليل (التاريخي والبنيوي)، تبيَّن لنا منها أنها ليست من الظاهرات الطارئات التي تَقْبَل الارتفاع بمعالجاتٍ موضعية،
ولا ممّا يَصِحُّ في كفِّه ما يَصِحُّ في كفّ العارض من المعضلات، ممّا يرتبط منها بأسباب عارضة مباشرة تزول الأزمة بزوالها. وأيًّا كان حجمُ ضغط ظرفية «الربيع العربي» وتأثيراتها السلبية المحدودة، فليس ينبغي للتعليل العلمي أن يتخذ من معطياته مبدأَ تفسير الأزمات تلك، لئلاّ تتحول المعطيات إياها إلى الشجرة التي تخفي عن الفكر غابة العوامل. وإلى ذلك فإن «الربيع العربي» نفسَه في جملة ما يحتاج إلى تفسيرٍ يبحث في أسبابه وعوامله البعيدة والعميقة. صحيح أن واقعة «الربيع العربي» شكلت نقطةَ انعقادِ التناقضات المختلفة في الاجتماع السياسي، وميدانَ انفجارها؛ وصحيح أنّ أزماته استفحلت أكثر بمناسبة اندلاع أحداث ذلك «الربيع»، ولكن من الصحيح أيضًا أنه هو نفسُه «الربيع العربي» ليس أكثر من تَجَلٍّ مادّيٍ صارخ لأزمات مزمنة تولّدت، قبله، ونمت في رحم المجتمعات العربية قبل أن تنفجر جميعها دفعةً واحدة.
وإذا كان في القول هذا تسليم بأنّ أزمةً مركّبة، من نوع أزمة الاجتماع السياسي العربي، قابلة للمقاربة التركيبية من الدارس، فإنّ وراء القول هذا تسليمًا بأن مادةَ تلك المقاربة التركيبية ليست، بالضرورة، من عملٍ الدارس نفسه وإنما هو من غيره يأخذها، وأنها حصيلة عمل جماعيّ وإن كان متفرقاً.
هذه ملاحظةٌ في المنهج ضرورية لإدراك صعوبة الموضوع الذي نطْرقُه، والحاجة إلى تناوله بعُدّة معرفية غنية ومتعدّدة و، بالتالي، عدم استسهال الخوض فيه، من دون أدوات فكرية مناسبة، وكأنّ ظواهره واضحة، وعلَله وأسبابَه مدرَكة. يعلّمنا البحث العلمي أنّ أمثل طريقة لمقاربة موضوع ما وتحليلِه هو استشكاله (تحويله إلى إشكالية أو سؤال إشكالي)؛ لأنّ الاستشكال – أو الأشكلة- وحده يشدّ الوعي إلى الأبعاد والعوامل المختلفة للموضوع المدروس، ما ظَهر منها وما بَطن، ووحده يبدِّد وهْمَ الوضوح الظاهري للمسألة الذي توحي به، فيسمح للتفكير بأن يتخطى لحظة الاستبداد، بما هي لحظةُ كسلٍ معرفي، إلى التيقُّظ تجاه تعقُّد الموضوع المدروس.
وعليه، نحسب أنّ مسألة أزمات الاجتماع السياسي العربي المعاصر، في وجوهها كافة (أزمة السلطة، أزمة المعارضة، أزمة الاجتماع الأهلي العصبوي، أزمة النظام الإقليمي، مشكلات توزيع الثروة…)، قابلة لأن تُقْرأ في نطاقٍ إشكاليٍّ أعمّ هي، في وجوهٍ منها، من تجلياته هو: أزمة «الدولة الوطنية»؛ الدولة التي ولدت في العهد الحديث عقب جلاء الاحتلال الأجنبي وعرفت باسم دولة الاستقلال، فهي الحاضنة الكيانية للأزمات تلك، وهي العامل الرئيسي في إنجابها.
عبّر تكوين «الدولة الوطنية» الحديثة، في البلاد العربية، عن مجموعة من الظواهر والعلاقات الاجتماعية والسياسية والتاريخية غير الطبيعية، أو غير المنسجمة في تكوينها، تأثَّر تكوينُ الدولة تلك بها فأتى، بدوره، هجينًا وأتى يحمل في جوفه مفارقات وتناقضات ذات قابلية للانفجار، ويصطدم- في الوقت عينِه – بحدودٍ رسمها له ذلك التكوين. نعرف، على التحقيق، أنّ الدولة هذه ثمرةُ مزيجٍ من مواريث الدولة السلطانية التقليدية، بتقاليدها الاستبدادية، والحكم الكولونيالي التحديثي. وهذا في أساس واقع كونها استمرت تشهد على ظاهرةٍ شاذة هي: تحديث التقليد، في الوقت عينه الذي أنجزت فيه تحديثًا من غير حداثة، أي تحديثًا اقتصاديًا- تقنيًا مفصولاً عن مقدماته الثقافية والاجتماعية! قامت الدولة الوطنية، في موازاة ذلك، على تمثيلٍ فئوي تفاوَتَ بين تقاسُمٍ السلطة بين العصبيات، وبين الاستيلاء الفئوي (الحزبي، المناطقي) على السلطة واحتكارها. وزادت ظاهرة التغيير بواسطة الانقلابات العسكرية من ضمور مجال السياسة وضِيقه، ومن ترسيخ ظواهر احتكار السياسة والسلطة والثروة في الأعمّ الأغلب من البلدان العربية.
*أزمة السلطة، أو أزمة النظام السياسي، كما أزمة المعارضة تتغذى من أزمة مجال سياسي منعدم، أو شكلي، أو ضيّق يتحوّل معه احتكار السلطة والاستبداد السياسي إلى شريعة حاكمة. يولِّد الاستبدادُ نقائضه حكماً: وهكذا إن كانت المعارضة محظورة أو مضيَّقًا عليها، مالت إلى العنف أكثر – لأنّ النظام يُغلق عليها السبيل إلى المشاركة السياسية – أو تشكلت في صور أخرى جديدة: «دينية»، مذهبية، قبلية أو عشائرية، فتكون النتيجة أنّ أزمة النظام تُنجِب أزمة المعارضة، وأن الأزمتين معا تفسدان السياسة! وحين يغيب المجال السياسي المفتوح (مجال المشاركة) وتكون السلطة فئوية واستبدادية، تتحوّل الثروة إلى موضوع للاستئثار ولسوء التوزيع ممّا تتولّد منه مشكلات وأزمات اجتماعية لا حصر لها (الفقر، التهميش، بطالة الخريجين…) غالباً ما تصبح قاعدة تحتية للانتفاضات والحركات الاحتجاجية العفوية.. ما أغنانا عن القول إنّ أزمة النظام الإقليمي تتغذى، هي الأخرى، من أزمة الدولة الوطنية بمعنييْن: بمعنى أنّ النظامَ ذاك على مثال الدولة/ الدول هذه يكون، لأنها (هي) مادّتُه التي منها يتكوّن؛ وبمعنى أن ما يجري من تنابُذٍ وتباغُضٍ ونزاع بين العصائب داخل كيان «الدولة الوطنية» يتعمَّم إقليمياً بين الدول التي تتصرف مع بعضها، وضدّ بعضها، تصرُّف العصائب الأهلية تلك!
وهكذا، حيثما توجّهنا بالنظر إلى هذه الأزمات – متفرقةً ومجتمعة- عثرنا على عِلّة العلل فيها واحدة: أزمة الدولة الوطنية.
السبت 27 ماي 2017.