هل تعرفين يا لطيفة، أن صراع اليسار واليمين انتهى..
بانتصار اليمين!
وأن العالم انتقل إلى جولة أخرى لأن اليسار يفكر بأن الذكاء الجديد للمنهزمين يفترض أن الصراع أصبح بين:
التقدميين والمحافظين،
بين العولميين والوطنيين،
وبين الحداثيين والرجعيين..
وهل تعلمين بأنني مثلك لم أكن أعرف، أنني في معسكر المنهزمين لو لم يساعدني ريجيس دوبري، الرجل الذي ترك باريس لملائكتها وذهب إلى الجن في بوليفيا على خطى غيفارا ..
قبل أن يدخل قصر الاليزيه مع الراحل فرانسوا ميتران..
الرجل الجميل الذي أعاد تعريف الجمهورية، بما يجعلها سابقة على الديموقراطية!
هل تعرفين يا لطيفة، أن بول فاليري، صديقك الشاعر وصديق العائلة على حد ما ذكره صاحب”الميديولوجيا”، كان يعتبر بأن “كل ما هو بسيط هو خاطئ، وأن ما ليس بسيطا، لا جدوى في استعماله أو أنه لا يُستعمل”…
لهذا يا صديقتي، لا نستغرب لماذا نحصل دوما على أحلام لا تُسْتعمل، فقط لأنها بسيطة للغاية!…
ولو كان لي أن أعود من جديد، لقراءة ما قاله ريجيس صاحبنا، سأجد ولا شك أن بساطتنا في اعتناق اليسار، كما وجدنا القلب في المياه نفسها من الجسد، ليس ما تطلبه الأوضاع الحالية…
كان علينا أن نكون أكثر تعقيدا: كأن نعتبر بأن الديموقراطية هي في نهاية المطاف طريقة في تدبير الطموحات الشخصية!
وأن علينا أن نترك الآخرين يتساقطون مثل الفراشات الخريفية (هل هناك فراشات في الخريف حقا؟)، ثم نتقدم – ألسنا تقدميين- بخطى موزونة فوق جثثهم…؟
“إن بساطتنا تتطلب ما كان الشاعر الضليل رياض الصالح الحسين يسميه ثورة صغيرة
بعد قليل”:
سأقوم بثورة صغيرة
أضع رأسي فوق الوسادة
أغمض عيني على حلم متوحش
وأمد يدي إلى قلبي
وأغني لروزا لوكسمبورغ”..
ربما من فرط الحماسة سأضيف غير قليل من الشعارات، عكس الشاعر الذي ينتهي بأغنية المتمردة الكبرى في القرن اليساري البائد…
أتعلمين يا لطيفة، أن الايديلوجيا بدورها كانت تحتاج إلى خياطين، آه..
أولئك الذين يحبون مدح البذلات الداكنة..
ووردة الجيب الأيسر للزبناء وهم، يعتقدون في وعيهم الزائف أنهم يمدحون السبل الجديرة بالتجريب في تخريب العالم القديم..
هؤلاء المسرعون باتجاه الثورة التي حلمنا بها.. كان يسرعون بالوتيرة نفسها نحو الهزيمة، والبنوك…
يا لطيفة لقد قال ريجيس دوبري إن الصراع يسار- يمين، جزء من الأثاث الوطني، إيه نعم
مجرد “موبيليي”، من قبيل الكنبات
والكراسي
والسداريات المغربية
والمكاتب..
والموائد
لهذا لا تستعجبي- هكذا أريدها استعجابا- إن رأيت أن الكثيرين لا يمكن تمييزهم عن الزرابي، أو
الدواليب… بل أحيانا أسِرَّة تماما! ما كان لي أن أقتحم عليك عزلتك الأدبية، بالحديث فقط عن أشياء تعرفينها، لكن فرض علي السيد ريجيس دوبري أن أبحث عن صديقة أدردش معها عن مقولته الجديدة “أوروبا خرجت من التاريخ!”..
أترين يا عزيزتي إلى أين يصير الجنون بالغرب المتمايل بفعل العولمة؟
أترين المزحة السمجة: أوروبا تخرج من التاريخ ونحن نبقى فيه مثل الأثاث؟
مثل البلاستيك للمناضد…
والخشب للمقاعد…
والمعادن للديكورات الصغيرة..
تعتقدين مثلي بما كان ألبير كامو، صاحب الطاعون يقوله بأن التقدميين لم يكن الهدف من وجودهم هو بناء عالم جديد، بل أقصى ما كان مطلوبا منا هو أن نمنع العالم القائم من
التفكك…
والتسيب…
والتهلهل …؟.
دعك من أفكاري، لكن تابعي معي أفكار الثائر الفرنسي الذي زاد الثورات اللاتينية بعض الغرابة بشعره المنسدل مثل صنوبر بري، التي تشبه قصائد السوريالي “بول نوجي”، صاحب تلك العبارة الرهيبة : هذا الشارع المليء بالجثث، أنظروا، إنكم فيه..
ها نحن في شارع طويل اسمه التاريخ، وقد صرنا جثثا..
بقايا الطبقة العاملة للأحلام والأدب والتخييل الجماعي.. ومع ذلك نحلم، بغير قليل من السذاجة على أن نبقى في التاريخ الذي غادرته أوروبا، تلك القارة التي ابتكرتنا، في القرن التاسع عشر، كما ابتكرت السفن البخارية، والنظارات، وعلب الكبريت والقبعات..
ومن هذه الأفكار المرة التي تغذي روحنا، كما قال هو بالذات، نُسلِّم بأنه كان علينا أن نأخذ السحر في الحسبان..
نعم يا صديقتي، لم نأخذ السحر في الحسبان ونحن نقسم العالم إلى يمين ويسار، أو، ونحن نعتقد بأن أوروبا ما زالت في التاريخ، إلى جانبنا ولم نشعر بأننا صرنا أثاثا…مغبرا!
تنتهي الرسالة هنا، يا عزيزتي، كما في بداية رواية “المسخ” وقد استيقظ غريغور سامسا وهو حشرة..!
نستيقظ وسط التاريخ، كما يستيقظ آخرون وسط الليل، وقد صرنا أثاثا..
مثل ورق الحائط تماما!
الثلاثاء 16 ماي 2017.
(نشر في مجلة بسمة)