لقد كان العلم مصدر اعتزاز وفخر وقوة بالنسبة لأمراء النهضة في الغرب . ومع تطور الدولة الوطنية تمكنت هذه الأخيرة من امتلاك قوة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان المؤرخون يغتبطون لعثورهم في الاَلات الحربية التي صنعها أرشميدس للملكHieron هيرون التحالفَ الأول بين العلم والسلطة، فالفلاسفة يرددون شذرات فرنسيس بيكون وديكارت التي نظر كل واحد منهما من جهته، وبطريقته الخاصة، إلى العلاقة بين العلم والسلطة باعتبارها وسيلة لمراقبة الطبيعة والمجتمع و ضبطهما. فالتقارب النسقي بين العلم والسلطة حديث جدا، وظل مؤطرا بالتطورات التاريخية. وفعلا، فقد ساعدت إقامة الأكاديمية العلمية ومراكز البحث ومعاهده أهل السلطة على اكتساب معارف علمية لمواجهة التحديات التقنية والاقتصادية لدولهم. ويجد هذا الالتحام بين العلم والسلطة لنفسه تعبيرا مختلفا في الغزوات والبعثات التي أوفِدَ بها العلماء الأوروبيون، ما مكن القوى العظمى تدريجيا من التحكم في العالم و بحاره، وساعد على اكتشاف الثروات التي يحتوي عليها. كما تمَّ توظيف ذلك في مراكمة البلدان الغربية لثرواتها والزيادة في رساميلها،مما مكنها من امتلاك سلطة على العالم وتطوير إستراتيجيات، حيث صار التحالف بين العلم والسلطة لا رجعة فيه سواء أتعلق الأمر بمؤسساتهما أم بتطبيقاتهما.
وقد تجسد ذلك بشكل جيد في حالة فرنسا إبان حُكم نابوليون، حيث تم تكريس المجهودات العلمية لتطوير أسلحة لمواجهة التهديدات الخارجية وضمان تغذية الشعب والفيالق العسكرية، وتطوير الاقتصاد والصناعة. وبالموازاة مع ذلك، تمّت مضاعفة مؤسسات إنتاج العلم والمعرفة.وتكوين أعداد كبيرة من العلماء و تأهيلهم مهنيا ليتحملوا مسؤلية تدبير المؤسسات الإدارية والسياسية والعسكرية لاحقا. وقد أدى ظهور القمر الصناعي في القرن العشرين إلى جعل العلم أداة قوية للهيمنة الاقتصادية والعسكرية. وقد تجسد هذه الصلة قبل ذلك، و بشكل واضح في تفوق الصناعة الكيماوية في القرن التاسع عشر، حيثُ كرست الولايات المتحدة الأمريكية كل مجهوداتها من أجل السير على نهج ألمانيا في هذا المجال، فأقامت معاهد وجامعات كبرى للبحث العلمي، مما مكن هذه الأخيرة من الانخراط في تطوير مشاريع لصالح كل من القطاعين والخاص والعمومي بشكل متنام. وقد تطورت العلاقات بين الجامعات الأمريكية وعلمائىها، حيث شجعت حكومات الولايات المتحدة خلال القرنين نفسيهما (التاسع عشر والعشرين) على تكريس العلم لإنتاج السلاح والتجارة فيه من قبل القوى الغربية والشركات المتعددة الجنسية آنذاك، فأصبح من جديد مفروضا على المستوى العسكري بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى. فدول كأمريكا وبريطانيا وأستراليا وكندا قامت بتأسيس مجالس وطنية للبحث العلميين وإدماج المؤسسات والمقاولات العلمية في الاستعداد لمواجهة ما الحروب العسكرية والاقتصادية والأزمات اجتماعية التي يُمكنُ أن تُفرض عليها.
وقد صار معلوما أن السياسة المتبعة في مجال البحث العلمي تجعل منه رافعة للتنمية التكنولوجية، مما يدل على ما اكتسبه البحث العلمي من سلطة وأهمية كبرى في أواخر القرن العشرين،كما أصبح أيضا وسيلة للسلطة الاجتماعية، ونفوذ الدولة الراعية، وأداة لتوسع نفوذ الشركات الكبرى وانتشارها. لقد أصبح اليوم مطلوبا من المختصين في العلوم الاجتماعية أن ينتجوا المعارف التي تساعد على إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها كل من المجتمع والحكومات والمقاولات الخاصة. وتجدر الإشارة إلى أنَّ أصول تطور العلوم الاجتماعية تعود، كما هو الشأن بالنسبة للعلوم الطبيعية، إلى نهاية القرن الثامن عشر حيث ظهرت الليبرالية باعتبارها نمطا لتدبير المجتمعات. وقد مكن كل من توفير معارف حول السكان،وخصوصا الإحصاء الاجتماعي،من بناء فضاء للحريات التي تؤطر سلوك الأفراد في أفق تدبير عقلاني للشأن الاجتماعي. وإذا كان كل من ظهور النيوليبرالية ونهاية الحرب الباردة قد أديا إلى نوع من الجمود في مؤسسات البحث العلمي في ثمانينيات القرن الماضي، فإنَّه تجدر الإشارة إلى أنه سبق للشركات المتعددة الجنسية والمتعددة العلاقات أن لجأت منذ نهاية القرن التاسع عِشر إلى اعتماد المعرفة العلمية لتثبيت سلطها وتركيز المعلومات لديها من أجل الاستئثار بها والاستحواذ عليها وصياغة القوانين والاتفاقيات الدولية. وقد شجعت عولمة المبادلات الاقتصادية على تنظيم لقاءات دولية لتحديد المشكلات وتطوير حلول لها. كما تم، عبر تحديد سلوكات الدول والمقاولات والمؤسسات العلمية وانخراط هذه الأخيرة وعلمائها، في العمل على مستوى آخر لوضع نظام يدبره علماء السلطة ابتداء القرن السادس عشر.
عندما أتأمل تاريخ العلم وإبداعاته، وما نجم عنه من تحولات حضارية واقتصادية ومعلوماتية واجتماعية وسياسية، وتقدم في مختلف الميادين، ترد على ذهني أسئلة من نوع: هل تقيم مدرستنا العمومية المغربية علاقات سليمة مع مختلف العلوم والمعارف؟ هل تواكب الانفجار الذي تعرفه مختلف المجالات المعرفية و الحقول العلمية؟وهل تدرس مدرستنا المعرفة العلمية بطرائق تنسجم مع طبيعتها، ولا تنسفها؟ هل يفكر التلميذ المغربي من داخل المادة الدراسية العلمية؟ هل ينخرط في منطقها؟ وهل يتذوقها؟وهل هو قادر على توظيفها لاكتشاف العالم من حوله ومعرفة نظامه وكيفية اشتغاله؟ هل يكتشف المفاهيم العلمية عبر بنائها؟ ألا تفصل مدرستنا بين العلوم الحقة والآداب والإنسانيات؟ ألا يشكل هذا ضربا للمتخيل لدى المتعلِّم؟ ألا يدل هذا على أن القائمين على المدرسة عندنا لا يعرفون أن أنشتاين قد اكتشف النظرية النسبية عن طريق الحدس قبل أن يبرهن عليها بالمعادلات الرياضية؟ ألا يجسد هذا عدم وعيهم بدور الآداب والفنون والإنسانيات في تطور العلوم والمجتمعات فكريا وماديا؟
يبدو لي أن دعوة البعض إلى التخلي عن مجانية التعليم يحول دون انتشار المعرفة في أزمة مجتمعه، كما أنَّ هذا البعض لن يمكن بلاده من نهضة اقتصادية، بل وسيحول دون بناء مؤسسات قوية، مما قد يضع الوطن في مهب الريح، لأنه بتلك الحيلولة سيكون قد أعاق بناء مواطنة صلبة.