“ليست الذاكرة تخزينا للماضي. فالذي مضى قد مضى ولا يسعه أبدا أن يصبح راهنا من جديد. الذاكرة هي أقرب لأن تكون نوعا من اختبار التماسك. مع العلم أنه ليس من الضروري تذكر متى تم تعلم شيء ما أو لم يتم تعلمه”[1]
تمر المنطقة العربية مثل بقية البلدان في العالم التي شهدت اضطرابا سياسيا بعد اندلاع الحراك الاجتماعي وبذلت محاولات للخروج من نظرة شمولية للعلاقات البشرية إلى نظرة ديمقراطية للفضاء المواطني بفترة صعبة وظروف مضطربة وذلك لبقاء العالم القديم على حاله وعسر ولادة العالم الجديد وقد أثر هذا التوتر على نظرة الذات الجمعية لنفسها وتعاملها مع موروثها الرمزي ومخزونها النضالي وذاكرتها الوطنية.
لقد تحول الصراع حول احتلال المواقع وجلب المنافع وتعزيز مكانة الأحزاب السياسية والهيئات المدنية في المشهد الديمقراطي إلى صراع حول الذاكرة النضالية للشعب واندلع تنافس حول أحقية كتابة التاريخ والإمساك بمطلب العدالة الانتقالية ضمن المسار الثوري وبرزت عدة مواقف حول هذه القضية الحساسة:
– الرأي الأول ينادي بالمحاسبة الشاملة والمجاهرة بالحقيقة قبل المصالحة المحدودة
– الرأي الثاني يتبنى خيار المحاسبة الدقيقة والمساءلة العلنية قبل المصالحة المشروطة
– الرأي الثالث يدعو إلى الصفح بغية المصالحة الاقتصادية عبر آلية هيئة الحقيقة والكرامة
– الرأي الرابع يؤكد على ضرورة التسريع بالمصالحة الشاملة من أجل الوئام المدني
من البديهي أن يتم تثمين المجهودات المبذولة من الهيئات الدستورية في إنارة الٍرأي العام وإنصاف المظلومين والمطالبة بإرجاع حقوقهم وجبر أضرارهم، كما يمكن الدعوة إلى المزيد من الشافية والعقلنة والإجرائية والتشاور مع هيئات المجتمع المدني في العديد الملفات وخاصة جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان ونقابات العمال ومختلف الجمعيات المدنية والحقوقية التي شاركت في النضال ضد المنظومة الشمولية. كما يجب الحرص على التمييز بين صيانة الذاكرة الوطني من كل تلاعب واستعمال خاطئ وسيء وبين إعادة كتابة تاريخ الحركة النضالية التي شارك في كتابة ملحمتها شريحة واسعة من القوى التائقة إلى الحرية والكرامة والعدالة من الشعب وخاصة من الشباب والنساء والمثقفين. من هذا المنطلق يبدو التلازم بين المسارات الأربع (المحاسبة، المساءلة، المجاهرة، المصالحة) أمرا ضروريا ومطلبا شعبيا يسمح بالبلد من الخروج من المنحدر الخطر وتتمثل في استكمال أهداف الثورة ضمن جدلية سيادة الدولة واستمرارها من جهة واحترام منظومة المواطنة والحريات من جهة أخرى.
“هناك قراءتان للظواهر الذاكرية نتركهما تتنافسان. الأولى تميل نحو فكرة النسيان النهائي: وهذا هو النسيان عن طريق محو الآثار، أما الثانية، فتميل نحو النسيان الذي يستعاد بل حتى فكرة الذي لا ينسى، أنه نسيان الاحتياط”.[2]
علاوة على ذلك يرى الفكر الملتزم بأن العديد من الأسئلة تنظر أجوبة تفسيرية والعديد من الإشكاليات والقضايا ما زالت عالقة ويمكن ذكر البعض منها على النحو التالي: ما المقصود بالعدالة الانتقالية في الحالة العربية؟ وهل بغلت درجة المأسسة من خلال تركيز هيئات دستورية وانطلاق أشغالها؟ والى أي مدى جسدت الجلسات التي تم تنظيمها حقيقة الانتهاكات التي حدثت في الماضي الشمولي؟ وكيف يمكن فحص بشكل دقيق جراحات الذاكرة الجمعية والإهانات التي تعرضت لها الكرامة الوطنية؟ وما هو الرهان الذي تسعى إليه المجموعة الوطنية ضمن مناخ تعددي وتشاركي من وجود هذه الهيئة؟ ألم يقم الشعب بالثورة من أجل تحرير الأفراد والمجموعات من الاستبداد والاستغلال والفساد؟ أليس الأجدر أن يعطى كل ذي حق حقه وأن يتم إنصاف الجهات المحرومة والفئات المهمشة والمعطلة والأقل حظا؟ متى يتم تجاوز منطق الثأر والقصاص والتشفي ويقع تبني منطق إيتيقي يكرس الصفح والعفو والتفاهم؟ أليس المطلوب من القوى الفاعلة هو تدبير اختلاف رحيم يجمع بين عدالة النسيان والذاكرة السوية؟
“حين يتعلق الأمر بالنسيان النهائي المنسوب إلى محو الآثار فإنه يعاش كتهديد: ضد مثل هذا النسيان نقوم بعمل الذاكرة كي نؤخر مساره، بل وحتى إفشاله. إن الأعمال الخارقة لفن الذاكرة كانت تهدف إلى رد مصيبة النسيان عن طريق نوع من المبالغة في الاستظهار كي يأتي نجدة إعادة التذكر”.[3]
كما أن الرد على هذه التحديات ومعالجة هذه الإشكاليات المطروحة حول علاقة الذاكرة الوطنية بتحقيق العدالة الديمقراطية يتطلب توزيعها ضمن جملة من الأبعاد والمجالات:
– محور تشريعي قانوني يتنزل في باب فقه القضاء الدستوري
– محور بسيكولوجي اجتماعي يرتبط بالضمير المشترك
– محور سياسي اقتصادي ينصف الأغلبية بتوفير الخير العام
– محور أنثربولوجي يطرح استعمال علاجي وقائي للذاكرة
“هناك صلة وثيقة دائما بين نظرية الذاكرة من جهة وبين توجه براغماتي نحو المستقبل من جهة أخرى، بحيث يتسنى ربما القول بأن الذاكرة ليست إلا اختبار متواصلا لتماسك المعلومات مختلفة انطلاقا من توقعات معينة، أكانت ما يود المرء التوصل إليه، أو التخوف من شيء ما، أو أكانت توقع المرء بحدوث شيء ما رغبته بالرد على ما قد يحدث”.[4]
لكن ما الضامن الذي يمنع الفاعل السياسي من جهة الحكم من معاودة انتهاك الكرامة البشرية؟ وما هي الشروط التي يلزم توفيرها قصد الكف عن التلاعب بالذاكرة النضالية ومنح الاعتراف التام للمناضلين المنسيين بالمساهمة الفعلية في الدفاع عن المجتمع وتضحيتهم بالغالي والنفيس من أجل راية الوطن؟ وكيف يشهد المصالحة والصفح تأجيلا بتأخر مسار المحاسبة والمساءلة وتعطل مطلب العدالة الانتقالية؟
(*)الهوامش:
[1] لومان (نيكلاس)، مدخل الى نظرية الأنساق، ترجمة يوسف فهمي حجازي، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، بغداد، العراق، طبعة أولى، 2010، ص 127
[2] ريكور (بول)، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بنغازي، ليبيا، طبعة أولى، 2009، ص 608
[3] ريكور (بول)، الذاكرة، التاريخ، النسيان، مصدر مذكور، ص 619.
[4] لومان (نيكلاس)، مدخل الى نظرية الأنساق، مصدر مذكور، ص 127
(*)المصدر:
لومان (نيكلاس)، مدخل الى نظرية الأنساق، ترجمة يوسف فهمي حجازي، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، بغداد، العراق، طبعة أولى، 2010.
ريكور (بول)، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بنغازي، ليبيا، طبعة اولى، 2009.