-1-
العنف من الكلمات المرعبة، وأفعاله من السلبيات القاسية التي تهدد حياتنا بالتدمير والشقاء والقسوة. وموجات العنف في مجتمعنا، أصبحت متلاطمة على كل الشواطئ، وتكاد تكون السمة الأساسية لمجتمع الفقر والتخلف والجهل والبطالة والمرض والتهميش، بل تكاد تكون السمة الأساسية لوجه هذا المجتمع. المحبط، الغارق في سوداوية الفقر، فهي مع انسداد أبواب العيش الكريم، في وجه المواطنين وخاصة منهم الشباب، تزداد هذه الموجات عنفا وتزداد قساوة.
والعنف الذي يتخذ شكل الموجات المتلاطمة في مجتمعنا الجديد، على شطآننا بقسوة وألم، يتخذ لنفسه أساليب مختلفة، فهو عنف الذين فقدوا الأمل في الاستقرار والآمان/ عنف الذين فتح الشر شهيتهم للقسوة / عنف اللصوص واللصوصية / عنف الفساد والمفسدين والراشين والمرتشين، والمزورين والمحتالين والذين لا ضمير لهم/ عنف متعدد الصفات والأشكال والألوان، يمتد بتطرفه من أقصى هذا الشاطئ إلى أقصى الشاطئ الآخر.
العنف هنا، أصبح أكبر من ظاهرة وأكثر من حالة، وأسباب تجدره في مجتمعنا المريض بالفقر والجهل والأمية، كثيرة ومتعددة، أهمها عدم توافر عوامل الوقاية، وعدم توافر عوامل الأمن والأمان، (التعليم، الشغل، الاستقرار، والكفاف والعفاف) وعدم توفير عوامل العلاج (سياسة تنموية متوازنة، قادرة على فك فتيل انفجارات العنف).
ومع أن العنف ظاهرة عالمية، أصابت قبلنا العديد من الدول والشعوب، فإننا لم نستطيع الاستفادة من تجارب الآخرين لمواجهته وعلاج أعراضه، لم نعط حتى الآن لهذا العنف ما يستحقه من دراسة وبحث واهتمام، لم نستخدم العلم والمعرفة للسيطرة على موجاته والتحكم فيها، لم نقم بما يجب القيام به لمحاصرته وطرده، ليعود الاطمئنان لنفوس الذين أرعبهم وقضى على اطمئنانهم.
إن العنف الذي نعاني منه في مجتمعنا، يمتد على مساحة واسعة : عنف ضد الأطفال في المدارس والشوارع/ عنف ضد النساء في البيوت والمعامل والإدارات العمومية والأزقة/ عنف ضد الشباب العاطل والمعطل في التظاهرات والمظاهرات/ عنف ضد المعتقلين في المخافر والسجون/ عنف ضد المتعاملين مع المؤسسات العمومية/ عنف ضد الفقراء والمهمشين والذين لا قدرة لهم للدفاع عن أنفسهم…
يوميا، يظهر في صحفنا ما يشجب هذا العنف. يوميا ترتفع الأصوات ضده، ضد عنف اللصوص واللصوصية/ ضد عنف التسلط والمتسلطين/ ضد عنف الإدارة والموظفين، وعنف الخدمات والأسعار والسماسرة والمتاجرين والمضاربين…
يوميا تصمت الأجهزة الحكومية المختصة عن الصيحات المدوية ضد العنف القائم، لتترك للعنف حرية النمو/ حرية السيطرة والتحكم، على ساحة واسعة من المجتمع.. ومن مكوناته.
-2-
العنف إذن، يشكل ظاهرة بارزة في حياتنا، فهو واقع حي، عنف متعدد الأشكال والأصناف، حاضر على رقعة واسعة من جغرافيتنا.
إن الأفعال الجانحة والمنحرفة في مجتمعنا اليوم، لم تعد تقتصر على الجنح والجرائم والمخلفات العادية والتقليدية، ولكنها شملت في الفترة الأخيرة من الزمن المغربي، جرائم من “الصنف الثقيل”/ جرائم مروعة في غاية الوحشية والدموية المفرطة، لتصبح دائرة العنف واسعة ومخيفة، تستعمل كافة الأسلحة لإزعاج المجتمع وإغراقه في مشاعر الخوف والقلق والرعب والسوداوية.
إن السرقات والاغتيالات وتقطيع الجثث البشرية وتشويهها والاعتداء على الأفراد والمؤسسات وهتك الأعراض وضرب الزوجات وخطف الأطفال والتعرض للفتيات والنساء وابتزاز المارة في الشوارع بالأسلحة البيضاء، نماذج من هذا العنف اللعين، الذي بدأ مجتمعنا يقاسي ويعاني منه في المدن والبوادي، بشكل مستمر ومتصاعد، إلى جانب معاناته من العنف الآخر، الذي تمارسه عليه ظروف أزمته الاجتماعية/ الاقتصادية المترابطة والمتشابكة.
وإذا كان من الصعب جدا، في الوقت الراهن على الأقل، تصنيف أو حصر عمليات العنف التي تمارس داخل مؤسساتنا الاجتماعية، فإن ما تنشره الصحف ووسائل الإعلام من أخبار وصور ومحاكمات عن حوادث العنف التي تجتاح هذه المؤسسات من كل جانب، يؤكد بألف دليل أن ظاهرة العنف كاسحة وتمتد إلى كل شرائح المجتمع، وأن حجمها يزداد تضخما وتعقيدا، ويزداد فعلها همجية ووحشية، مع تنامي ظواهر أخرى، تتصل بالتعليم والبطالة والأمية والفراغ والعقائدي.
-3-
والعنف، ليس ظاهرة محلية، فهو ظاهرة إنسانية قديمة وموغلة في التاريخ البشري، تواجدت في كل المجتمعات، وفي كل الحقب التاريخية، ومازالت قائمة على الأرض بقوة وكثافة، و لربما كانت قصة ” قابيل وهابيل” في بداية التاريخ البشري، منطلقا لظاهرة العنف في الحياة الإنسانية.
وإن النظر العميق لمسألة العنف في التاريخ البشري، يعطي الانطباع أن العنف بأشكاله وأصنافه ومشاهده المختلفة، كان وما يزال، قاسما مشتركا بين كل المجموعات الحضارية التي مرت على أرضنا، من العصر ما قبل الحجري، إلى تاريخنا الحديث بتطوره التكنولوجي الذي أعطى للعنف موقعا جديدا في الحياة الاجتماعية، فأصبح بفضل الإعلام والاتصال والتكنولوجيا، متواجدا وقائما في المدرسة والبيت والادارة والمخفر والمحبس والشارع، كما في السياسة والدين والسلطة.
ولاتساع مفاهيمه ودلالاته في ثقافات العالم المختلفة، أصبح العنف صعبا على العلماء والفقهاء والمشرعين المختصين/ أصبح صعبا عليهم، وضع تعريف موحد لهذا المصطلح/ العنف، كما أصبح صعبا عليهم وضع علاج نهائي لآثاره وأعراضه وأسبابه، وتلك واحدة من التحديات التي تواجه العالم اليوم في استئصاله ومكافحته.
-4-
وخارج أي تحليل أكاديمي، علمي لظاهرة العنف في المجتمع البشري، نرى أن ظاهرته مركبة، تتداخل فيها جملة من العوامل والأسباب المتصلة بها، فهي دون شك، صنيعة منظومة كاملة من العوامل والأسباب التي جعلتها على شكلها المفزع والمخيف، فكما هو الحال في كل الظواهر الاجتماعية، تتعدد الطروحات حول الأزمة الاجتماعية/ الاقتصادية القائمة، وما قادت إليه من انهيارات وتوترات اجتماعية/ نفسية عميقة، بسبب التفاوت الفاحش بين الأفراد والشرائح والطبقات على مستوى الدخل والعيش والاستهلاك، وبسبب التهميش القصري لفئات متزايدة من الشرائح والطبقات، وأيضا بسبب تراجع وفشل المخططات والسياسات الإنمائية في العديد من دول العالم.
وأكيد أن تدهور المعيش اليومي للفئات الاجتماعية الفقيرة والأقل من مستوى الفقر، أصبح يصنع التربة الخصبة للعنف بالكثير من الحدة والحقد والسوداوية، كما أن سوء التسيير والتدبير وسوء التخطيط وفشل السياسات الاجتماعية والاقتصادية، أصبح يعطي لظاهرة العنف امتدادها وتجذرها على الساحة الاجتماعية.
إن ضعف ووهن الروابط والعلاقات الاجتماعية، وتهاوي القيم الدينية والأخلاقية واتساع حالات القلق لدى العاطلين والمهمشين والمقهورين وافتقارهم إلى الشعور بالطمأنينة والاستقرار وضعف الرقابة الموضوعية من جانب الأجهزة الإدارية والسياسية والتربوية والعلمية، جميعها تساهم في تنامي ظاهرة العنف وسيطرتها على الفضاء الاجتماعي وهو ما يعني بوضوح فشل السياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتعاقبة، وعدم استيعاب الأسباب التي جاءت بها، وتوفير المناخ الذي يتيح حل إشكالاتها وتناقضاتها، كما يفسر ذلك، من جانب آخر، محدودية التطور الديمقراطي، الذي لم يتسع لكافة الطبقات والشرائح الاجتماعية، حيث بقي التعامل مع الحقوق والحريات العامة يستبعد العاطلين والمهمشين والفقراء والمطرودين من المدارس والنازحين من القرى، من اكتسابها بشكل حقيقي، لاتخاذها بدائل سليمة وموضوعية لأساليب العنف والجريمة… فكان من الطبيعي والحتمي، أن يكون التدهور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، دافعا للفئات والشرائح المظلومة والمهمشة والفقيرة واليائسة لتفريغ نزاعات غضبها ويأسها ونقمتها على المجتمع، من خلال أفراده، ومن ثمة جاءت دعوات النخب السياسية والثقافية، تربط السلام الاجتماعي بالتحول الديمقراطي الذي من شأنه الحد من قنوط اليائسين والمهمشين والمظلومين، بتحسين أوضاعهم المعيشية، وإدماجهم في الحياة العامة، بالتعليم والتكوين والتشغيل والرعاية.
-5-
لاشك أن الأزمة الخانقة الذي يعيشها شبابنا في القرى والمدن بسبب سوء التربية والتعليم وسوء التشغيل والتكوين والتوجيه، وسوء الصحة والخدمات، تعد واحدة من العوامل التي ساعدت/ تساعد غول هذه الظاهرة على التوسع والانتشار، لتصبح مفزعة ومخيفة للحد الذي توجد عليه الآن، على أرض الواقع.
العنف في نظر العلماء المختصين، تدمير لمشاعر الأمن/ تعويض لليأس القائم عن انهيار الإيمان بقدرة الذات، وفي نظر الباحثين في ظواهره لدى الشعوب، أن العنف يعبر عن ازدياد الحاجة إليه، أي ازدياد العوائق التي تحول دون التخلي عنه وهو ما يعني على أرض الواقع، ازدياد عدد الذين تدفعهم ظروفهم الصعبة/ القاسية إلى استعمال العنف وجرائمه، والذين تتعارض أهدافهم مع الأهداف التي يحددها المجتمع والذين سدت كل سبل العيش في وجهوهم… والذين أصيبوا بخيبة وجودهم… أصناف بشرية يائسة تمتد على مساحة واسعة من واقعنا الممتلئ بالثقوب والاحباطات، توظف العنف للوصول إلى أهدافها المفترضة.. أو أهدافها المرسومة.
إن العنف في الدراسات السيكولوجية المعاصرة، يتربى ويشب داخل مجتمع المحرومين والمهمشين/ مجتمع الذين لا اعتبار لهم في السياسات الرسمية، وما أكثرهم على ساحتنا الاجتماعية.
وفي الدراسات الاجتماعية (علم الاجتماع) يرتبط العنف بالعدالة الاجتماعية، أي بمشاعر عدم الاطمئنان التي تملأ صدور غالبية مواطنينا/ مشاعر عدم الاستقرار التي تغذي هواء تتنفسهم/ مشاعر عدم العيش النظيف الكريم. كل هذه المشاعر ترتبط بإشكالية التزايد السكاني الغير معقلن، والذي يضاعف من أسباب التراكم والتوتر والإحباط والبطالة وغيرها من دوافع العنف وآلياته في مجتمعات العالم السائر في طريق النمو/ العالم المتخلف.
إذن مسألة العنف في مجتمعنا، وفي المجتمعات المتخلفة المماثلة، ليست مسألة ظرفية، ولكنها ترتبط إلى حد بعيد بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية الشاملة التي تعاني منها شرائح المجتمع وطبقاته المختلفة، وهي نفسها الأسباب التي حولت مجتمعنا أو جزء واسعا منه، إلى مجتمع عبثي، يائس من قيمه ومن انتظاره للغد الأفضل، فبدأ يعوض عن يأسه بتمجيد الحقد والعنف، وبركوب المصير الملعون الذي يقارب يأسه وبؤسه، ومن ثمة اتخذت ظاهرة العنف حجمها المهول الذي لا يصدق بالعقل المجرد.
-6-
إن الاقتراب من ظاهرة العنف والجريمة على ساحتنا الاجتماعية، يعطي الانطباع، أن علاجها أو القضاء عليها، ليس صعبا، ولا مستحيلا، ولكنه يجب أن يخضع لشروطه الموضوعية، وأهم هذه الشروط الإدراك الحقيقي لأهمية دور الدولة والقانون ومؤسسات المجتمع المدني قاطبة في الوقاية من داء العنف والجريمة والانحراف بشكل عام، ذلك لأن حقوق الإنسان والقيم الدينية والأخلاقية والثقافية والتقاليد والتربية والتماسك الأسري والعلاقات السوية بين الأفراد والجماعات والعدالة الاجتماعية واستقلال القضاء، كلها عناصر أساسية لعلاج ظاهرة العنف والجريمة واستئصالها من جذورها، وهو ما يعني تغيير الوضع الحالي للأزمة، وإحلال السلام الاجتماعي، محل الصراع القائم.
إن الاهتمام بدور الأسرة والمدرسة في تربية النشئ وتوعيته دينيا وأخلاقيا واجتماعيا، لم تعد كافية في ظل “وضع العنف” الراهن، للسيطرة عليه أو مكافحته، لأن الأمر أصبح يتعلق بالدرجة الأولى بإشباع الحاجيات الجسمية والنفسية والاجتماعية للأفراد وتحسين وضعهم وتمتيعهم بكافة حقوقهم المشروعة، المنصوص عليها في الدستور، كما في لوائح حقوق الإنسان.
وفي تجارب الدول التي سبقتنا إلى المعاناة من ظاهرة العنف، وإلى معالجتها، بعض المفاتيح وبعض الحلول التي يمكن الاستفادة منها والاستئناس بها.
إن اطراد عملية التنمية في العديد من دول العالم، تسبب/ يتسبب في زيادة معدلات الإجرام والجنوح والعنف بشكل عام، وهو ما ينتج شرخا بين معدل التغيير الاجتماعي المترتب عن التنمية السريعة وبين قدرة المجتمع على التكييف والتنظيم، ومن تم التجأت العديد من الدول إلى الكشف عن العلاقة بين التنمية وزيادة معدلات الجريمة والعنف قبل وضع مخططاتها الإنمائية حتى تتمكن من الموازنة بين المعطيات الاقتصادية والمعطيات الاجتماعية ومن إعادة الاعتبار للشرائح التي تتهيأ على أرضيتها ظروف العنف والجريمة.
وبالنسبة لنا في المغرب، كبلد يعاني من ظاهرة ترتبط أساسا بالتنمية العشوائية، نرى أن ما ينطبق على المجتمعات النامية ينطبق علينا، إننا مثلها نشهد تغيرات اجتماعية سريعة، بفعل التنمية السريعة، مما أحدث تفاوتا ملحوظا بين الشرائح والطبقات/ بين الأفعال والقيم، وهو ما أعطى للعنف وللجريمة أن يصبحا ظاهرة ملفتة، ومهددة وفاحشة وسوداوية، وهو أيضا ما يفرض علينا إعادة النظر في تركيب وظائف الكثير من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، وتهييء مخططات وبرامج وطنية شاملة لمواجهة تحديات المتغيرات “التنموية” الطارئة، التي تربط بين الإستراتيجية الأمنية وبين حقوق الإنسان/ بين ضمان الحريات الاجتماعية والالتزام بقيم الديمقراطية والمواطنة.
السؤال: إلى متى ستظل الأجهزة الحكومية صامتة عن هذا “الطابو”؟ متى ستنفتح السياسات الحكومية على هذه الظاهرة المقرفة… ومتى ستنتبه إلى أن المقاربة الأمنية وحدها، لا يمكن أن تعالج أسباب هذه الظاهرة… وآثارها؟
أفلا تنظرون؟