قد لا يكون الحوار الذي تدعو إليه جهات متعددة وبنوايا متباينة أمرا طارئا أفرزته حاجات عولمة تهدد باكتساح كل شيء في طريقها. فالتفاعل، رغم كل مآسي الحروب والتطاحن، سمة ثابتة في تاريخ الشعوب وليس اكتشافا حداثيا يمكن أن يوضع في حساب هذا الطرف دون ذاك. فأن يعج التاريخ الإنساني برحالة من كل الأعراق والديانات والثقافات، جابوا العالم رغبة في التعرف على الآخر ونقل معارفه وخبراته من أجل إغناء التراث المحلي، دليل قاطع على أن الأصل في الوجود الإنساني هو التلاقح والتفاعل الإيجابيين لا الصراع المدمر.
إنه واقع ثابت في التاريخ أملته حاجات نفعية ولم يكن رغبة في حب الآخر وهياما بخصوصياته الثقافية. فلقد تعلمت الإنسانية منذ غابر الأزمان كيف تحتوي عدوانيتها انتصارا للمصالح المتمثلة في تبادل حر للبضائع والمعارف والخبرات. وقد تحقق هذا الحوار حتى في الحالات التي لم يكن هناك أي تبادل لسني يسهل التعرف المتبادل على العوالم الثقافية لأطراف هذا الحوار. لقد تم تسويق الخبرة الإنسانية في جميع أرجاء المعمور كما تسوق كل البضائع، وبدون هذا التسويق ما كان بمستطاع الإنسانية أن تراكم من الخبرات ما مكنها من إرساء دعائم الحضارة المعاصرة.
ومع ذلك، فإن صيغة السؤال الحالي للحوار هي غير صيغته قديما. وأشكال تحققه لا يمكن أن تستنسخ التجربة القديمة أو تعيد إنتاجها على شكل تلاق قد يقود إلى إلغاء كل ما يميز ويفصل ويخصص. وأسباب ذلك متعددة، منها ما ترتب عن المدنية الجديدة التي داهمت شعوبا كثيرة وهي لم تنجز بعد ثوراتها التاريخية، مما خلق تفاوتا رهيبا بينها وبين من أسسوا لروح العصر الحديث وصنعوا تاريخه. وهو نمو لا يقف عند حدود الاقتصاد والتصنيع والتكنولوجيات المتنوعة، بل يشمل ما له علاقة بالوجدان ودرجة الوعي الحضاري وتدبير الحقائق الجديدة التي جاءت بها الأزمنة المعاصرة. ومنها طبيعة الأسناد الحاملة للمعرفة ذاتها ( كل وسائل الاتصال الجماهيري التي تصعب مراقبتها وعلى رأسها الفضائيات والأنترنيت). فالحامل الجديد للخبرة الإنسانية ( بكل مظاهرها السلبية منها والإيجابية) قادر على تخطي كل أشكال الرقابات السياسية والإيديولوجية والدينية. وقد أصبح، بصفته تلك، قادرا على اقتحام البيوت والتسلل إلى الأذهان في غفلة من سلطة تراقب أو دين يقي أو ثقافة تنسب وتكيف المضمون القيمي الوافد.
إن إفرازات هذا التفاوت ليست هينة، فهي أصل التشظي الاجتماعي المتلاحق وأصل تطوره المحجوز. لقد خلقت تعددا في المراكز القيمية ونوعت من مصادرها، فسقطت بذلك كل نقط الاستدلال الممكنة وأصبحنا أمام حالات اجتماعية متفاوتة في الجوهر والتجلي على حد سواء. بالإمكان أن نمارس وجودنا استنادا إلى قيم جديدة معلبة في أشكال قديمة هي حاصل الفصل بين جوهر القيمة وسيرورة تشكلها. ووفق القيم ذاتها يمكن تصور عوالم منفصلة كلية عن السقف الثقافي المحلي وممكناته على شكل حداثة تتحقق خارج الإيقاع الفعلي لمجتمع لم يستطع بلورة ثوابت قادرة على ضبط إيقاع نموه إلا على شكل مبادئ كبرى لا يتم الالتفات إليها إلا في حالات الأزمات أو الصدام المفاجئ. بل قاد هذا التفاوت، عكس ما يعتقد البعض، إلى المزيد من الانكفاء على الذات والحنين إلى ماض لن يجلب أي مكسب، ولكنه يمد الذات – وهميا- بما يمنحها الدعة ويجنبها المغامرة خارج الحدود.
والحالة الأخيرة هي منطلق الإشكالات ومنطلق التأملات الممكنة أيضا. فهي خاصة بالشعوب التي بلورت في تاريخها الطويل نظما فلسفية وأنساقا للقيم لها امتداداتها في كل مناحي الحياة، الفردية منها والجماعية، كما هو حال الشعوب العربية الإسلامية. فهذه الأنساق قد تقف حاجزا أمام قدرتها على مراجعة بعض مسلماتها الفكرية، أو إعادة النظر في بعض الأسس التي قامت عليها أو التنويع من ثوابتها. بل قد يقودها – والأمر كذلك في كثير من الأحيان – إلى مصادرة حق الآخرين في بلورة صيغة أخرى للعالمين، الأسفل والأعلى، لا تعيد بالضرورة استنساخ ما هو موجود في تراثها، من حيث المضامين التي يمكن أن تسند للصرح الأخلاقي المخصوص، ومن حيث الأسقف الثقافية القادرة على احتضان هذه الصيغ والتنويع من حيث تحققاتها.
وهذا الوضع الأخير هو منطلقنا نحو تحديد العوائق التي تجعل العلاقة مع الآخر مشوبة بالكثير من التوتر وسوء الفهم، وهو ما يحول دون إقامة حوار منتج للخلاف والتعدد، لا داعيا إلى وحدة لا يمكن أن تتحقق أبدا. فأن تكون الحقيقة جزءا من ماض هو أصل الزمنية الإنسانية ومنتهاها، معناه أن كل شيء يجب أن يتم وفق هذه الحقيقة ووفق ممكناتها في استيعاب المعطى الجديد. إن الأمر يتعلق بتقابل مروع بين حقيقة ثابتة وواقع متجدد.
ويكفي لتوضيح هذه الإشكالية الإحالة على بعض الصور السلوكية المستقاة من ردود أفعال يومية وعفوية ومرتبطة بتدبير شؤون حياتية لا تنتمي إلى ” قضايا وجودية كبرى” تستدعي استحضار مبادئ من الدين أو الثقافة. إنها صور تكشف عن دور الحجب المسبقة في تكييف الحقائق وفق ما تقتضيه الرؤية القديمة للذات والعلاقات الاجتماعية وللروابط الممكنة مع الآخر المختلف في الدين واللغة والوجدان. وتستقي هذه الصور تفاصيل مضمونها الحقيقي من وجود هذه الحجب التي تمنع العين من أن ترى ما هو معطى لتعوضه بأحكام مسبقة تطمئن لها النفس. ومن بين هذه الصور – وهي كثيرة – نورد ما له ارتباط بردود الأفعال التي تتم خارج الرقابة الثقافية المسبقة، كالتعبير العفوي عن الإعجاب بصدق الإنسان الغربي وأمانته واحترامه للموعد والحق والواجب.
فقد تردَدَتْ على مسمعي مذ كنت صبيا وإلى الآن جملةٌُ غريبة لم أدرك سرها إلا عندما بدأت أعي ألا علاقة للمضامين الحقيقية للأخلاق بالأصل العقدي الذي يسندها، فمصادر الأخلاق يجب البحث عنها في قدرة الفرد المعزول على تجسيدها في سلوك يحتفي بالإنسان باعتباره قيمة مطلقة لا يمكن المساس بها، وفي قدرة المجتمع، باعتباره فضاء محايدا، على توفير الإطار القيمي الملائم لاحتضان هذا السلوك خارج أية مرجعية سوى المرجعية الدالة على حرية الفرد في التعبير عن نفسه ضمن ما تقتضيه ثوابت الوجود الإنساني.
” لو أسلموا لدخلوا الجنة قبلنا “
لم تكن هذه الجملة مرتبطة بسياق بعينه، ولم تكن لها صياغة واحدة. فقد كانت تلقى في مناسبات متنوعة وبطرق مختلفة تعبر كلها، وبحسرة لا يمكن إنكارها، عن إعجاب بالآخر في طريقة تعاطيه مع الفضاء والزمان وكل مقتضيات التواصل الإنساني. لقد كان قاسمها المشترك التشكيك في الهوية الثقافية للآخر والرفع من شأن سلوكه من جهة، والتشكيك في الممارسة السلوكية للذات المحلية، وتمجيدها كهوية محددة من خلال انتماء عقدي من جهة ثانية. مفارقة عجيبة لا يمكن تجاوزها إلا من خلال إعادة تعريف السقف الأخلاقي خارج أية محددات مسبقة.
وبذلك تكون هذه الجملة في ذاتها إحالة مأساوية على حكم قيمي كلي ومطلق قائم على حالات حرج من الصعب رفعه. إنها في واقع الأمر إشارة صريحة إلى وجود كتلة قيمية ملتبسة تشوش على الهوية وعلى محدداتها السلوكية في المقام الأول. فهي تستند، في هذا الحكم، إلى وجود شرعية إلهية يتحدد ضمنها الانتماء باعتباره قيمة إيجابية مثمنة في المنطلق وفي المآل، ولكنها تسجل صراحة محدودية هذه القيمة من حيث المردودية الفعلية، أي الوجه العملي للقيمة كما توصف في النسق الثقافي، وتتضمن بالضرورة أيضا إعجابا بالآخر من حيث المردودية السلوكية في المعاملات والعلاقات الإنسانية، ولكنها تشكك في الأصل العقدي الذي يسند هذا السلوك.
فنحن في جميع الحالات نأسف لمن لا يمارس طقوسه وفق طريقتنا بقاءه خارج الجنة، لأننا واثقون من أن ما سيقودنا، في نهاية الأمر، إلى الجنة والتمتع بخيراتها، بعد كل التجارب الصعبة المحتملة، هو نمط ثقافي مجسد في دين صيغت حدوده بدقة متناهية الإحكام، وليس سلوكا إنسانيا يمكن أن يُقَوَم في ذاته.
قد يكون التمييز بين الدين ومعتنقيه أمرا ممكنا. بل الأمر كذلك، فكمال النماذج النظرية لا يُقاس من خلال نسخة من نسخها، بل مستمد من وجود كل هذه النسخ ومن أشكال تحققاتها في وضعيات سلوكية محددة. فالثابت في تاريخ البشرية ألا وجود لدين دعا في مبادئه الصريحة أو الضمنية إلى الشر أو نادى بازدراء الإنسان والحط من قيمته، دون أن يقود ذلك إلى الاعتقاد أن كل معتنقيه يجب أن يصنفوا ضمن دوائر الخير المطلق، كما هي مثبتة في تعاليمه وتوجيهاته الأخلاقية. فكل الديانات احتفت بمكارم الأخلاق، بما فيها الأقوال المأثورة عن الحكماء، أو تلك الممارسات الدينية التي تصرح أنها ليست معنية بعوالم الغيب، ولا تلقي بالا لفرضيات الحساب والعقاب، كما هو الحال مع البوذية التي أرست دعائم نظام أخلاقي دون الاستعانة بمشرع أعلى، وأسست دينا اعتنقه الملايين من الناس ومازالوا دون أن تكترث لوجود إله يدير شأن الكون فيما يُرى ولا يُرى.
ومع ذلك، لا يمكن ألا نعاين وجود خلل ما في النظام القيمي الذي يقدر السلوك ويحكم عليه استنادا إلى مردودية لا تتوقف عند دوائر الإيجاب بل تشمل، ضمن عملية حسابية قائمة على الطرح والإضافة، كل ما يصدر عن الفرد. إن الأمر يتعلق بتصور خاص للسلوك الإنساني. وهو تصور لا يتوقف عند السلوك الفردي، بل يشمل طريقة تصورنا للزمنية الإنسانية ذاتها. فنحن أصل الوجود ومنتهاه كما تشير إلى ذلك كل النصوص المؤسسة للثقافة التي نعيش ضمن محدداتها وبها نقوم بتصريف علاقتنا مع الآخر منذ عشرات القرون.
والمقصود بالمردودية في هذا المقام بالذات هو تحديد للقيمة استنادا إلى ” مكسب” ممكن أو ” ذعيرة ” محتملة”. فالخير ليس خيرا مطلقا، أي قيمة مستحبة في ذاتها، بل هو كذلك باعتباره ممرا ضروريا نحو خلاص أبدي. ولهذا السبب، فإن ميلنا إلى فعل الخير لا يُراد منه إرضاء الذات، بل طلب لمقابل قد نقايض به سيئات تَعِد بها الممارسة الإنسانية. وهو ما يعني، من زاوية أخرى، ربط الخير بنظام قيمي قد لا يجد له أي صدى في نظام آخر.
ويبدو لي أن المشهد البسيط المشار إليه أعلاه يلخص وحده، إلى حد كبير، بعض العوائق التي تحد من إمكانية إرساء قواعد صلبة للحوار مع الآخر خارج مركزية الذات في التاريخ، وخارج الرغبة في تنميط الكون وفق ما تتيحه القيمة الأخلاقية المحلية، وهو ما نرفضه في بعض الأوجه الخاصة بالعولمة الجديدة من حيث كونها تميل إلى تعميم نموذج ثقافي واحد يُعَلب الواقع والمخيال ويقدم نمطا واحدا في الوجود والسلوك والاستهلاك والتفكير. فالقيم الأخلاقية، في جميع الحالات، هي حصيلة ممارسة إنسانية مهدها الواقع المتغير باستمرار، وليست معطى عقديا صرفا، فالدين مضاف إيجابي بكل تأكيد، ولكنه لا يمكن أن يَستوعب بشكل كلي ما يمكن أن تحيل عليه القيمة الأخلاقية في ذاتها، فالحقيقة الدينية ثابتة، أما الواقع الإنساني فمتجدد. إن الجمل ليس وجها آخر للطائرة، وكتل الإسمنت ليست بديلا وظيفيا عن الخيمة. إن الأمر يتعلق في الحالتين معا برؤية جديدة للزمان وللفضاء.
لذلك وجب التمييز بين المظهر الوظيفي المباشر للأداة وبين آثارها الحضارية على مستعملها ( في الحالتين معا يتعلق الأمر بوسيلة للتنقل في الفضاء). المظهر الأول استعمالي نفعي وعابر، أما الثاني فهو أساسي من حيث قدرته على التأثير في هوية المستعمل والتغيير من جوهرها. وعلى هذا الأساس، فإن الأشياء ليست كيانات خرساء، بل هي ذاكرات ممتدة في الرؤية وفي استعمال الجسد.
ويشكل هذا الفصل معيقا أول من بين معيقات أخرى. فما هو أساس في الذاكرة الثقافية للذات المحلية، ووفق المحددات المبدئية السابقة، ليس السلوك في ذاته، بل ما يحيط به ويسنده ويمنحه شرعيته، رغم كل المظاهر الدالة على عكس ذلك (وليس من الضروري أن يكون الحكم دينيا بشكل صريح، فالتداخل بين الأحكام الاجتماعية والدينية كبير لدرجة يصعب في الكثير من الأحيان فصل هذا عن ذاك). فالانتماء لا يكون للقيمة، والمبدأ ليس أصلا في المعاملات ومحددا لها، إن السند العقدي هو ضمانة لكل ما هو باد ومستتر في السلوك الإنساني مبتدءا ونهاية.
استنادا إلى هذه المبادئ الأولية، سيكون هذا التباين بين الأصل العقدي وبين السلوك المخصوص، مدخلا رئيسا من أجل الإمساك بحالات الخلل الوجودي الذي يطال الهوية في سعيها الحثيث من أجل خلق حالات تطابق كلي بين ” وجودها الزمني” المحدد في التاريخ والجغرافيا، وبين تعاليم مجردة ترتكز على ثنائيات صارمة مدرجة ضمن استقطاب سلوكي محلي يفصل بين عوالم موزعة على مناطق المحظور والمباح والمستحب والمكروه استنادا إلى رمزية ملتبسة المضمون والمردودية، لا إلى مصلحة يمكن التعاطي معها استنادا إلى كونيات أخلاقية مرتبطة بالوجود الإنساني من حيث هو، لا من حيث انتماؤه إلى هذه الثقافة أو تلك.
إن تحديد المضامين الأخلاقية استنادا إلى مبدأ المردودية هذا يضع القيمة في موقع متخلف في علاقتها بمبدأ الانتماء، ويحدد الهوية باعتبارها عابرة للأزمنة من حيث كونها هي أصل الزمن ومنتهاه. فما يحدد دوائر ” التحريم والإباحة ” ومشتقاتهما، بالسلب والإيجاب، ليست دائما نصوصا صريحة مرتبطة بمصلحة فعلية يمكن تحديدها موضوعيا، بل ما تقتضيه حاجة المؤول في المقام الأول. فقد تتسع دائرة حدي هذه الثنائية لتستوعب أكبر قدر ممكن من الإباحة، وقد تضيق أيضا لتفرغ الوجود الإنساني من كل المتع الحياتية سوى ما له علاقة بالنفعي في وجود الناس. وفي الحالتين معا، فإن الأمر يتعلق بموقف المؤول، أي بثقافته وميوله وطبعه وأهوائه أيضا، لا بما يمكن أن تحيل عليه النصوص فعلا، أو بما يمكن أن تسمح به متطلبات الحقائق الاجتماعية الجديدة وتبيحه.
فإذا كان النسق القيمي مبنيا على ثنائيات من هذا النوع، بعيدا عن كل الأخلاق الوضعية الجديدة التي أفرزتها سيرورة التطور الحضاري المعاصر، فإنه سيقود إلى التقليص من دائرة ” الرؤية الإنسانية ” واختصار مداها الحضاري، ومعناه أيضا خروج تدريجي من زمنية إنسانية هي في الأصل واحدة، ووحدها الاختلافات الثقافية توهم بعكس ذلك، والبحث في ثنايا التاريخ عن زمنية أخرى تحفظ للذات نقاءها وطهارتها. وسيفتح هذا الموقف الباب واسعا أمام بروز كل الازدواجيات السلوكية الممكنة في المعاملات والوجدان واللباس وتدبير الشأن اليومي. ” فأخطر ما يمكن أن يصيب أمة ما هو شعورها بالوحدة” كما يقول كلود ليفي شتراوس.
وفي هذه الحالة، فإن ممكنات الحوار ستتقلص داخليا وخارجيا: فالداخل ” منسجم ” و”متوحد” وثوابته ليست موجودة في نظام قيمي يحمي الفرد ويقيه من شر تبعات العين الاجتماعية التي لا تنام، بل مصدرها أحكام صارمة توحد قسرا وتحرم الفرد من خصوصياته الأكثر حميمية. إن ” إنسانيتنا ” تبدأ وتنتهي فيما تجيزه ثقافةُ الأمة وعقيدتُها، وسوى ذلك ضلال وتيه خارج الصراط المستقيم. وهي حالة تبيح ” للمشرع” أن يبني حدود إنسانية ليست موجودة حتى في النصوص التي يدعي الارتكاز عليها.
فعندما يتقلص هامش الحرية أو ينتفي، يصبح غياب الحكم دليلا على التحريم لا الإباحة، على عكس ما هو شائع عند أصوليي الفقه أنفسهم . إن الأمر يتعلق بحالة شبيهة بحالة تلك الشعوب المسماة ” بدائية”، ففي تصورها لا وجود لإنسانية أخرى غير إنسانيتها هي، ” وهي إنسانية لا يتجاوز مداها حدود القبيلة أو المجموعة اللسانية، وأحيانا لا يتجاوز حدود القرية، لدرجة أن هناك من هذه الشعوب من يطلقون على أنفسهم ” الإنسان” أي ” الخيرون ” و” الطيبون”، وهو ما يعني أن الآخرين لا علاقة لهم بفضائل الخير ولا ينتسبون إلى الإنسانية” (2).
والحال أن الأمر على خلاف ذلك. ف” الأنا” ذاتها ليست منسجمة، ووحدتها لا تتجاوز حدود الانتماء إلى شكل عقدي أسمى، أما في سواه فهي موزعة بين طوائف وفرق وشيع من كل الأنواع. إنها موزعة على أنماط متباينة في ممارسة الشعائر واللباس وطريقة الأكل ودفن الموتى. إن وحدتنا وهمية، فهي ليست مستمدة من اختلافاتنا الفعلية، بل مستقاة من ” وعي جمعي” بالغ القوة والجبروت، فهو ممتد في تاريخ طويل، ولكنه مفصول في أغلب الحالات عن ” حقائق الوجود الفعلية “. لذلك، لا تٌقرأ نصوص الذاكرة، المكتوبة منها والشفهية في ذاتها، بل توظف خدمة لأهواء سياسية وإيديولوجية ليست بالضرورة تعبيرا عن مقاصد تشريعية محايدة.
إن الأمر لا يتعلق بالتشكيك في النصوص المؤسسة للصرح الثقافي الذي تستمد منه الهوية جزءا كبيرا من مكوناتها، بل له علاقة بإعادة النظر في طريقة تصورنا للتفريعات اللاحقة التي تعد تعبيرا عن اختيارات سياسية وإيديولوجية ومذهبية، ولم تكن، إلا في النادر، اختلافات حول حقيقة معاني النصوص ومراميها. وبعبارة أخرى، يجب التخلي عن الحكم الاجتماعي القسري، وتبني منطق المسؤولية الفردية.
إن الوحدة شيء آخر. إنها لا تقصي المختلف، باعتباره شاذا، بل تستوعبه ضمن ممكنات الوجود الاجتماعي. واستنادا إلى ذلك، فإن الوحدة هي القدرة على بلورة ثوابت مرتكزة على فكرة المواطنة لا الإيمان. حينها سيكون بإمكان الفرد، استنادا إلى هذه الثوابت، أن يمارس كل قناعاته – بما فيها القناعات الدينية – باعتبارها اختيارا فرديا لا إكراها اجتماعيا. إنها المدخل الرئيس نحو تخليص الفضاء العمومي من كل الأحكام المسبقة. وهو ما يعني بالضرورة أيضا التمييز بين مقولتي المواطن والمؤمن، فللمقولة الأولى حمولة وضعية لها ارتباط بشأن سياسي عام، أو بشأن اجتماعي ينظم العلاقة بين الأفراد. أما الثانية فهي قيمة دينية، ومن ثم لا يمكن الحكم عليها والتأكد منها، لأن درجة الإيمان لا يعرفها إلا الله. لذلك سنترك المؤمن يواجه ربه بما عمل ولم يعمل، ونحاكم المواطن على خرقه للقانون. إن الأمر يتعلق بتوحيد للمفاهيم التي تنظم الفضاء العمومي وتحديد واجبات الأفراد وحقوقهم. فالحرام والحلال للمؤمن، أما المصلحة فهي للمواطن.
وتلك هي المنطلقات الأساسية التي يمكن اعتمادها في الانفتاح على الثقافات المختلفة. فلا يمكن تصور حوار يتم استنادا إلى مقولات مستقاة من الثقافة المحلية بأبعادها العقدية ( ومنها مقولات الحلال والحرام). فتلك مقولات لا يكترث لها غيرنا، ولا تخص سوى الفرد المؤمن في علاقته بربه. إن الحوار ينطلق من المفاهيم المستندة إلى مبدأ المصلحة، أي ما له علاقة بما يضمن كرامته وحقه في الاستمتاع بوجوده ضمن ثوابت الإنسانية. وهذا يعني، من ضمن ما يعنيه، الاحتكام إلى حقائق التاريخ، لا إلى موجهات العقيدة.
إن العقيدة شأن خاص، أما التاريخ فشأن إنساني. ويكفي أن نستحضر أننا مختلفون جدا عن أخوتنا في العقيدة في الهند وإندونيسيا أكثر من اختلافنا عن إخواننا المسيحيين في مصر أو لبنان. وعلى سبيل المثال، فإن حوار الأديان، على عكس ما يتصور الكثيرون، ليس بحثا عما يجمع الأديان ويوحدها في العقيدة أو الطقوس، بل هو محاولة للتعرف على جوهر الاختلاف، أي تحديد ما يفصل ويعزل، وهو م يقود إلى فهم سلوك الآخر واستيعاب ردود أفعاله. فالمشترك بين وجلي، أما دوائر المختلف فهي أصل التعصب والاعتقاد في الحقيقة الواحدة.
وعند هذه النقطة بالذات يمكن تصور السبل السليمة في التعاطي مع الآخر باعتبار انتمائه إلى الزمنية الإنسانية، لا باعتبار انتمائه إلى هذا المعتقد أو ذاك، أو إلى هذه الثقافة أو تلك. وهو ما يعني، بعبارة أخرى، إعادة النظر في مفهوم الحوار ذاته. فالحوار ليس إقناعا وليس محاولة للبرهنة على صحة هذه الثقافة وتفوقها وتمييزها عما سواها: هناك فارق دقيق وصارم بين التبشير والدعوة وبين الحوار. والحاصل أن العلاقة مع الآخر لا تمر عبر فتح حوار حول مسلمات عقدية أو ثقافية، بل يمر عبر محاولة فهم الأبعاد الثقافية التي تؤطر السلوك وتفسر ردود أفعاله. وهو ما يعني التخلي عن فكرة التفوق عندنا وعند غيرنا، فلسنا أقل من غيرنا، ولكننا لسنا أرقى من غيرنا. إن الانتساب للإنسانية حق لكل للشعوب، ولذلك ليس عيبا أن تنتفض مناطق في الكوكب الأرضي مطالبة بالحق في الإنسانية.
بالتأكيد يحق لكل ثقافة أن تعتقد في إمكاناتها وتعمل على التعريف بها والكشف عن مزاياها، ومن حقها أن تعتقد في صحة ما تقوم به، ولكنها يجب أن تتأكد أيضا أن المشاعر ذاتها موجودة عند غيرها من الشعوب ” ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة”، فلنترك لله وحده يختار من أحقنا برحمته، ومن سيكون أشقانا في ملكوته الأعلى. وهذا هو المفصل الحقيقي للحوار : التعرف على الآخر في اختلافه وتميزه في اللغة والعادات والمعتقدات : يكفي أن نتكلم لغات مختلفة لكي يكون بيننا تباين في الإمساك بالمدرك الخارجي وتحديد التمايزات داخله، إن أسئلة الناس واحدة، أما الأجوبة فتتكفل بها الثقافات واللغات المختلفة. إن فهم الآخر مشروط بمعرفة ثقافته، وهو ما يمكن أن يتجسد من ” خلال تعميم فكرة الإنسانية” وهو الرأي الذي يتبناه كل المدافعين عن حق الاستثناء الثقافي كما نادى به الفرنسيون في البدايات الأولى لانبثاق العولمة.