بغير حماس وحرارة الزمن الجميل، خرجت فئات قليلة من الطبقة العاملة المنكسرة بفعل ما لحقها من ظلم وتهميش، تجوب الشوارع بربوع البلاد، لإحياء عيدها الأممي السنوي في فاتح ماي 2017، مطالبة بالكرامة والعدالة الاجتماعية وتحصين المكتسبات، ورافضة استمرار مسلسل خنق الحريات النقابية وهضم الحقوق وضرب القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة…
وفي إطار ما بات يطبع المشهد النقابي من بؤس وتشرذم، وعدم التنسيق بين المركزيات النقابية، لوحظ تخلف إحداها عن المشاركة في هذه الاحتفالات، بدعوى الاحتجاج على التنصل الحكومي من تنفيذ اتفاق 26 أبريل 2011، وخاصة في الشق المتعلق بالحوار الاجتماعي.
وسواء كان الداعي إلى مقاطعة “الاتحاد العام للشغالين بالمغرب”، النقابة التابعة لحزب الاستقلال، حقيقيا أم مجرد ذريعة للتستر عن أشياء أخرى. فإن الحوار يعني الحديث بين شخصين أو فريقين، يتداول فيه الكلام بطريقة ديمقراطية دون أن يستحوذ به أحدهما، وأن تتسع له الصدور وتحترم فيه قواعد تبادل الرأي، بما يلزم من حكمة وتبصر بعيدا عن أي تشنج أو تعصب، لبلوغ الأهداف المرجوة بنوع من التوافق.
وجدير بالذكر أن عضو الأمانة العامة بالحزب الحاكم “العدالة والتنمية” ووزير التشغيل والإدماج المهني محمد يتيم، أكد بمعية رئيس الحكومة سعد الدين العثماني عزمهما على إحياء الحوار الاجتماعي، والعمل على مأسسته بعد استقبالهما للمركزيات النقابية. وهو بالمناسبة كاتب عام سابق للاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، الذراع النقابية لحزبه “الإسلامي”، وجد نفسه غداة عيد الشغيلة محاصرا باستفسارات النواب البرلمانيين من المعارضة والأغلبية حول ما يرتبط بالحوار الاجتماعي، في أول جلسة عمومية خصصت للأسئلة الشفهية الأسبوعية المنعقدة يوم: 2 ماي 2017، طبقا لأحكام الفصل 100 من الدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب، خاصة المواد من 184 إلى 197. حيث وجهت انتقادات لاذعة للحكومة السابقة عن سوء تدبيرها للملف، الذي لعب فيه رئيسها عبد الإله بنكيران دورا مركزيا في إقباره، مما أدى إلى تفاقم الاحتقان الاجتماعي وتنامي الاحتجاجات والمسيرات والاعتصامات والإضرابات…
فقد كان من المفروض أن تكون الولاية التشريعية الأولى بعد إقرار دستور 2011 ولاية تأسيسية، من خلال المصادقة على كافة القوانين المتعلقة بإقامة المؤسسات، حتى يمكن للولاية التشريعية الحالية أن تتفرغ لمعالجة أهم القضايا والانشغالات الحقيقية للمواطنين. لكن بنكيران سامحه الله كان له رأي آخر، وهو تصفية حساباته الضيقة مع خصومه النقابيين والسياسيين، ولم يكن البتة مؤهلا للمسك بخيوط الحوار الجاد، جراء افتقاره وحزبه إلى ثقافة فكرية وسياسية، ما جعل من جلسات “الحوار الاجتماعي” على قلتها مجرد مضيعة للوقت، إذ أفرغه كليا من شروطه الموضوعية، التي من شأنها تحويله إلى إطار تشريعي ومؤسساتي، للمساهمة الفعالة في احتواء مشاكل المجتمع وإيجاد حلول مناسبة لها بهدوء ودونما مزايدات أو صراعات خاوية.
ذلك أنه تحت غطاء نظرية المؤامرة، ضرب عرض الحائط بالمقاربة التشاركية، وفضل الانفراد بقراراته المجحفة. جاعلا المغاربة في عهده البائد، يعيشون خمس سنوات عجافا، إلا من الظلم والقهر والعنف والإجهاز على المكتسبات، وإثقال كاهل الشغيلة المغربية بإصلاحات مقياسية: التقاعد المقاصة، ارتفاع أعداد العاطلين خاصة ذوي الشهادات العليا، الاقتطاع من أجور المضربين، ارتفاع معدل المديونية وانخفاض نسبة النمو، نسف المدرسة والوظيفة العموميين… وماذا عسى المواطن أن ينتظر ممن شب في بيئة لا تؤمن بالديمقراطية والحوار؟ ألم يكن يجبر أطر حزبه وقيادييه في مناسبات عدة على التزام الصمت وعدم الإدلاء بأي تصريح دون إذنه ؟
ولأشد ما يتخوف منه الكثيرون، هو أن تكون الحكومة الحالية امتدادا فعليا لسابقتها، التي همشت الحركة النقابية، أطمرت الحوار الاجتماعي وعطلت الدستور، لأن العثماني لن يكون أحسن حالا من سلفه بنكيران، لاسيما أنهما نهلا من نفس المورد الإخواني، وأن ما ورد على لسانه ووزير التشغيل يتيم حول إعطاء الحوار الاجتماعي بعدا إيجابيا، لن يعدو أن يكون محاولة تضليلية لطمأنة النقابات، وإبداء مرونة مغشوشة في التفاوض، لن تصمد طويلا أمام حجم الملفات وضعف البرنامج الحكومي، الذي لا يعكس انتظارات المواطنين.
فالحوار الاجتماعي الهادف، ثقافة جديدة تعتمدها المؤسسات الحديثة في فض النزاعات وضمان التوازن بين الحقوق والواجبات وإقرار السلم الاجتماعي، يساهم في تطوير العلاقات المهنية وتنشيط الحياة الاقتصادية، وتوفير المناخ الأنسب للاستثمار الجيد، وتمكين المقاولات من التنافس الحر ورفع التحديات. ويجد بعض مرجعياته الأساسية في الفصل الثامن من الدستور، ومدونة الشغل… وبالنظر إلى ما له من قيمة مجتمعية في منظومة العدالة الاجتماعية وتخليدا ليومها العالمي، الذي تم إقراره بمقتضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 62/10 بتاريخ 26 نونبر 2007، فإن مجلس المستشارين نظم يوم 20 فبراير 2017 فعاليات المنتدى البرلماني الثاني تحت شعار: “مأسسة الحوار الاجتماعي: مدخل أساسي للتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية”، لإيمانه الشديد بضرورة إرساء دعائمه. فضلا عن أن المنتدى حظي بالتفاتة ملكية، تجلت في الرسالة السامية الموجهة للمشاركين، تثمن اختيار موضوع مأسسة الحوار الاجتماعي بوصفه مدخلا أساسيا للتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. إذ يشكل اختيارا استراتيجيا وفلسفة للتشاور بين الحكومة والفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين…
من هنا يتعين على رئيس الحكومة العثماني إثبات حسن نيته وتبديد قلق المواطنين، بدءا بمراجعة القوانين الجائرة وفي مقدمتها قانون التقاعد، توطيد الحوار الاجتماعي ومأسسته وفق جدولة زمنية مضبوطة ومتوافق حولها، في اتجاه تحقيق العدالة الاجتماعية والعيش الكريم، عبر المساواة بين الجنسين، الحد من الأمية والفقر والبطالة، تجويد الخدمات في الصحة والتعليم، توفير السكن اللائق وتعزيز النمو الاقتصادي… وأن تبادر الحركة النقابية إلى التحرر من حالة الوهن والترهل، واسترجاع قوتها ووهجها بتجديد النخب والقطع مع التدابير البيروقراطية الرديئة، التي أفقدت الشغيلة الثقة في العمل النقابي، وفسحت المجال لظهور عديد التنسيقيات الوطنية…