قد لا يكون تأثير العامل الديني في السياسة والحياة السياسية العربية جديدًا؛ فلقد شهدنا على فصول منه متعدّدة ومتفاوتة الآثار منذ قيام الدولة «الحديثة» في البلاد العربية، تعاقبت فيه السلطةُ السياسية و«الحركات الدينية» على القيام بأدوار مختلفة في إدخال الدين في لعبة تكوين الدولة، أو في تثبيت أركان السلطة وتوطيدها، أو في زعزعة استقرارها ومحاولة تغييرها. والمبدأ الذي استندت إليه كلُّ سياسة رامت استغلال الدين في المجال السياسي إنما هو المبدأ المزعوم بتماهي الدين والسياسة، الذي تلخّصه عبارة «الإسلام دين ودولة» العزيزة على قلوب المستشرقين والأصوليين، والتي عليها مبنى فكرةِ «جماعة الإخوان المسلمين» عند مؤسّسها (حسن البنا) ومنظِّر المقولةِ التي تنسُج خيوط ذلك التماهي.
ومثلما حاولت النخب الحاكمة تملُّق مشاعر المؤمنين من طريق الادّعاء أن سياساتها تشتقّ شرعيتَها من الدين، كذلك فعلت الجماعات الإسلامية لخلع الشرعية عن النخب ومحاربتها بنفس أسلحتها، من طريق بيانها أنّ سياسات النخب تلك عارية من أي شرعية دينية، بل الزعم أنها سياسات مجافية لأحكام الشريعة.
كنّا لعقودٍ طويلة ممتدّة، من عشرينات القرن العشرين حتى اليوم، في قلب المنازعة المحتدمة على الشرعية السياسية باسم الإسلام؛ تُدثِّر النخبُ العَلمانية والليبرالية مدنيةَ سلطتها بالنصّ الدستوري على أنّ الإسلام دين الدولة، أو أنّ الشريعة الإسلامية مصدرٌ رئيس (أو: المصدر الرئيس) للتشريع. في المقابل تتوسّل الجماعات الإسلامية المعارضة الدينَ للتعبير من خلال مفرداته عن مواقفها السياسية ومشروعها لبناء سلطةٍ بديلة.
الإسلام عند الأوَّلين، كما عند الأخيرين، رأسمالٌ، مجرّدُ رأسمالٍ قابلٍ للاستثمار السياسي في لعبة السلطة والثروة! وليس مهمًّا عند هؤلاء، كما عند أولئك، إن كان لاستثمار ذلك الرأسمال من تبعاتٍ على وحدة الشعب والوطن والدولة، على الاستقرار السياسي والسلم المدنية، فكلُّ شيء مباحٌ من أجل الظفر بالسلطة، والأسلحةُ جميعُها مشروعة: أنظفُها والأوسخ، إنْ كان لها التيسير على طلاّب السلطة، أليستِ السلطةُ – كالنّفس – أمّارةٌ بالسوء؟! وهل هناك من سوءٍ أكثر من أن تتمزق مجتمعاتٌ عربيةٌ في الماضي القريب-آخرُها الجزائر-من وراء الاستخدام السياسي للدين؟ وعلى مذْبَح سلطةٍ يُسْعَى إليها باسم الإسلام؟! غير أنّ استثمار الرأسمال الديني في الصراع على السلطة بلغ ذراه في أحداث ما يسمى «الربيع العربي» وقارب حدودًا من الشطط وسوءِ الاستخدام غيرِ مسبوقة.
كان الإسلاميون الحزبيون أبطال ذلك الاستثمار في الأحداث تلك مستفيدين، في ذلك، من ضَعف خصومهم الحزبيين من جهة، ومن حال الفراغ التي تولَّدت إمّا من سقوط سلطة- كما في تونس ومصر وليبيا- أو من فقدانها السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد من جهة أخرى. وما لبث الاستثمار المذكور أن رَكَّبَ الإسلام على فوّهات البنادق والمَدَافع معلنًا «الجهاد» على السلطة «الكافرة»، ذاهبًا بالنزاع إلى الاقتتال، غيرَ عابئٍ بالثمن الاجتماعي والإنساني الذي يدفعه المجتمع من ركوب مشروعٍ سياسيّ مستحيل. ولم يكن الحزبيون و«الجهاديون» الإسلاميون وحدهم مسؤولين عن إدخال السياسة، ومعها المجتمع برمّته، في نفق الموت الجماعي باسم الدين، وإنما شاركهم في المسؤولية «علمانيون» ليبراليون وقوميون ويساريون هوَّن عليهم الانتهازُ ركوبَ مرْكَبِ محالفةِ الإسلاميين أولاء، وتوسُّلِ سلاحهم، قصد هدف تغيير النظام القائم بالقوة، حتى من دون أن يَحْفِلوا بما إذا كان حلفاؤهم «الجهاديون» سيحفظون لهم مكانًا في دولتهم «الإسلامية»!
لم تكن حالُ السياسة والصراع السياسي، في بلادنا العربية، طيّبة قبل اندلاع «الربيع العربي»؛ كانت سيئةً في غاية السوء، بل منحطَّة، ولكنها -قطعا- أصبحت أكثر انحطاطًا منذ سنواتٍ ست؛ منذ بات المُتَّاجرون بالعقيدة يستسهلون إنزالها من علياء الدين إلى زواريب الحارات والنزاع على أمتار هنا وهناك لتوسيع رقعة سيطرة إماراتهم، وموارد مسروقات البلاد والعباد المنهوبة بحدّ السيف أو بالخُوّات! بات التمثيل النيابي، والدستور، واستقلالية القضاء، والحريات الفردية والعامة، وحرية الرأي والصحافة، وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، والمساواة القانونية، والمشاركة السياسية…، مفردات كُفْر ولم تعد مفردات السياسة، أما هذه فأصبحت مفرداتُها الإمارة، والولاء والبراء، والطاعة، والبيعة، والحدود، والردّة، والفتوى، والفسق، والكفر، والتوبة…الخ!
معارضة الأمس كانت تؤخذ إلى السجون، وإن أفلت مَن أفلت فسبيله إلى المنفى، أمّا معارضة اليوم فمآلُها إلى الشنق والسَّحل، لأن معارضةَ وليّ الأمر كُفْر، وخروجٌ عن الجماعة والمِلّة! هل كنّا قد بلغْنا هذا المَبْلغ من ذبْح السياسة حتى في عهود أعتى الديكتاتوريات العربية الحديثة؟ درسٌ جديد من دروس «الربيع» ذاك يدعونا إلى أن نستوعبه ونتَّعِظ به:
إنّ إقحام الدين في السياسة يُسيء إلى الدين والى السياسة معًا، يحوّل الدين من عاملِ توحيدٍ ولُحْمَةٍ وتضامُن إلى عاملِ تنازُع وفُرقةٍ وفتنة، وفي ذلك تزويرٌ صارخ لمعنى الإسلام ورسالته. إذا كان لذلك «الربيع العربي» وأهواله ومَقَاتِلِه من فائدة، ففي أنه يعلّمنا أنّ الطريق إلى بناء أوطانٍ جامعة، يعيش فيها الناس آمنين على أرواحهم وممتلكاتهم، وإلى بناء دولٍ وطنية حديثة، يتمتعون فيها بالحقوق المدنية والسياسية والمواطنية الكاملة، ويشاركون في إقامة عمرانها الديمقراطي والعدالي بإرادتهم الحرّة، إنما تمرّ من طريق فكّ الاشتباك بين الدينيّ والسياسيّ، وتحييد الدين في المنازعات الاجتماعية والسياسية على السلطة والثروة، والاجتهاد في العثور على المعادلة الصحيحة والصحية بين السياسة والدين.
في تجاربنا التاريخية سوابقُ وعِبَر يُبنى عليها، كما في تجارب غيرنا من الشعوب والأمم. وفي هذا الاجتهاد فليتنافسِ المتنافسون.
عن اكسير