مغاربة كثر ما انفكوا يتلذذون في عدة مناسبات بترديد مقولة: “مكاينش معامن”، بغير قليل من الانتباه إلى دلالتها والغوص في أعماقها، منذ ان أطلقها الفنان الرائع والمقتدر حسن الفذ في أحد أعماله الساخرة، حول ما بات يطبع سلوك البعض من تراخ وتهاون في أداء الواجب واستخفاف بالمسؤولية، وما يكشف عنه الواقع من نقائص على جميع المستويات. إذ لاقت تجاوبا وتفاعلا لافتين لدى الصغار والكبار من الجنسين. ترى أين تكمن قوة هذه العبارة؟

     وسواء شئنا أم أبينا، فإن لازمة “مكاينش معامن” عزفت على أوتار الناس واستحوذت على لقاءاتهم،  لدرجة أضحت الألسن تلوكها بسبب أو من دونه، لكنها تكون أكثر وقعا وصدقا عندما تنبعث من داخل من يصاب برجة نفسية عنيفة، أو انتكاسة فجائية أو خيبة أمل كبيرة… أمام حدث غير طبيعي وقد تكون له آثار سلبية. ذلك أن الإنسان في هذا الزمن الصعب، غالبا ما يتعرض لمواقف سيئة ومستفزة، تكدر صفو حياته وتولد لديه شعور بالانكسار والإحباط، فيضطر أحيانا إلى الانطواء بعد أن تتأثر نفسيته، ويصبح فاقدا للثقة في محيطه، رافضا الإقبال على الحياة وأداء واجباته في البيت والعمل معا. والمجتمع المغربي يعج بكثير من الصور في هذا المضمار…

     ففي الأسرة مثلا، التي تعد بحق مؤسسة اجتماعية، يشكل فيها الزوجان والأبناء أهم الأركان، وتعتبر أول مدرسة للتنشئة الاجتماعية والتربية على قيم المواطنة واحترام حقوق الغير، ومقرا دافئا للحب والتفاهم والسكينة وملاذا آمنا للسلامة والطمأنينة. إذا ما حدث أن ساءت العلاقة بين طرفيها الأساسيين واختلت عملية التواصل، ووجد أحدهما نفسه مغلوبا وأن ما يبذله من جهود للنهوض بشؤون البيت ورعاية الأبناء، لا يقابل بما يلزم من جدية وحزم  أو يصطدم باستخفاف ولامبالاة أو معارضة قوية، لاسيما عندما يهمل الأبناء واجباتهم الدراسية، وينصرفون عنها إلى الألعاب الإلكترونية والإبحار في الشبكة العنكبوتية… فمن المؤكد أن يلجأ إلى العبارة إياها “مكاينش معامن”.

     وكيف لا يحتمي بها من ظل يؤمن بأن “الصداقة كنز لا يفنى”، ووضع ثقته في أشخاص لم يفتأ يقاسمهم الحلو والمر، الأفراح والأتراح، ويأتمنهم على أمواله وأهله وأسراره، فإذا به يباغت يوما بالغدر والخيانة والخذلان، وتنكشف له حقيقة المحيطين به “أصدقاء” أو “زملاء” في العمل، من أنانيين لا يحبون عدا ذواتهم وانتهازيين لا يهمهم سوى قضاء مصالحهم وبلوغ أهدافهم على حسابه…

      بالله عليكم، أليس من حق المواطن الغيور، المفتخر بانتمائه إلى وطنه والمستعد للتضحية من أجله، الحالم بالتغيير والإصلاح، وبمغرب ديمقراطي حداثي يتسع حضنه للجميع، تسود فيه مكارم الأخلاق وقيم التسامح والعدل والاحترام، أن يقول “مكاينش معامن” عندما لا يرى حوله إلا ما يحبطه ويثبط عزيمته وهمته؟

     ومن الطبيعي أن يرددها أيضا من بحت حناجرهم وجفت أقلامهم من فرط المطالبة بإيقاف ما بات يطبع المشهد السياسي من عبث ومهازل، أمام إفلاس الأحزاب السياسية، في وقت يفترض فيه أن تقوم بدورها في استقطاب وتأطير المواطنين والمساهمة في تخليق الحياة العامة. ألم يكن النضال الحزبي شرفا وتضحية وإيمانا راسخا بالمبادئ؟ فما الذي حولها إلى مجرد دكاكين انتخابوية مفتوحة على مصراعيها، حتى لم يعد هناك من فرق بين المناضل والانتهازي ولا “التقدمي” و”الرجعي”… وصار هاجس الظفر بحصة الأسد من “الكراسي”، أكبر بكثير من الصراع على البرامج والأفكار. وأمست التزكيات تمنح للمقربين ومن يحسنون دغدغة المشاعر والتلاعب بالعقول، من خلال استغلال الخطاب الديني أو استعمال المال الحرام في شراء الذمم والضمائر وبيع الأوهام، والمتاجرة بأصوات الناخبين عند تشكيل مكاتب مجالس الجماعات والجهات. ناهيكم عن تدني مستوى الخطاب السياسي، جراء التمادي في المناكفات والمعارك الوهمية، عوض الانكباب على معالجة الملفات ذات الارتباط الوثيق بانشغالات المواطنين: التعليم والصحة والشغل والإدارة… مما أساء إلى صورة البرلمان وأفقد المواطنين الثقة في العمل السياسي والمشاركة في العمليات الانتخابية…

     ثم ما معنى أن يقضي رئيس حكومة معين حوالي نصف سنة من شد الحبل مع رئيس حزب آخر، دون أن يستطيع تكوين أغلبيته الحكومية، وأن يضطر الملك إلى إعفائه وتعيين خلف له، لإنقاذ البلاد من حالة الجمود، وما نجم عنها من هدر الزمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتعطيل المؤسسات الدستورية والوطنية… لتظهر فيما بعد حكومة غريبة ومتنافرة، رافقها لغط كبير وانتقادات لاذعة؟

     فليردد المواطن: “مكاينش معامن” مادامت الحملات التحسيسية والتوعوية، الإعلامية والميدانية، التي استنزفت جهودا جبارة وميزانيات ضخمة، لم تؤت أكلها في الحد من مظاهر الانحراف والاستهتار. إذ مازال الإدمان على التدخين والمخدرات وتعاطي المشروبات الكحولية وحوادث السير متفاقمة بشكل رهيب، رغم ما تخلفه من مآس اجتماعية كارثية، وأضرار صحية ونفسية بليغة. تفاحش الفساد واستشراء الرشوة في سائر القطاعات العامة والخاصة، فضلا عن استمرار تلويث البيئة، برمي النفايات في غير أماكنها وعدم الالتزام بالنظافة وترشيد استهلاك الماء والكهرباء… علما ألا أحد يجهل ما لذلك من عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع والدولة.   

     إن المسؤولية الكبرى تتقاسمها الأسرة والمدرسة وجميع فعاليات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، في تنمية الشعور بالانتماء للوطن لدى المواطنين خاصة الأطفال، وأن تبادر الحكومة إلى وضع سياسات عمومية تساهم في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ونشر ثقافة الأمل للخروج من دائرة اليأس والإحباط، فالمواطنة ليست مجرد شعارات ترفع في المناسبات، بل هي جعل المواطن يدرك ما له من حقوق إنسانية، وما عليه من واجبات…

 

 الخميس 27 ابريل 2017.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…