أصولية الدولة
الجمعة 14 يونيو 2013م
الخطاب الرسمي يحاول أن يُظْهِرَ المضمون الأصولي المتشدد لبعض الفتاوى التي تُذاع هنا وهناك، على أنه أمر خارج عن إرادة الدولة، ولا مسؤولية لها في إنتاجه، ولا علاقة لها بظهوره وانتشاره وتكريسه. يحاول الخطاب المذكور أن يوحي إلينا بأن الدولة حسمت تبنيها للحداثة، وأنها هيأت ترسانة من الحلول والأدوات لمحاصرة الأصولية التي يشخصها عدد من الفتاوى، بالاستناد إلى منطلقات المشروع “الديمقراطي الحداثي”، وأن الدولة، بلجوئها إلى تأميم ومغربة وتنظيم الإفتاء ووضعه تحت رئاسة أمير المؤمنين، تكون قد قامت بواجبها على الوجه المأمول وأكدت انتماءها إلى صف الحداثة والانفتاح والاعتدال والتقدم، وأنها، هي نفسها، ضحية لمصدري الفتاوى الأصولية. لكن حالة الفتوى، التي تم نشرها مؤخراً، والصادرة عن الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء (التابعة للمجلس العلمي الأعلى)، تضعنا مباشرة أمام انحياز رسمي سافر إلى الفكر الأصولي. هناك مقاربتان معروفتان، منذ زمن بعيد، لاستنباط حكم المرتد، وقد اختارت الهيأة المقاربة الأصولية المتشددة.
في الكثير من الحالات، نكون أمام أكثر من اجتهاد وأمام أكثر من تأويل لنفس النص الديني، ولكن العقل الأصولي يختار التأويل الذي يخدم مصلحته ويطابق رغبته وتحجره الفكري وكسله وتخلفه، فالمشكلة فيه وليست في الإسلام. إن الأصوليين يتجاهلون اجتهادات موجودة أو ممكنة، لها سندها المنطقي وليس فيها تَقَوَُلٌ على الشريعة أو تحميل إياها لأكثر مما تحتمل، ويفضلون الارتماء في أحضان التفسيرات التي تتجاوب مع استعداد نفسي مسبق لديهم.
ففي قضية الردة، اعتمد البعض على الحديث الشريف الذي ورد فيه “من بدَّلَ دينه فاقتلوه”. لكن، هناك موقف آخر لاحظ أن هناك شكوكاً تحوم حول مصداقية هذا الحديث وأن القرآن الكريم لا يزكيه، ولهذا اعتبر أن القاعدة العامة هي المقررة في سورة البقرة “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”.
وفي قضية ضرب المرأة، هناك موقف استند إلى قوله تعالى في سورة النساء : “واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن” وذلك لتقرير جواز ضرب الزوجة ضرباً غير مبرح؛ بينما استند موقف آخر إلى استهجان النبي، صلى الله عليه وسلم، ضرب المرأة وامتناعه، طوال حياته، عن ضرب أي من الناس – خارج مشاركته في المعارك – وإلى تعدد ورود لفظ الضرب في القرآن الكريم بمعنى المفارقة والسفر والترك، ليقرر – أي هذا الموقف – عدم جواز ضرب المرأة، والسماح للزوج، فقط، بمغادرة بيت الزوجية إذا ما ناله منها ضرر أو سوء.
وفي قضية الولي، هناك موقف استند إلى الحديث الشريف الذي ورد فيه “لا نكاح إلا بولي” لتقرير إجبارية الولاية في عقد الزواج، لكن موقفا آخر (الحنفية) لم يقرر هذه الإجبارية، استنادا إلى ما جاء في سورة البقرة “وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف”، وقائمة الأمثلة طويلة…
إذا كانت الدولة – عبر إحدى مؤسساتها الحساسة – قد اختارت، هنا في قضية الردة، أن تركب سبيل المنهج الديني الأصولي – الذي يعتمده الإسلاميون المتشددون لتقرير حق الزوج في ضرب زوجته واشتراط الولي في الزواج، مثلاً – فلأنها تقدر الحاجة إلى استخدام هذا المنهج خدمة لمصلحتها في حالتين اثنتين على الأقل : الأولى هي استخدام المنهج في الدفاع عن الماضي والاستمرارية ولتسويغ نمط السلطة القائم والامتيازات التي يحظى بها مركز القرار؛ والثانية هي استخدام ذات المنهج في إطار المزايدة على الحركات الإسلامية.
بالنسبة إلى الحالة الأولى، يمكن الإشارة هنا إلى “فتوى” وزير الأوقاف، القاضية بأن عقد البيعة عقد روحي وسياسي، بين الشعب والملك، بينما المعروف أن العقد السياسي الوحيد الذي يربط الحاكم بالمحكومين في دولة حديثة هو الدستور، والمفروض أنه أصبح يقوم مقام البيعة، وأن السلطة التأسيسية هي أصل السلطات الأخرى ويعبر عنها بواسطة الاستفتاء؛ و”الفتوى” القاضية بأن المظلة التي تُوضع فوق رأس الملك، خلال حفل الولاء، تشبه الشجرة التي وقعت تحتها المبايعة للرسول الكريم؛ و”الفتوى” التي بمقتضاها قررت خطبة الجمعة الشهيرة، خلال مرحلة الحملة الاستفتائية، أن واجب طاعة ولي الأمر، المُلقى على عاتق كل مسلم، يقتضي التصويت بنعم، بينما الاستفتاء والطاعة لا ينسجمان عقلاً، والتصويت يُبنى، نظرياً، على تأمل محتوى الدستور والحكم عليه بميزان العقل، وأي التزام مسبق بالمباركة يُفْقِدُ الاستفتاء كل معنى؛ و”الفتوى” التي بمقتضاها تَمَّ حذف حرية المعتقد من نص الدستور، بعد إيرادها في المسودة التي تقدمت بها اللجنة المعينة بكاملها من طرف الملك؛ و”الفتوى” التي بمقتضاها يقع اضطهاد المواطنين المغاربة المسلمين الذين يُعْتَقَدُ أنهم ارتضوا تبني المذهب الشيعي بدون أي ذنب ارتكبوه؛ و”الفتوى” التي بمقتضاها جرى منع تدريس الفارسية في إطار محاربة التشيع؛ و”الفتوى” التي بمقتضاها ساق رجال الدرك مدرساً إلى المخفر بناء على شكاية تتهمه بالإلحاد…الخ.
أما المقصود بحالة المزايدة على الحركات الإسلامية فهو الفرضية التي تندفع فيها الدولة، كلما لاحظت أن تلك الحركات تحقق تقدما باسم الدفاع عن الإسلام و”ترفع السقف”، إلى محاربة خصومها بالسلاح ذاته وتعمد، هي الأخرى أيضاً، إلى “رفع السقف”. هناك سباق محموم تخوضه الدولة مع الحركات الإسلامية لكي يثبت كل منهما أنه أشد إسلاماً من الآخر. إن الدولة تشعر بأنها مطالبة يومياً بتقديم الدليل على إسلاميتها من خلال شن الكثير من المعارك باسم حماية الأمن الروحي للمغاربة (تصعيد اللهجة ضد جزء كبير من دعاة الحريات الفردية – إنشاء المزيد من المؤسسات والآليات والمناشط الدينية – طرد أجانب بدعوى التبشير – تعميق التوجه الديني التقليدي في التعليم والإعلام..)، ولكن دون التفريط في الأنشطة والفعاليات التي تعتبر أنها تخدم الانفتاح (دعم بعض أنواع السينما والمهرجانات والسياحة والمبادلات والمؤتمرات الدولية..).
إن للدولة المغربية وجهان : أحدهما “أصولي” والآخر “حداثي”. يبدو الأمر، من خلال المنطق المجرد، متناقضا، ولكن الدولة تعتبره متكاملاً.
ولهذا، فهي تنطلق من رهان استراتيجي يملي عليها السعي من أجل تحقيق تحالف مع الحداثيين – أو الجزء الأكبر منهم – ضد الإسلاميين وضد نوع خاص من التطرف ودفاعاً عن بعض أوجه الحداثة الاقتصادية والاجتماعية؛ والسعي، في ذات الوقت، إلى تحقيق تحالف مع الإسلاميين – أو جزء منهم – لدعم بنائها الأصولي الداخلي ولاستخلاص نفع سياسي من الأصولية وصد أفكار التقدم والطابع المدني للدولة.
تقترح الدولة، إذن، تحالفاً مع طرف، دفاعاً عن جزء من الحداثة، وتحالفاً مع طرف ثان، ضد الجزء الآخر من الحداثة. ولقد عكس دستور 2011 بعضاً من مشروع هذا التحالف المزدوج الذي تخرج منه الدولة، دائماً، رابحة.
عن موقع جريدة وجهة نظر …