المفترض في أي مجتمع سياسي، بل هذا هو الأبده، أن تكون المعارضة السياسية فيه قوةً بديلاً من النظام الحاكم، أملك للخيارات والإمكانيات: لوجودها خارج السلطة، بعيداً من أخطاء ممارستها وعثراتها، ولأنها أولى بالاستفادة من أخطاء النخبة الحاكمة،

وأقدر، بالتالي، على مخاطبة مصالح اجتماعية لم تجب عنها سياسات النخبة الحاكمة تلك. في أسوأ أحوال المعارضة تلك، حيث لا تكون قادرة ذاتياً على أن تكون بديلاً، في وسعها أن تمتلك قدراً من الخيارات، يرضي قطاعات من المجتمع تمحضها التأييد، ومعه قدر من التمثيل يهيئها لممارسة ما يكفي من الضغوط الاجتماعية والسياسية على النظام، على نحو يحمله على التراجع هنا أو هناك، أو على أخذ مصالح اجتماعية مقصية في الحسبان. في الحالين، يفترض في سلوك المعارضة أن يكون أكثر رصانة وعقلانية وحرصاً على الشعب والوطن والاستقرار، لأن ذلك رأسمالها الوحيد في المجتمع كمعارضة. وعلى ذلك، لا يقتضيها الموقع هذا أن تفرط في ثوابت اجتماعية ووطنية عدة: الخيار الديمقراطي السلمي، الحقوق الاجتماعية للفئات المعدمة والتوزيع العادل للثروة، التمسك بالاستقلال الوطني والسيادة، التمسك بالوحدة الوطنية للشعب… إلخ. وحين تخطئ معارضة ما موعدها مع هذه المبادئ تحكم على نفسها بفقدان دورها وهيبتها وقدرتها التمثيلية، ولعلها تزيد، بفساد صورتها، من تعظيم صورة النخبة الحاكمة التي تعارضها، حتى وإن خالط صورة الأخيرة شوب واشتباه!

هكذا كان يفترض في المعارضات العربية، أن تكون، في عيون شعوبها، بدائل من النخب الحاكمة، وقوى حاملة لمشروع اجتماعي- سياسي يخرج النظام السياسي من أزماته المستفحلة، ويجيب مطالب الشعب في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، ويحمي الوطن من العدوان الخارجي، ويوطد استقلاله وسيادته. ولكن معارضاتنا ما كانت كذلك، بل أخطأ أكثرها الموعد مع الدور التاريخي، فاستباحت نفسها بنفسها بما أتته من خاطئ الخيارات وجسيم الأخطاء، فتحولت إلى مجرد أجسام لا حول لها ولا قوة ولا روح فيها إلا ما ينفثه فيها من يبغي استخدامها لمصلحته: من الداخل ومن الخارج. لذلك بدت أزمات المعارضات العربية رديفاً لأزمات الأنظمة، بل هي جاوزتها في الحدة والاستفحال في أحيان كثيرة. وبدلاً من أن نركن إلى القاعدة المألوفة والمستبدهة في العالم كله، وهي أن مشروع المعارضة دواء جاهز لعلاج أزمة النظام السياسي، بتنا أمام مأزق لا قاعدة أو صفة لحله: أزمتان تتضافران على المجتمع ومصيره، وتتغذيان من بعضهما فتحتاجان إلى حل من خارجهما، بعد أن بلغتا من التعفن مبلغاً شنيعاً. ونحن لا نتزيد هنا، أو نتحامل على المعارضات حين نزعم أن أزمات المعارضات باتت أشد وطأة، اليوم، على مجتمعاتنا العربية من أزمة النظام السياسي فيها؛ فالأخير، على ما فيه من سوء، ظل، على الأقل، يرمز إلى وطن ودولة وكيان… يغامر قسم من المعارضات اليوم بمصيرها!

ما كانت أحداث ما يسمى «الربيع العربي» حقل الاختبار التاريخي الذي رسبت المعارضات العربية في امتحانه، فأفصحت عن أزمتها المأزقية؛ ذلك أن مظاهر أزمتها أطلت منذ عقود من الزمن لم تعد فيه المعارضة معارضةً، بل رديف للنظام. ومن آي ذلك أنها كانت قبيل «الربيع العربي»، ما خلا الإسلامية منها، في طور الانقراض، بعد مرحلة مديدة من الانشقاقات، ومن تآكل البنى التنظيمية وضمور القاعدة التمثيلية، والانقلابات البهلوانية في التوجهات الإيديولوجية والخيارات السياسية، وبعد استيعاب أكثرها من العصائب الأهلية (الطوائف، المذاهب، الجماعات الإثنية) بحيث لم يبق لها قيام على قوام من وطنية جامعة أو مواطنة! ولكن «الربيع العربي» أتى، مع ذلك، يطلعنا على أسوأ ما كانت تكنه من مخبوءات: على قابليات ذاتية فيها لأداء أدوار تدميرية لكيان المجتمع والدولة والوطن، تتفوق فيها على أي نظام سياسي مستبد وفاسد وتابع للأجنبي! على أنه ما أكثر الأمثلة الدالة على تلك الأدوار الفاسدة التي أدتها معارضات عربية عدة في مجرى الأحداث، وكشفت فيها عن تهافتها وقصر نظرها، وانتهازيتها الصارخة، وفقدانها أي شرعية اجتماعية وسياسية. والأدوار تلك تمتنع على العد والحصر، ولكنا نكتفي منها بالإشارة إلى اثنين منها، هما الأسوأ في سيرتها السياسية المعاصرة.

أولهما جنوح أطراف منها للعنف المسلح في مجتمعات هشة التكوين، وتقوم على توازنات حساسة، والزعم بأن خيار السلاح وحده يفتح الطريق نحو «الديمقراطية». وبغض الطرف عن صلة التجافي بين الديمقراطية والعنف، لم يكن لركوب مركب العنف والعمل المسلح سوى إسقاط الانتفاضات من أساسها، كفعل نضالي مدني وسلمي، ومصادرة نضالات المواطنين من قبل الميليشيات والجماعات المسلحة وبالتالي، إجهاضها. وهي من المآلات المأساوية التي لا تقبل التغطية عليها بأعذار سخيفة من قبيل الاضطرار لحمل السلاح، دفاعاً عن النفس من بطش الأنظمة، لأن مصير أي عمل مسلح في الداخل، إنما هو إلى الحرب الأهلية حكماً. وما الذي جرى ويجري في عدة من البلدان العربية غير هذا؟

وثانيهما ارتضاء أقسام من المعارضة كسر المحظور، والتعاون مع الأجنبي، والسعي في استقدامه للتدخل! اقتدت المعارضات العربية، في هذا المسلك، بنهج المعارضة العراقية (السابقة) المتعاونة مع المخابرات الأمريكية والبريطانية ومع الغزو الأجنبي لبلدها في العام 2003، وتفوقت عليها أحياناً (مثلاً في جهر بعضها في سوريا بالتعاون مع الكيان الصهيوني!) ولقد كانت الإساءة إلى الوطن، من أجل الظفر بالسلطة! إساءة إلى الشعب في الوقت عينه، وكانت أصدق تعبير عن النقص الفادح في وطنية من أقدموا على التعاون ذاك وتوسل سلاح الأجنبي ودعمه.

قلنا إن أزمة المعارضة هي أعلى مراحل أزمة الاجتماع السياسي العربي؛ وبيان ذلك في غاية البساطة: لا تقوم للسياسة والحياة السياسية قيامة إلّا بتوازن تضمنه للمجتمع قوة غير القوة الحاكمة: أي المعارضة. حين تنعدم هذه، أو تعجز، أو تبدو للرأي العام أسوأ من النخبة الحاكمة، فعلى الحياة السياسية السلام.

 

الاثنين 11 ابريل 2017.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …