على إثر الرجة القوية التي هزت أركان حزب “العدالة والتنمية” وعصفت بأمينه العام عبد الإله بنكيران، مباشرة بعد صدور البلاغ الملكي القاضي بإعفائه من رئاسة الحكومة، جراء إخفاقه في تشكيل أغلبيته الحكومية رغم مرور حوالي نصف سنة على تكليفه بذلك، وتعويضه برفيقه ورئيس المجلس الوطني للحزب سعد الدين العثماني، الذي أظهر سرعة فائقة في الإعلان عن طبيعة الائتلاف الحكومي، مما أدى إلى انقسامات داخلية وتبادل الاتهامات بلغت حد التخوين. تساءلت كغيري عن حقيقة ما كان يروج عن قوة الحزب التنظيمية، ومدى تماسك قواعده وهياكله، وانضباطهم للمبادئ وقرارات قيادته…
فالحزب في “طبعته” الجديدة والمنقحة باسم “العدالة والتنمية” الصادرة في عام 1998، وبعد قضائه قرابة 14 سنة بالمعارضة، استطاع ببراغماتيته ودهاء زعيمه استغلال “شراع” حركة 20 فبراير، وركوب موج “الربيع العربي” الذي حمله إلى تصدر نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة في 25 نونبر 2011، ومن ثم قيادة الحكومة رقم 30.
وهو حزب سياسي ذو مرجعية إسلامية، اختار له مؤسسوه إلى جانب التسمية رمز “المصباح”، لما يوحي به من ضياء ووضوح. ونحن هنا نتفهم أهمية الرمز في مخاطبة مشاعر الناخبين قبل عقولهم، وتيسير مأمورية التصويت بالنسبة للأميين وهم للأسف كثر ببلادنا. لكننا نعجز عن فك طلاسم وأبعاد مصطلحي “العدالة والتنمية”، ونحن نرى هزالة حصيلة الحكومة التي قادها أمينه العام على مدى خمس سنوات، لفشله في الارتقاء بمستوى الخطاب السياسي والابتعاد عن المزايدات السياسوية الخاوية، إخلاله بوعوده الانتخابية وفي تصريحه الحكومي بالبرلمان. إذ بدا عاجزا عن الاستجابة لانتظارات الشعب، ومعالجة الملفات الأكثر حساسية كالتعليم والصحة والشغل، ومحاربة الفساد والاستبداد واقتصاد الريع، وتفعيل مقتضيات الدستور الذي لم يحسن استثمار ما منحه من صلاحيات واسعة وغير مسبوقة.
ترى عن أي عدالة يتحدثون، والعالم حولنا يشهد على ما أوصلوا إليه البلاد والعباد من أزمات أخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية… وتبرير فشل تجربتهم باختلاق الأعذار الواهية من قبيل التماسيح والعفاريت والتحكم ونظرية المؤامرة؟ ألم يجهزوا على أهم المكتسبات (الإضراب والتقاعد)، وضرب القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة، ورهن مستقبل الأجيال في أيدي المؤسسات المالية؟ فالعدالة قيمة اجتماعية، تقوم على مرتكزات أساسية، يمكن إجمالها في المساواة وتكافؤ الفرص على مستوى الحصول على فرص الشغل والمحاكمة العادلة، التوزيع العادل للثروة وتوفير العيش الكريم، واحترام حقوق الإنسان في سائر المجالات.
ومؤكد أن عدم تحقيقها يعود إلى غياب سياسات عامة جادة، تحرص على الالتزام والوفاء بقواعدها. وفي هذا الصدد يعرف الفيلسوف الأمريكي جون رولز (John Rawls) العدالة بأنها تعني: “تمتع كل فرد داخل مجتمع ما بالمساواة في الحصول على نفس الفرص المتاحة للفئات المميزة”. وهي أيضا تصور إنساني، يركز على تحقيق التوازن بين أفراد المجتمع من حيث الحقوق دون أدنى تمييز… والإسلام أكثر الديانات اهتماما بالعدالة لرفضه الظلم، الذي حرمه الخالق سبحانه على نفسه، لما له من انعكاسات نفسية خطيرة على البشر. فأين نحن من العدالة في ظل انتشار الظلم والقهر والمشاكل والمآسي وهضم الحقوق؟ وبشكل عام هي عبارة عن نظام محكم، يساهم في تقليص الفوارق الاجتماعية، والقبول بفكرة تعدد المذاهب الإيديولوجية والتعايش السلمي بين الأديان، وتشجيع لغة الحوار والتفاهم بين الأفراد والأمم. وباعتمادها تعم المساواة والأمن والأمان والتسامح والاطمئنان، يسود الود والاحترام وتتراجع أقبح الصفات كالحقد والعنف والكراهية والإرهاب.
وبخصوص التنمية، فهي بإيجاز تلك الزيادة الملموسة في الإنتاج والخدمات، التي تخضع لأساليب علمية حديثة في التكنولوجيا والتنظيم والإدارة، تهدف إلى الانتقال بأوضاع المجتمع إلى ما هو أفضل، من خلال التدبير الجيد وحسن استغلال الموارد الطبيعية المتوفرة، في اتجاه تحسين الدخل الفردي وضمان تلبية حاجيات المواطن بما يتوافق واحتياجاته وإمكانياته، وتمتيعه بأجود الخدمات الاجتماعية والحقوقية… ولا يمكن تحقيقها إلا بوضع سياسات جيدة، وإعداد مشاريع تنموية حقيقية تعود بالنفع على الجميع. وهناك أصناف عدة من التنمية، منها الذاتية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والزراعية والصناعية. وفي تعريفات هيئة الأمم المتحدة سنة 1956، نجد أنها: “عمليات توجه بمقتضاها جهود المواطنين والحكومة، نحو تحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات المحلية، لمساعدتها على الاندماج في حياة الأمم والإسهام في تقدمها…”
فأي عدالة وأي تنمية، قدم حزب إخوان بنكيران لتحسين ظروف عيش المواطنين، إذا ما تأملنا جيدا ما آلت إليه الأوضاع من ترد طيلة ولايتهم السابقة؟ فالواقع كشف عن زيف ادعاءاتهم، واتضح جليا أن إيمانهم بالحقائب والمناصب أكبر من إقرار العدالة والتنمية. ثم أين نحن مثلا من الوعود بالحد من الأمية وتخفيض نسبة البطالة وخلق فرص الشغل، لاسيما أن “جيوشا” من شبابنا الحاصلين على شهادات عليا جف ريقهم وبحت حناجرهم من فرط الاحتجاج بشوارع العاصمة وأمام البرلمان؟ ولماذا مازلنا نحتل مراتب متأخرة في مؤشر التنمية البشرية العالمي؟ وكيف تدهورت نسبة الفقر من 8 ,8 % إلى 11 %، ولم يتم التخفيف عن معاناة الأسر بخفض النفقات الصحية؟ أليس من المخجل إضعاف المدرسة العمومية، مقابل تشجيع التعليم الخاص بما يضرب مبدأ تكافؤ الفرص؟
فهل سيكون بمقدور رئيس الحكومة الدكتور العثماني النجاح في ما أخفق فيه سلفه بنكيران، وإعطاء مصطلحي “العدالة والتنمية” معناهما الحقيقي، ليس فقط بالنسبة للحزب وتصحيح مساره، بل كذلك في تدشين مرحلة جديدة، يرقى فيها تدبير حكومته إلى مستوى تطلعات الجماهير الشعبية؟