ينتمي الإصلاح الديني إلى مدرسة الأفغاني ومحمد عبده أساساً، بينما يشير مصطلح النهضة إلى التيارات الليبرالية مثل الطهطاوي وخير الدين التونسي، والتيار العلمي مثل شبلي شميل وفرح أنطون.
ويقع الخطاب الإصلاحي بين الخطابين السلفي والعلماني. فالخطاب السلفي يستعمل لغة التراث وألفاظ الدين ومصطلحات الإسلام، لكنه لا يعرف ماذا يقول؟ يتكلم في العبادات والحلال والحرام والحدود والموانع والزواجر. والخطاب العلماني يعرف ماذا يقول؛ يتكلم في التحرر والنهضة والتقدم والعلم والعدالة، لكنه لا يعرف كيف يقول؛ فهو يحيل إلى الليبرالية إلى الاشتراكية أو إلى القومية وإلى الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، والتي لا تفهمها الناس. أما الخطاب الإصلاحي فيعرف كيف يقول؛ إذ يستعمل لغة الإسلام ومصطلحاته وألفاظه، ويعرف ماذا يقول، لا يتكلم إلا في المصلحة العامة، وموضوعات الفقر والقهر والبطالة والتعليم والعلاج. وفي نفس الوقت يخفف من حدة الاستقطاب بين الخطابين الأولين. وهو في الحقيقة ليس استقطاباً فكرياً فحسب بل هو صراع على السلطة في صيغة خطاب.
وينزع الخطاب الإصلاحي نحو التغيير الاجتماعي من خلال التواصل بين القديم والجديد وليس الانقطاع كما يفعل الخطاب العلماني أسوة بالنموذج الغربي في القطيعة بين التراث والحداثة. فالمسيحية قراءة روحية لليهودية. والإسلام خلاصة اجتماعية لليهودية والمسيحية، تجمع بين الشريعة اليهودية والمحبة المسيحية، وهو طريق الاجتهاد.
أما الثورة فلا تعني مجرد انقلاب عسكري كما حدث في الخمسينيات، أو حتى انتفاضة شعبية كما حدث في «الربيع العربي»، بل تعني تغيير العقول والبنيات الثقافية. فلا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير في الذهن أولاً. وقد يكون أحد أسباب الكبوات المتتالية في مشروع النهضة العربية الحديثة أنها بدأت بالأبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، دون أن تبدأ بالأبنية الذهنية الموروثة التي بقيت على حالها ولم تتغير رغم وضع أبنية ليبرالية فوقها من التنوير الغربي. فالحرية الوافدة تقوم على القدرية الموروثة. وحقوق الإنسان الوافدة تقوم على حقوق الله الموروثة، والعلم الوافد يقوم على المعجزات الموروثة.
يحتاج الإصلاح الذي تم خلال القرون الثلاثة الأخيرة إلى إصلاح جذري يكون سنداً لأي حركة تغيير اجتماعي أو ثورة سياسية. فيتحول علم الكلام القديم من نظرية في الذات والصفات والأفعال والأسماء الإلهية، إلى نظرية في تحرير الأرض، كما هو الحال في «لاهوت التحرير»، ومن نظرية في الله إلى نظرية في الإنسان، ومن محور النبوة والمعاد، أي الماضي والمستقبل، إلى محور التاريخ بداية بطرح سؤال الحاضر: في أي لحظة من التاريخ نحن نعيش؟ إصلاح أم ثورة أم نهضة أم انقلاب أم إفلاس؟ كما تتحول فكرة الفرقة الناجية الواحدة إلى الاعتراف بالتعددية الفكرية، ورد الاعتبار إلى ما اعتبر قديماً «الفِرق الهالكة»؟ كما يحول المقامات والأحوال الصوفية التي مازالت سائدة في الثقافة الشعبية، مثل الصبر والتوكل والرضا والقناعة والخوف والخشية والفناء، إلى قيم إيجابية تفيد في التغيير الاجتماعي.
لقد نشأ التراث الإسلامي القديم وما يتضمنه من علوم إنسانية في ظروف تاريخية مختلفة عن الظروف التي يمر بها العالم الإسلامي في العصور الحديثة. بل هي على الضد، من الانتصار إلى الهزيمة، ومن التقدم إلى التخلف، ومن العلم إلى التعلم، ومن الإبداع إلى النقل.. وهو ما يحتم إعادة بناء هذه العلوم بما يتفق وظروف العصر وحاجاته.
كما يتطلب الإصلاح الجذري الانتقال من نظرية في الإصلاح إلى منهج في الإصلاح حتى يصبح إصلاحاً دائماً وليس إصلاحاً وقتياً، إصلاحاً مستمراً وليس إصلاحاً متوقفاً. ومعظم اللحظات الحاسمة في تاريخ الفكر هي تغيرات في المنهج أكثر منها تغيرات في الموضوع.