في سياق ما تمر به بلادنا من ظروف صعبة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتي زادها تعقيدا التدبير السيء لحكومة ما بعد “الربيع العربي” غير المأسوف على نهاية ولايتها، جراء إقدام قائدها عبد الإله بنكيران الأمين العام لحزب “العدالة والتنمية” ذي المرجعية الإسلامية، على اتخاذ قرارات لاشعبية، تجلت في نسفه عديد المكتسبات منها التقاعد وحق الإضراب، والإجهاز على القدرة الشرائية للمواطنين، بإلغاء دعم المواد الأساسية وتحرير أسعار المحروقات، تحت يافطة “إصلاح” صندوق المقاصة، انخفاض معدل النمو وارتفاع نسبة البطالة والدين الخارجي…

     وفي إطار بلوغ مشاورات تشكيل حكومة ما بعد تشريعيات أكتوبر 2016 إلى الباب المسدود، إثر تعنته وفشله في إقناع حلفائه المفترضين بقبول شروطه في تكوين أغلبيته، وما ترتب عن ذلك من هدر للزمن السياسي وتعطيل المؤسسات حوالي نصف سنة. اضطر معها الملك محمد السادس وفق صلاحياته الدستورية، إلى التدخل لإنهاء حالة الجمود والحد من عواقبها الوخيمة، بإبعاده عن مهامه ليلة 15 مارس 2017 وتعويضه بعد يومين بالرجل الثاني بالحزب ورئيس مجلسه الوطني الدكتور سعد الدين العثماني، مطالبا إياه بإنجاز المهمة في ظرف أقصاه أسبوعين، لتدارك الزمن الضائع.

     فإنه لم يعد مقبولا السكوت عن “عربدة” الريع السياسي، في استنزاف مالية الدولة وإثارة استياء الجماهير الشعبية. إذ بعد خبو لهيب جدل دعوة البرلمانيين إلى التنازل عن تعويضاتهم غير المستحقة، بفعل عطالة مجلس النواب إبان فترة “البلوكاج” الحكومي، وفي أتون معركة توزيع الحقائب الوزارية بين أمناء أحزاب الائتلاف الحكومي ورئيس الحكومة المعين، عادت مواقع التواصل الاجتماعي لتشتعل من جديد على ترويج قائمة البرلمانيين الشباب، المستفيدين من تقاعد بقيمة 8000 درهم شهريا مدى الحياة، بعد قضائهم نزهة ممتعة في رحاب مجلس النواب لمدة خمس سنوات (2012/2016).

     فهؤلاء الشباب المستفيدون من كرم “اللائحة الوطنية للشباب”، التي ليست عدا اجتهادا تأويليا لبعض النصوص، يدعي مهندسوها حفز الشباب على دخول غمار السياسة، وضخ دماء جديدة في الهيئات السياسية، في حين أن مقتضيات الدستور تنص على تثبيت الديمقراطية التمثيلية عبر صناديق الاقتراع المباشر. لذلك اعتبرها مهتمون كثر ريعا سياسيا يفسح مجال العبور للبرلمان عبر جسر القرابة والولاء للزعماء السياسيين بدل اعتماد مقاييس الاستحقاق. مما أثار نقاشا واسعا داخل المجتمع المغربي، وأشعل فتيل التظاهرات والاحتجاجات القوية للمطالبة بإلغائها، لاسيما أنها لم تحقق ما تم الترويج له حول تشجيع الشباب على العمل السياسي، وتجديد النخب…

     صحيح أن المجلس الدستوري صادق على قانونها التنظيمي، وهي تشمل 60 مترشحة و30 مترشحا ممن عمرهم دون الأربعين، وفق المادة 23 في قراره رقم 817/2011 بتاريخ 2011/10/13، لكنه ضرب في ذات الوقت المبدأ الدستوري المتعلق بالمساواة، في الجزء المتضمن للشباب الذكور باللائحة. ويجمع أساتذة القانون الدستوري على عدم دستوريتها ولا جدواها، عكس لائحة المرأة المبررة بالتمييز الإيجابي مما يقتضي التراجع عنها، سيما أنها أضرمت صراعات حادة داخل الأحزاب السياسية وشبيباتها.

     ولعل عملية حسابية بسيطة وسريعة، تحدد كم سيكلف تقاعد هؤلاء المحظوظين إلى جانب “معاشات” باقي البرلمانيين والوزراء ميزانية الدولة من مبالغ مالية ضخمة، في زمن نحن أحوج ما نكون إلى ترشيد المال العام، خاصة في ظل ما تعرفه بلادنا من أزمة اقتصادية خانقة، وارتفاع نسبة المعطلين. علما أن الظروف السياسية والسياق العام للأحداث بالمحيطين الإقليمي والدولي خلال عام 2011، التي لعب فيها الشباب دورا مركزيا وأملت ابتداع اللائحة “السحرية”، لم تعد اليوم قائمة.

     نعم نحن مع إدماج الشباب في العمل السياسي، شريطة أن ينخرط عن طواعية وبوعي ومسؤولية، خارج الهدايا المسمومة والاسترزاق السياسي المرفوض. لأننا على يقين تام بأن شبابنا يختزن من الطاقات الخلاقة، ما يؤهله للمساهمة الفعالة في صنع القرارات والسهر على تنفيذها، ووضع الاستراتيجيات السياسية الهادفة إلى النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، والمرتبطة أساسا بما يهمه من ملفات ك: التعليم والصحة والشغل والسكن… يكفي فقط أن توفر له شروط العمل وحرية المبادرة.

     فعلى الأحزاب السياسية الراغبة في الإصلاح الحقيقي وإحداث نقلة ديمقراطية نوعية، الحرص على تحمل مسؤولياتها كاملة في الاضطلاع بدورها التأطيري وإعادة الإشعاع لمؤسساتها وهياكلها، عبر الأنشطة التربوية والثقافية والسياسية التي من شأنها استقطاب المواطنين وتأهيل الشباب لمستقبل أفضل. إرساء قواعد الديمقراطية الداخلية أسلوبا وممارسة، والارتقاء بمستوى الخطاب السياسي وتطوير أدائها، عوض إقصاء الكفاءات والتهافت على المناصب والامتيازات… حتى تتمكن من خلق أجيال جديدة، تؤمن بقدراتها وتتمتع بالاستقلالية في اتخاذ القرارات المناسبة، خدمة للصالح العام في إطار مشروع مجتمعي كفيل بتحقيق التنمية البشرية. فماذا أضافت لائحة الشباب، ونحن نسجل بقلق شديد تزايد نسبة العزوف وضعف المشاركة في الانتخابات، واستمرار هيمنة سلطة المال الحرام واستغلال الدين في إفساد العملية الانتخابية؟

     إننا لسنا بحاجة إلى الأساليب الملتوية واللوائح الريعية، بقدرما نحن محتاجون إلى إنهاء مسلسل العبث السياسي وما يفرزه من حكومات ضعيفة ومتنافرة، إعادة المصداقية للعمل السياسي النبيل، تخليق الحياة العامة، إصلاح منظومة الانتخابات والتصدي بقوة للمفسدين… فلا مجال لإنعاش الحقل السياسي ودمقرطة المجتمع وتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، دون التأسيس لثقافة سياسية سليمة، تقوم على المساواة وتكافؤ الفرص واحترام حقوق الإنسان، بدل تعميق جذور التواكل والريع بمختلف تمظهراته…

الجمعة :31 مارس 2017.

          

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…