علاقة بما بات يميز الساحة السياسية ببلادنا من غموض وضبابية، يحضرني اللحظة ما جاء في أحد الأشرطة الفكاهية، لصاحبه الفنان المغربي الساخر أحمد السنوسي الشهير ب”بزيز”، الممنوع من الظهور التلفزي والتواصل مع جمهوره لأزيد من عقدين، يحكي فيه كيف أن مواطنا مغربيا رفض يوما بشدة تسلم وثيقة إدارية من مقاطعة الحي، لا لشيء سوى أنها خلافا لما دأبت عليه من تلكؤ في عملها، أنجزت له وثيقته في وقت قياسي دون وساطة أو مماطلة.
وهو ما يكاد ينطبق على ما أصاب المغاربة من دهشة واستغراب، عندما باغتهم رئيس الحكومة المعين سعد الدين العثماني ليلة السبت 25 مارس 2017، بإعلانه عن نهاية البلوكاج وانطلاق مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح، كاشفا عن طبيعة الائتلاف الحكومي المقبل، الذي سيضم إلى جانب حزبه “العدالة والتنمية” الفائز بالمرتبة الأولى في تشريعيات أكتوبر المنصرم، وحليفه الوفي في السراء والضراء حزب “التقدم والاشتراكية”، أحزاب “التركيبة الرباعية”.
ولا يكمن وجه الغرابة فقط في كون رئيس المجلس الوطني للحزب “الإسلامي”، المعين رئيسا للحكومة يوم 17 مارس 2017 خلفا لرفيق دربه الأمين العام للحزب عبد الإله بنكيران، وافق على انضمام حزب “القوات الشعبية” الذي ظل مرفوضا من قبل البيجيديين وأنصارهم، بل استطاع كذلك أن يحقق في أقل من أسبوع ما لم يتمكن منه سلفه، الذي هدر حوالي نصف سنة من الزمن السياسي في التشاور والتنافر دون أن يتمكن من إقناع حلفائه المفترضين بالانضمام إلى تشكيلته الحكومية، والحصول على أغلبية مريحة بمجلس النواب، مما اضطر معه ملك البلاد في ظل انعدام ظهور ما يبشر بأي انفراج وشيك، إلى إعفائه من مهامه ليلة الأربعاء 15 مارس 2017، لإخراج البلاد من حالة الجمود على المستوى التشريعي والاقتصادي والاجتماعي….
ذلك أن الدكتور العثماني أعلن بسرعة البرق عن أسماء الأحزاب التي ستشكل الأغلبية الحكومية، وصرح بأن الإرادة القوية وحدها من أملت عليه وقادة الأحزاب السياسية المكونة للائتلاف الحكومي، تجاوز المثبطات التي حالت دون تكوين الأغلبية الحكومية في الشهور الماضية، وأنه ابتداء من اليوم الموالي الأحد 26 مارس، ستباشر لجنة خاصة عملها في إعداد برنامج حكومي متوافق بشأنه، وبموازاة ذلك سيشرع في هيكلة الحكومة، مؤكدا حرص الجميع على مضاعفة الجهود من أجل رفع التحديات، فتح أبواب الأمل في وجه المواطنين ومواصلة الأوراش الكبرى، بإعطاء الأولوية لإصلاح الإدارة والتعليم والصحة ومعالجة ملف التشغيل في ولايته المقبلة.
فالذي أثار حيرة المغاربة وجعلهم يغوصون في بحر من التساؤلات العميقة، هي تلك السرعة المفرطة التي استسلم بها العثماني، عند موافقته ضم حزب الوردة إلى الأغلبية الحكومية، ضدا عن موقف بنكيران الرافض بشكل قطعي وجوده ضمن أغلبيته، لدرجة أنه جدد وعيده بعدم إشركه في الحكومة، حيث قال خلال آخر تجمع حزبي له، انعقد بالوليدية صباح يوم السبت 11 مارس 2017: “إلى شفتو الحكومة تشكلات وفيها الاتحاد الاشتراكي أنا ماشي عبد الإله” واستطرد “ماشي على لكلام لي كيقول لشكر، ولكن لأن الأمر أصبح مرتبطا بكرامة شعب ومجتمع”، محملا إياه المسؤولية في تعطيل مصالح البلاد لأزيد من خمسة شهور، مقابل منصب أو اثنين. ترى ما الذي تغير عدا استبدال الأمين العام لحزب العدالة والتنمية برئيس مجلسه الوطني؟
ومن الطبيعي جدا أن يصاب المنتسبون للحزب والمتعاطفين معه بصدمة قوية وخيبة أمل كبيرة، لأنهم في غياب الشفافية لم يتبينوا الأسباب الحقيقية الكامنة خلف هذا الانقلاب المباغت في المواقف. وعلى إثر هذا الحدث الذي استفز مشاعر الكثير من المغاربة، الذين فقدوا الثقة في العمل السياسي والنخبة السياسية برمتها، فقد اعتبر عديد المحللين والخبراء، أن ما أقدم عليه أصحاب المصباح انتحار سياسي للحزب سيؤدي لا محالة في إضعافه مستقبلا، وهو أيضا اعتراف صريح وفصيح بهزيمتهم أمام خصومهم، الذين عرفوا كيف يقلبون هزيمة صناديق الاقتراع إلى انتصار، ويفرضون شروطهم بهدوء ودون تشنج أو كلام فارغ، بحصولهم على منصب رئاسة مجلس النواب، إبعاد حزب الاستقلال وقبول التحالف الرباعي بكامله (الأحرار، الدستوريون، الحركيون والاشتراكيون).
فلماذا استبعد البيجيديون خيار الخروج للمعارضة وفضلوا التفاعل الإيجابي مع البلاغ الملكي؟ أهي قناعة سياسية أم بريق المناصب والحقائب أم أهو التخوف من المواجهة، خاصة أن القرارات المجحفة والتدابير العشوائية التي أجهزت على المكتسبات وسحقت القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وكل ما نجم عنها من احتقان اجتماعي وغضب الشارع، هي من صنع زعيمهم بنكيران خلال ولايته المنتهية؟ ثم من وماذا سيعارضون؟ وهلا أفصح كبيرهم عن الحديث الذي جرى بينه ومستشاري الملك محمد السادس عند إبلاغه قرار العزل، في تلك الليلة التي ستظل موشومة في ذاكرته، لاسيما أنه أشار أمام أعضاء الأمانة العامة للحزب، بأن هناك أشياء يفضل أن ترافقه إلى قبره دون الكشف عنها؟ ألا يكون اللقاء تم خصيصا لدعوته إلى الانسحاب بهدوء من غير وجع دماغ، بعد أن أحرق كل أوراقه مع الشعب والقصر وقادة الأحزاب السياسية، من خلال إجراءاته وتصريحاته غير المحسوبة العواقب؟
عموما هناك عدة أقنعة سقطت، ولم يعد يهم المغاربة أكثر من أن تكون الحكومة المرتقبة قوية فعلا، قادرة على مواجهة التحديات الكبرى وفي مستوى تطلعات الجماهير الشعبية.
الاحد 26 مارس 2017.