وأنا أرتشف قهوتي الصباحية، خطرت ببالي جملة “الهندسة الانتهازية”، دون أن أدرك معناها الحقيقي، هل هي شعبة علمية تدرس لنساء ورجال الإعلام في المعاهد العليا للصحافة، أم في الجامعات المغربية لتكوين الأساتذة، أم هي مجرد منتوج ثقافي رديء، صنعه الذين باتوا خبراء في معرفة من أين تؤكل الكتف، ويتقدمهم اليوم بلا منازع كل من الإعلامي ومدير نشر جريدة “أخبار اليوم”: توفيق بوعشرين، والأستاذ الجامعي القيادي السابق بحزب “القوات الشعبية” الدكتور: حسن طارق؟
صحيح أن الإنسان حر في الاختيار وإبداء الرأي، كلما توفرت له شروط اتخاذ قرار أو تحديد خيار من بين كل الإمكانات المتاحة له، برغبة منه وعن طواعية، دون إغراءات مادية أو ضغوط وإكراهات خارجية. ويحق لكل واحد منا التعبير الحر عن أفكاره والانتماء لأي جهة يريد: جماعة مدنية أو حركة إسلامية أو تيار سياسي حسب ما يراه مناسبا وقريبا من فكره وميولاته، شريطة التقيد بالحد الأدنى من الموضوعية والتحلي بروح المسؤولية والقيم الأخلاقية…لكن غير الصحيح، هو عدم التزام الرجلين بالموضوعية في تدبيج الافتتاحيات وتحليل الأحداث السياسية.
فاعتبارا لمركزهما الاجتماعي واحتراما لمهنتيهما في التدريس والإعلام، كان جديرا بهما عوض تمجيد رئيس الحكومة المنتهية ولايته عبد الإله بنكيران حد تأليهه، ونذر نفسيهما للدفاع المستميت عن سياسته الفاشلة وقراراته اللاشعبية، تكريس جهودهما وأوقاتهما في اتجاه تنوير الرأي العام بكل تجرد، والسهر على ترسيخ القيم النبيلة، باعتبارها من أهم أسباب الرقي الحضاري ومقومات النهوض الحقيقي بالمجتمع. لأننا في ظل استشراء الفساد وانتشار المآسي الاجتماعية، أحوج ما نكون إلى تقويم سلوكاتنا وتخليق الحياة العامة، بدل الدفع بأبنائنا نحو الاقتداء بالنماذج السيئة.
أليس من المؤلم حقا ونحن ننشد التغيير المجدي، أن تستمر في العيش بيننا زمرة من أشباه المثقفين، الذين يتهافتون بلا أدنى خجل على المكاسب والمغانم وينبطحون أمام الإغراءات المتنوعة، ضاربين عرض الحائط بكل القيم والمبادئ؟ ألهذا الحد من الدناءة أضحت الانتهازية والأنانية أسلوبا مكشوفا في حياتهم؟ فالانتهازية بمفهومها السلبي، سلوك مذموم، يعتمده ضعاف النفوس للاستفادة من الظروف، والهرولة نحو مناصرة أولياء نعمتهم في السراء والضراء ضد خصومهم. ولا غرو أن تنعدم ضمائرهم ويضحون بكرامتهم ومواقفهم مقابل تحقيق منافع ذاتية، إذ يجتهدون في قلب الحقائق والمفاهيم بصفاقة ويحولون الكذب إلى صدق والغدر إلى وفاء والجحود إلى إخلاص والباطل إلى حق…
وكم غاظ الكثيرين من أبناء الشعب ما انتاب الرجلين من حنق شديد، إثر طي صفحة “زعيمهم”، بعد فشله في إقناع شركائه المفترضين بالانضمام إلى تشكيلته الحكومية، واضطرار ملك البلاد إلى إبعاده من مهامه ليلة الأربعاء 15 مارس 2017، لإنهاء ما وصلت إليه البلاد من فراغ قاتل. ورغم حرصه على احترام الوثيقة الدستورية، باختيار سعد الدين العثماني الرجل الثاني بحزب “العدالة والتنمية” الفائز في تشريعيات أكتوبر 2016، وتعيينه يوم الجمعة 17 مارس2017 رئيسا للحكومة خلفا لرفيق دربه، مكلفا إياه بتشكيل حكومة جديدة في أجل أقصاه 15 يوما، فقد اشتد سعارهما وظهرا “بنكيرانيين” أكثر من بنكيران نفسه، وإلا بماذا يمكن تفسير عدم استساغتهما لخروج بطلهما “الخرافي” منكسرا، وهو الذي هدر من الزمن السياسي قرابة ستة أشهر، وأضر بمصالح البلاد على المستوى التشريعي والاقتصادي والاجتماعي، فضلا عما اقترفه من أخطاء دبلوماسية قاتلة، واتخذه من قرارات قاسية أذاقت المغاربة الحنظل طوال خمسة أعوام التي قضاها على رأس الحكومة المنتهية ولايتها، من حيث: الإجهاز على المكتسبات: الحق في الإضراب وملف التقاعد، ضرب القدرة الشرائية للمواطنين، مصادرة الحريات وتكميم الأفواه، الحد من فرص الشغل واللجوء إلى التوظيف بالعقدة، خوصصة التعليم والصحة وإغراق البلاد في مستنقعات المديونية…؟
قد نتفهم تجاوزا حالة بوعشرين المرضية، المتجلية في حب المال والحصول على الامتيازات، جاعلا من جريدته الباهتة مصدرا لتصيد الفرص والارتزاق، حتى بات من أكبر الشركاء الإعلاميين لبنكيران في مخططاته الرجعية والتخريبية وأحد المتصدرين لقائمة المؤلفة جيوبهم، بحرصه الشديد على تسخير قلمه القذر وافتتاحياته المغرقة في النفاق لخدمة مشروع الحزب وتلميع صورة قائده. محاولة استبلاد المواطنين بتسويق المغالطات والهجوم على قادة الأحزاب السياسية من المعارضة، تزييف الحقائق التاريخية وتبخيس المواقف الشجاعة للزعماء السياسيين الأفذاذ، الذين غيروا وجه المغرب بتضحياتهم الجسام وساهموا في وضع اللبنات الأساسية لصرح الديمقراطية ببلادنا…
بيد أن ما لا يمكن قبوله إطلاقا، هو أن يحذو حذوه أستاذ جامعي حاصل على الدكتوراة في موضوع “مسألة اليسار”، عضو المكتب السياسي بالحزب الوطني العريق “الاتحاد الاشتراكي”: حسن طارق، المستفيد من منصب برلماني عبر اللائحة الوطنية للشباب في الولاية التشريعية الماضية، الذي تنكر بدون حياء لفضائل حزب عليه، مفضلا اللهث خلف السراب والأوهام في حقل “البيجيديين”، حيث اعتبر في آخر تدوينة له أن الفرحين بعزل مثله الأعلى بنكيران مجرد حاقدين وشامتين صغارا. يا سبحان مبدل الأحوال ! فما الذي جعل الرجل يدوس على مبادئه وقيمه، ويصطف بجوار قوى التحكم العقدي ومن تحوم حولهم شبهة اغتيال الشهيد عمر بنجلون؟ أين الإيمان بقيم الحداثة والحرية والكرامة والمساواة؟ ألهذا الحد أمست المصالح الظرفية الفانية تعمي البصائر وتعدم الضمائر؟
فالتاريخ وحده الكفيل بمحاكمة هؤلاء الانتهازيين والمنافقين، الذين يجعلون مصالحهم الآنية فوق مصالح الوطن ومستقبل أبنائه…