كثر الحديث في وسائل الإعلام العربية، وعقدت كثير من المؤتمرات خلال السنوات بل العقود الماضية، حول تجديد الخطاب الديني كوسيلة لمناهضة إرهاب الجماعات المتطرفة التي استفحل أمرها أخيراً حتى استولت على نصف العراق وسوريا وحاولت تكوين «دولة» أو «خلافة» موهومة مزعومة. وقد دخل بعض المتخصصين وكثير من غير المتخصصين على خط هذا الموضوع ليدلي بدلوه من دون تحديد معنى العبارة «تجديد الخطاب الديني»!
ولكن، ماذا يعني «تجديد»؟ وما الفرق بينه وبين «تحديث»؟ وماذا يعني الخطاب؟ وما الفرق بينه وبين القول؟ وماذا يعني الديني؟ هل هو العقائد أم الشعائر؟ وهل هو خطاب العامة أم خطاب الخاصة؟ الخطاب التداولي أم خطاب العلماء؟ وهل هو الخطاب الديني الإعلامي الأكثر تأثيراً على الناس أم الخطاب العلمي الحامل للتراث القديم وعلومه؟ هل هو الخطاب الإعلامي الذي تحول فيه الدين أحياناً إلى «بيزنس» يروج لبعض المنتجات أو بعض الاستقطابات السياسية، ينقصه صدق القائل، وتصديق المقول؟ وأحياناً يكون أقل من ذلك، مجرد منافسة بين مذهبين أو طائفتين، وكل منهما تعبير عن عصره؟ ومن كثرة تشعب الخطاب الإسلامي القديم وتعدد أهوائه وأغراضه حدث رد فعل إلى هذا الخطاب وكأنه خالٍ من الأهواء. فالخطاب الديني هو الحامل لرغبات العصر بطوائفه ومذاهبه وتعدد أغراضه، أو الاستمرار في تكرار الخطاب التحديثي الأكثر أماناً بين القديم والجديد. وقد يخشى أنصار القديم الذهاب إلى الجديد فالقديم أكثر قبولًا عند الناس.
وإذا كان الخطاب يتكون من ثلاثة مستويات: اللغة، والفكر، والشيء الذي يُشار إليه، فإن تجديد الخطاب يعني أولًا تجديد اللغة عن طريق الانتقال من جانبها الثابت إلى جانبها المتحرك، من الحقيقة إلى المجاز، ومن الظاهر إلى المؤول، من أجل تجنب الوقوع في الحرفية. وهو ما قام به الفلاسفة من قبل. وبدلًا من التفسير الحرفي للنصوص يمكن التحول إلى لحن الخطاب وفحوى الخطاب. فالخطاب ليس فقط باللفظ وحده ولكن أيضاً بالإثارة. وقد استعمل القدامى هذه اللغة في فهم النصوص. وعيب الخطاب الماضوي الحالي هو الوقوع في التفسير الحرفي للعقائد والعبادات والمعاملات. وقد يعتمد النص على الصورة الفنية في الإقناع على عكس ما حدث في عصرنا من استبعاد مدرسة التصوير الفني.
والخطاب لفظ ومعنى. ومجموعة الألفاظ هي مجموعة المعاني أي الأفكار. فالأجزاء تكوّن الكل. وبظهور الشيء الذي يشير إليه اللفظ تكتمل عناصر القياس الأربعة: الأصل، الفرع، العلة، الحكم. وتُعرف علة الفرع بالتجربة. فإذا ما تشابهت علة الأصل التي تعرف بالاستنباط، وعلة الفرع التي تعرف بالاستقراء، اكتمل القياس بتعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة، هكذا يكون تجديد الخطاب الديني.
ويكون التجديد أيضاً عن طريق التركيز على مقاصد الشريعة التي من أجلها وضعت الشريعة. وضع الشريعة ابتداء أي الأسباب الأولى التي من أجلها وضعت وهي المحافظة على الحياة ضد المرض والانتحار وحوادث الطريق.. الخ. العقل أي العلم ضد الجهل والأمية. فأول آية في القرآن الكريم (اقْرَأْ) تدعو إلى القراءة. والعرض أي الشرف والكرامة وحقوق الإنسان. والمال أي الثروة الوطنية وتنميتها. فهذه المقاصد الشرعية هي مضمون الخطاب الديني.
ويكون تجديد الخطاب الديني أيضاً عن طريق انفتاحه على العالم وليس انغلاقه بمزيد من المحرمات وما لم ينزل فيه حكم. فما لم ينزل فيه حكم بالتحريم يكون على البراءة الأصلية. وبعض تأويلات الخطاب الديني الحالي قائم على التحريم في أذهان البعض. وكأن بعض المسلمين أصبحوا مثل بني إسرائيل القدامى حين كانوا يسألون عن أشياء سكت عنها الشرع فيأتي الحكم بالتحريم! والحكم الطبيعي هو حكم بالبراءة فالأشياء في الأصل على الإباحية.
واليوم إن لم يخدم الخطاب الديني المضمون الاجتماعي والوطني، الحرية والاستقلال والوحدة والتنمية فإنه يكون خطاباً دينياً ناقصاً في المضمون أو يكون خطاباً دينياً مغترباً. ويكون تجديد الخطاب الديني في هذه الحالة بالقضاء على اغترابه. وتكون الدعوة إلى الفصل بين الدين والمجتمع إمعاناً في الاغتراب.