على مدى حوالي نصف سنة من تاريخ تكليفه بتشكيل حكومة جديدة، وبنكيران الأمين العام لحزب “العدالة والتنمية”، المتصدر لنتائج تشريعيات السابع أكتوبر من السنة المنصرمة، يعيش أسوأ لحظات عمره ضاربا أخماسا لأسداس، دون أن تنفعه أساليب المكر والخديعة في إقناع حلفائه المفترضين بالانصياع لشروطه، مما أفقده صوابه وجعله يحول لسانه إلى كرباج ضد من يخالفونه توجهاته، ويسيء إلى مؤسسة رئاسة الحكومة، التي ناضل من أجل بنائها شرفاء الوطن.
ومباشرة بعد عودة الملك محمد السادس إلى أرض الوطن من زيارته الميمونة لبعض بلدان إفريقيا، واطلاعه على ما آلت إليه مشاورات تشكيل الحكومة من عبث، وتجاوزها لأزيد من خمسة أشهر دون أن يلوح في الأفق ما يبشر بانفراج “البلوكاج”، قرر وفقا لصلاحياته الدستورية إبعاده عن رئاسة الحكومة، على أن يعوضه لاحقا بشخصية أخرى من نفس الحزب.
ذلك أنه فضلا عن عناد بنكيران الشديد، فإن مشكلته الكبرى لا تكمن فقط في إخلاله بالوعود، بل تمتد إلى افتقاده لمميزات رجل الدولة، من حيث التحلي بسعة الصدر وحسن اٌلإصغاء وكتمان الأسرار، والرصانة في معالجة القضايا، واللباقة والمرونة في التواصل والتشاور، وعجزه التام عن تدبير الاختلاف، واعتقاده الخاطئ بقدرته على التأثير الفعلي في كافة الشرائح الاجتماعية، وجرها عبر خطابه الشعبوي إلى الالتفاف حول حزبه، الذي يزعم بدون خجل ولا وجل أنه هبة من السماء، جاء لإصلاح ما أفسده “العطارون” قبله.
فلشدة غروره وعنجهيته، فقد بوصلة التمييز بين الأمور ولم يعد يدرك أنه أصبح غير مرغوب فيه، إذا ما استثنينا حليفه محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب “التقدم والاشتراكية”، الذي يتمسك به لمصلحته الذاتية ليس إلا. إذ كيف يرضى عنه من اتخذ ضدهم قرارات جائرة خلال ولايته الأولى، التي دامت خمس سنوات من التنكيل والإجهاز على المكاسب؟ ومن غيره عمق جراحهم، حين أخل بوعوده الانتخابية وأخفق في معالجة أكثر الملفات الاجتماعية حساسية، وفي مقدمتها المنظومة التعليمية والصحة والتشغيل؟ ومن سواه أقدم على إلغاء دعم صندوق المقاصة للمواد الأساسية دون التفكير في البدائل، مما ألهب الأسعار وأضر بالقدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة؟ ومن غيره هرول لإنقاذ صناديق التقاعد المنهوبة على حساب الأجراء والموظفين، أغلق قنوات الحوار الاجتماعي مع المركزيات النقابية، وقام بقمع الحريات ومنع التظاهرات والاحتجاجات السلمية، والاقتطاع غير المشروع من أجور المضربين والادعاء بأن ذلك مذكور في القرآن: “والسماء رفعها ووضع الميزان”؟ ألم تؤد سياسته إلى ارتفاع نسبة العاطلين من الخريجين وذوي الشهادات العليا بالحد من فرص الشغل، واللجوء إلى التوظيف بالعقدة وخوصصة التعليم والصحة، وضعف نسبة النمو وتراجع الاستثمار الخارجي…؟ فكل الأسئلة السالفة وغيرها كثير، هي عناوين بارزة لحصيلة حكومته المنقضية ولايتها؟ ناهيكم عما اقترفه من أخطاء دبلوماسية جسيمة، قد يكفي ارتكاب واحد منها للتطويح بصاحبه خارج دائرة السلطة في الدول العريقة، التي يحترم فيها المسؤولون مراكزهم ويزنون كلامهم.
فمن العيب على من ظل طيلة سنوات ولايته الأولى، يردد نهارا جهارا على أنه مجرد مساعد لملك البلاد ولا يملك سلطة القرار، أن يستمر في تعنته حوالي ستة شهورمتمسكا بكرسي السلطة، ويلقي باللائمة على الكاتب الأول لحزب “الاتحاد الاشتراكي” ادريس لشكر، على اعتبار أنه المسؤول عن حالة “البلوكاج”، دون أن يحز في نفسه بلوغ البلاد إلى أزمة خانقة وغير مسبوقة، على المستوى التشريعي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، جراء إخفاقه في تدبير مفاوضات تشكيل الحكومة المرتقبة. أفلا يؤلمه تأخر إقرار القانون المالي لسنة 2017 وتداعياته الوخيمة، وعدم مصادقة مجلس النواب في دورته الخريفية سوى على القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي، وعقد مكتبه اجتماعا واحدا خصص فقط لتوزيع السفريات على الفرق البرلمانة، بدعوى المشاركة في اجتماعات وملتقيات دولية؟
صحيح أن فئة من الناخبين بوأت حزبه صدارة الانتخابات البرلمانية، لكن ليس بسبب قوته التنظيمية أو حصيلة حكومته، وإنما نتيجة العزوف الانتخابي وضعف نسبة المشاركة أمام وفاء الكتلة الناخبة الموالية له، لاعتبارات دينية صرفة لم تعد خافية على أحد. ولعل أبرز دليل على هزالة حصيلة حكومته، ما عرفه حلفاؤه السابقون من تقهقر في التشريعيات الماضية. وفوق هذا وذاك، أنه لم يستطع التحرر من سلاسل الأمانة العامة والارتقاء إلى مستوى رئيس حكومة كل المغاربة. ولا يتوانى في الهجوم على خصومه السياسيين والمعارضين والصحافيين وكل من يخالفه الرأي والرؤية…
إن بنكيران الذي ما برح يلعب دور الضحية، أظهر بالملموس أنه غير جدير لا بثقة من صوتوا لفائدة حزبه ولا بثقة من عينه رئيسا للحكومة، وأعطى انطباعا سيئا عن صورة منصبه، من خلال خرجاته الاعتباطية، بدءا بقوله “بوجود دولتين في المغرب”، مرورا بتجاوز القنوات الرسمية والإعلان شخصيا عن تصدر حزبه نتائج انتخابات أكتوبر، وصولا إلى تصريحاته المستفزة حول الزيارات الملكية لبلدان إفريقيا، وقوله خلال نشاط حزبي في 11 مارس الأخير، بأنه “سيدافع عن الشعب والديمقراطية وفق تصوره، ولو كانت النتيجة أعناقنا”. فهل نحن محكومون بقانون الغاب؟ ألا يعد هذا تحريضا على الإرهاب والعنف، ويضر بصورة بلادنا؟
ولأن الملك أدرك بفضل حنكته وحكمته أن الرجل حرق كل أوراقه وأضاع خيوط الرجعة، وتبين له أنه لم يعد أهلا للمهمة المكلف بها، لاسيما في ظل ما أوصل إليه البلاد من جمود واحتقان، كان طبيعيا أن يسحب ثقته منه. فهل يستوعب خلفه الدرس؟ أم ليس في القنافذ أملس؟
الخميس 16 مارس 2017.