اغتاظ البعض من مقالاتي بالاتحاد الاشتراكي حول الوضع السياسي ببلادنا، من زاوية معضلة تشكيل الحكومة الجديدة، وشن علي حملة اقل ما يقال فيها انها بعيدة عن الحوار والنقد السياسي المطلوب.

يتحدث البعض منهم عن ضرورة التزام الحياد، في تناول الموضوع، معتبرا ان دور المثقف والمحلل السياسي هو الوقوف عند مسافة واحدة من مختلف الفاعلين السياسيين، وليس الانتصار لفريق دون آخر لما يمثله هذا من انحياز مخل بمقتضيات تدخل المثقف والمحلل السياسي وتعامله مع قضايا الخلاف والصراع بين الاحزاب السياسية وأطروحاتها المختلفة في تناول قضايا الشأن العام.

ويرى البعض الثاني، ان الكاتب متحامل على العدالة والتنمية وحاقد عليه لأنه مناهض لقضايا الشعب، خدمة لأجندات غير مرئية، تتراوح بين مؤامرات مزعومة لأحزاب سياسية بعينها، تعمل على افراغ العمليات الانتخابية من مضمونها الديمقراطي، وبين الاصطفاف الى جانب قوى الثورة المضادة المزعومة، في وجه تيارات وقوى الثورة الديمقراطية التي لا تقل عن ذلك زعما وحتى خرافة.

ويبدو لي ان اعتماد أطروحة انعدام الحياد في تلك الكتابات غير قائمة على أي أساس يعتد به، منذ نقطة الانطلاق، باعتبارها في الأصل فرضية غير اجرائية، في مجال الممارسة الاجتماعية والسياسية، لأن الحياد في قضايا المجتمع والسياسة غير ممكن، وليس له من معنى غير اللامبالاة في احسن احواله، او الاصطفاف الى جانب المستفيدين من الأوضاع المعنية. كما علمنا التحليل العلمي لكل تناول للقضايا ذات الارتباط الجوهري بقضايا مثل قضايا تدبير الشأن العام ومختلف اشكال التنافس الاجتماعي والسياسي باعتبارها قائمة على تصورات خاصة بالمصالح المادية او المعنوية لتلك القوى وليست وليدة اللامبالاة بها.

ولست أكشف سرا اذا أكدت، هنا، انني لست محايدا بمعنى اللامبالاة بخصوص قضايا الممارسة السياسية كما لست أضع نفسي ضمن خانة المستفيدين من الأوضاع القائمة، بما يعنيه من محاولات الوقوف في وجه التنمية الاجتماعية والسياسية. بل اصطف ضمن المدافعين عن الأفق الديمقراطي المؤسس على ضرورة احترام مختلف القواعد الديمقراطية عندما لا يبدو انها في صالحهم، قبل ان تكون متطابقة معها، لأن هذا هو الاختبار الفعلي لمدى الالتزام بها في المنطلق او عند النتائج على حد سواء.

غير ان عدم إمكان التزام الحياد او “صفر رأي وموقف”، من قضية من القضايا، لا يعني عدم امكان التزام الموضوعية في تناولها. وهذه هي غاية ما كتبته حول الشأن المغربي خلال الأسابيع الماضية، وبصدد المشاكل التي اثيرت حول تشكيل الحكومة وانتخاب رئاسة البرلمان. والموضوعية ليست كما لا يخفى على أي إنسان واقعي وعقلاني تعني أساسا التقيد بمعطيات الواقع عند التناول وعدم محاولة إخضاعها الى رغبات ذاتية لا تستند الى واقع ملموس يمكن التأكد منه بالنسبة لكل من انخرط في عملية توصيف الواقع وان اختلفت قراءاتهم في تكييفها. ذلك ان إنكارها لا يمت الى الموضوعية بصلة بل هو شكل من اشكال التضليل غير المسؤول في حال الوعي بذلك او في حال انتفائه معا.

اما من أغتاظ على تحاملي المزعوم على العدالة والتنمية او ان كتاباتي الاخيرة تخدم اجندات غير مرئية او مناهضة للثورة فأكتفي بالقول:

اولا، الكتابات لم تكن منصبة على تقييم الاحزاب السياسية المغربية، من حيث تموقعها، قربا او بعدا، من قضايا الشعب المغربي الاساسية، اي ليست لاصدار حكم ايديولوجي او سياسي شامل منها، وانما هي كتابات مرتبطة بظرفية سياسية محددة ومحدودة في معطياتها الموضوعية والسياسية وهي مسألة تشكيل الحكومة، واختيار رئيس للبرلمان. وعلى هذا المستوى قدمت قراءة أزعم انها لم تخرج عن دائرة المعطيات الملموسة بالنسبة لأي محلل سياسي موضوعي ولا تحركه مسبقات ومضمرات لا علاقة لها بالواقع، ولست ادري من اين استنتج المغتاظون من تلك الكتابات تحاملا على العدالة والتنمية وهي تعتبر ان تعيين امينه العام مكلفا بتشكيل الحكومة من صميم المنهجية الديمقراطية.

ثانيا، لم تخف تلك الكتابات موضوعها ومعطياتها وأهدافها، وبالتالي فإنها لم تقدم تحت أي ستار بغاية حجب تلك الأهداف. وكل محاولة اعتبارها فضحا لنوايا خفية للكاتب هو افتئات على الحقيقة ولا تستقيم امام الاختبار الموضوعي لأن الوقائع في هذا المجال تعرب عن نفسها ولا تحتاج لمن ينطق باسمها كما لو كان متخصصا في قراءة بواطن ليست في الواقع غير محض اختلاق لا سند له في الواقع.

وليس خافيا على مستوى آخر، ان محاولة استعارة مفاهيم الثورة والثورة المضادة في هذا الحالة الملموسة، هي حاولة ديماغوجية من أولها الى آخرها، خاصة عندما يحاول البعض تصوير الموقف كما لو كان صراعا بين معسكر الديمقراطية في البلاد بقيادة العدالة والتنمية، نعم بقيادة حزب العدالة والتنمية هكذا، وبين معسكر غير ديمقراطي ومن ضمنه الاتحاد الاشتراكي الذي تحول بقدرة قادر ساحر الى حزب معاد لها او ادنى بذلك بكثير.

وعلى سبيل الختم اعتقد انه كلما وقف الانسان عند خطاب، في أي مجال من المجالات، يزعم لنفسه الطهرانية المطلقة ويرى في خطاب الغير تجسيدا للدنس الشيطاني او ما شابه، فلا ينبغي التردد في اعتبار الخطاب الأول خطابا خاطئا وتدليسيا على كل المستويات، كما لا ينبغي التردد في القول في المقابل، باحتمال صواب الثاني ولو في مستوى من مستوياته.

فلأن الأول خطاب إقصائي في عمقه فهو يغلق باب الحوار باعتباره مكتفيا بذاته عن سواه من اشكال الخطاب والتصورات وهو بذلك يفرض العقم على التفكير والممارسة معا، ويحيل التحليل السياسي على النفاثات في العقد مرة اخرى كَدَأْب اسلافهم في البحث عن قراءة طلاسم ما انزل الله بها من سلطان.

 

نشرت بها يوم 15 مارس2017.

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…