اذ يكفي ان يختلف صاحب موقف سياسي او تحليل لهذا الوضع او ذاك مع اصحاب مواقف اخرى، حتى يلجأ هذا او ذاك، الى استخدام قاموس في النقد وإبداء الموقف المخالف، اقل ما يقال فيه إنه مخل بأهم قواعد التحليل والنقد السياسي سلاحا للهجوم على الرأي المخالف، وهو من صميم المماحكات اللفظية غير ذات الجدوى، في أحسن أحوالها، وهي من الندرة بمكان، ذلك انها لا تبرح في الاغلب الاعم، مستنقعات السباب والشتيمة.
وقد قدم الخطاب السياسي المعتمد في التعبير عن المواقف من تشكيل الحكومة الجديدة مثالا حيا على هذا التدهور الخطير في مستوى خطاب التواصل، كما تقدم بعض المواقف المعلنة حول سحب المغرب لقواته المسلحة من منطقة الكركرات في أقاليمنا الجنوبية، والذي تم الغمز فيه بطرق مختلفة في سياق ليس في مستوى الحدث، نموذجا آخر على هذا النمط من الخطاب الذي يبدو انه لا يتوقف عن النزول الى ادنى درجات الاسفاف احيانا.
ففي حالة الجدل حول تشكيل الحكومة، انحرف النقاش من معطيات الواقع وطبيعة الخلافات بين الاحزاب المدعوة لتشكيلها وفِي مقدمتها حزب العدالة والتنمية الذي كلّف امينه العام الاستاذ عبد الاله بنكيران بتشكيلها من قبل جلالة الملك، الى افتعال قضايا البلوكاج ومحاولة تحميل مسؤوليته لحزب الاتحاد الاشتراكي الذي جرت محاولات الزج به ووضعه ضمن دائرة كل استهداف، كما لو كان هو الحزب الذي احتل المراتب الأولى ويصر على عرقلة إنجاز رئيس الحكومة المكلف لمهمته، والحال انه ينبغي البحث عن العرقلة في مكان آخر تماما ولدى الحزب الذي يعتبر نفسه صاحب الحق الحصري في تشكيل الحكومة لمجرد ان امينه العام قد عين للقيام بالمهمة. لكن البعض تجاهل الواقع كما أطره الدستور وتغاضى عن الحياة السياسية وموازينها كما أفرزتها الانتخابات، وحاول التفرغ لبلورة لغة غريبة كليا عن مقتضيات الصراع الديمقراطي المنتظر منها.
وفِي هذا السياق تم تدبيج نثر كامل من السباب في حق الاتحاد الاشتراكي وقيادته السياسية تراوح بين اعتباره حزبا متخاذلا وانتهازيا ومنبطحا بل وإداريا- يا عجبا- كما لو ان اصحاب هذا الكلام يحتكرون دور توزيع التصنيفات القائمة على الشتائم التي تحولت لديهم الى رؤية سياسية في حين انها ترادف العمى السياسي حقيقة ومجازا.
ان توجيه النقد الى اي حزب سياسي امر طبيعي، وعادي في كل حياة سياسية ديمقراطية او تنشد تحولها الى الديمقراطية، غير ان هذا النقد مشروط بان يكون سياسيا قبل ان يكون موضوعيا او مبتعدا عنها، لأن القاموس المعتمد من قبل أصحابنا دون ما هو سياسي بل ان الدفع به الى حدوده القصوى يلغي السياسة فكرا وممارسة.
وفِي الحقيقة، فان حملة هؤلاء على الاتحاد الاشتراكي لها تاريخ وما انزلاقها الى هاوية السباب الا مرحلة متطورة منها بعد فشلها في مراحلها السابقة. لكن ما العمل، والحال، ان السباب هو حجة من لا حجة له أصلا؟.
اما بالنسبة للمستوى الثاني، فإن منطق السباب إياه هو الذي يحظى بقصب السبق لدى هذا النفر من المتحذلقين الذين يوجهون سهام الغمز واللمز الى كل من يخالفهم التقدير حينا، ويخالفهم الموقف العميق احيانا كثيرة تجاه قضايا الوطن الكبرى، وفِي مقدمتها قضية الصحراء والموقف من القوى التي تغذي الصراع الاقليمي المفتعل حولها وخاصة القيادة الجزائرية ووكيلتها جبهة البوليساريو.
فعلى هذا المستوى تبرز على السطح عبارات من قبيل التطبيل للموقف الرسمي والدوران في فلك “النظام المخزني” ومحاولة فرض تأويل مغرض على نمط ان مجرد انسحاب الجيش المغربي من منطقة الكركرات هو تعبير عن هزيمة المغرب وانكساره الى آخر المعزوفة المعروفة لدى نمط من التفكير السياسي الذي لا يرى في قضايا الوطن ما ينبغي الدفاع عنه او التضحية من اجله.
وهكذا، فبدل ان ينظروا الى موقف المساندة لقرارات الدولة السيادية والتكتيكية باعتباره مساهمة في الجهد الوطني في تفنيد اطروحات الخصوم والاعداء، وقطع الطريق امام استفادتهم من هذه الحالة او الازمة او تلك يختزلون المسألة كما لو ان المشكلة تكمن في التماهي او عدم التماهي مع الموقف المغربي الرسمي
فهل يخفى على مثل هؤلاء ان النقد السوي هو الذي ينصب على مناقشة حجج وأطروحات الخصوم والاعداء لكشف تهافتها السياسي وعدم مصداقيتها في الدفاع عن القضايا الوطنية؟ وهل يخفى عليهم ان اُسلوب التعامل المنهجي في سلبيته وتشكيكه في الموقف الوطني المغربي هو بمثابة دعم مباشر او غير مباشر لأطروحات الأعداء؟
الحقيقة ان هذا ليس خافيا على احد وانما كثيرا ما يتم اعتماد هذا النهج في عملية تمويهية مكشوفة للدفاع عن مواقف مناهضة لقضايا الوطن الجوهرية. وهو ما يكمن وراء كل التهم التي تكال الى القوى الوطنية الديمقراطية في هذا المجال، تحت عنوان التطبيل لمواقف الحكم والقصر، في حين ان الواقع يدل على ان من يطبل لمواقف الأعداء هو الذي يرى الطبول في كل مكان، ويتناسى ان كل ما يتناهى الى سمعه من أصوات الطبول هو مجرد رجع صدى لتطبيله الذي لا يتوقف أبدا لمواقف خصوم الوطن وخصوم الديمقراطية على حد سواء.