لا جدال في أن العالم في تغير مستمر، وأن الفكر السياسي والعسكري يعرف تحولات كبرى، كما أن هناك قوى عظمى تمكنت من مراكمة تجارب ومعارف عبر الحروب التي خاضتها والدراسات والبحوث العلمية العميقة التي أنجزتها حول ما يجري في العالم، فتمكنت منذ عقود عديدة من تجهيز نفسها بأدوات وأساليب صنع الأحداث في مختلف أقطار المعمور بصرف النظر عن موقعها الجغرافي. ويعود ذلك إلى أن هذه القوى تعتقد أن من حقها أن تلعب هذا الدور في مناطق مصالحها الحيوية والإستراتيجية. لذلك اهتمت هذه القوى طيلة العقود الأخيرة بالتفكير في حروب المستقبل بهدف إعادة صياغتها، بما يضمن لها استمرار نفوذها في العالم.
ونظرا لكون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تدخل ضمن المناطق الإقليمية التي تشكل ميدانا لتجارب حروب المستقبل في صيغها وأشكالها الجديدة، فإن هذا يقتضي منا التفكير بعمق، وبطريقة أكاديمية رصينة، في انعكاسات الصراعات المقبلة علينا، على غرار ما تفعل مؤسسات البحث ومعاهده في البلدان المتقدمة.
لقد انشغلت معاهد البحث في الغرب حتى منتصف لتسعينيات بمناقشة حرب المستقبل. و يكاد يجمع المشاركون في تلك المناقشات والبحوث على أن حرب المستقبل سوف تأخذ شكلا متغيرا جوهريا عن الحروب السابقة والراهنة. وقد رافقت تلك المناقشات دراسات عسكرية وإستراتيجية أفضت إلى ظهور مدرستين:
إحداهما تقول:”إن حرب الفضاء قادمة”، ويتحدث أصحاب هذا الاتجاه عن استخدام التكنولوجيا المتقدمة، وعن أن تلك الحرب سوف تكون قصيرة المدى زمنيا، وستقاتل فيها التكنولوجيا ضد تكنولوجيا مضادة.
أما المدرسة الثانية، فقد نسب إليها مفهوم “حرب الجيل الرابع”، وترى أن النزاع في الحروب القادمة سوف لن يكون قصيرا زمنيا، بل سيستغرق وقتا طويلا. لكن هذا لم يمنع المختصين من النظر إلى هاتين المدرستين باعتبارهما متكاملتين، تكمل إحداهما الأخرى، خاصة بعد أن استقر في ذهن الإستراتيجيين العسكريين والمفكرين السياسيين أن الحروب الحالية قد أخذت ميدانياً بالفعل شكلَ حرب الجيل الرابع.
تقوم حرب الجيل الرابع على استخدام شبكة تنظيمية صلبة داخل المجتمع المستهدف، لإدارة معركتها وتحقيق أهدافها داخله. وتتسم هذه الحرب بكونها لا تسعى إلى الانتصار على الخصم بالمواجهة المباشرة. وبذلك، فهي تختلف عن حروب الأجيال الثلاثة السابقة عليها في كونها لا تسعى إلى الانتصار عن طريق إلحاق هزيمة بالقوة العسكرية للبلد المستهدف، ولكنها تهاجمه مباشرة عن طريق الشبكة التنظيمية المحلية التابعة للقوى العظمى في المجتمع المستهدف ، حيث تروم إلحاق الهزيمة بعقل صانع القرار في هذا الأخير لإضعاف إرادته السياسية، كما تستهدف عقل المواطن بغية القضاء المبرم على ثقته في مسؤولي بلده، وفي نفسه، ما يصيبه بالإحباط التام.
ويقدر المختصون أن هذه الحرب قد تستمر لأجيال، وأن وسائل مهاجمة العقول فيها سوف تكون متعددة، حيث سيتم توظيف مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، كـ «الفايسبوك» و«تويتر»، لنشر معلومات مصنوعة علمياً ومخابراتياً بدقة عالية. و تقوم هذه المعلومات في جزء منها على معطيات صحيحة، يتم استعمالها لتغذية ما هو ملفق وزائف، حيث يتم استغلال ظروف معينة داخل المجتمع المستهدف لتسهيل تقبلها من لدن العقل المستهدف وتسليمه بها. إضافة إلى ذلك، تُمارس في هذا النوع من الحروب ضغوط مباشرة، وأخرى سياسية ودبلوماسية واقتصادية و اجتماعية و نفسية.
هكذا، تدخل صورة حرب المستقبل في سياق التغييرات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والتكنولوجية التي عرفها العالم وغيرت شكل العلاقات داخله، وأدت إلى صعود قوى إقليمية كانت عبادة عن دول هامشية في العالم، فأصبحت تمتلك القدرة على التأثير في ذاتها عبر تغييرها، كما صارت قادرة على الفعل في العالم من حولها، و اكتسبت القدرة على التعامل بندية مع بعض الدول الكبرى.
لقد تمكنت هذه القوى الإقليمية من التطور سياسيا واقتصاديا وعسكريا، خصوصا في مجال الحروب التي لم تعد توظف فيها الأساليب التقليدية، وذلك بسبب رفض الرأي العام الداخلي المشاركة في قتال خارجي تسقط فيه أعداد كبيرة من أبناء الوطن، من جهة، وبسبب الكلفة الاقتصادية والمالية العالية للحروب التقليدية من جهة ثانية.
لا تكمن خطورة هذه التغييرات بالنسبة للدول المستهدفة في طريقة إدارة هذه الحروب وطبيعتها والإمكانيات الحديثة والطاقات الهائلة التي تُحشَدُ لها، وإنما تكمن في تمسك دول كثيرة بالمفاهيم التقليدية للأمن القومي والعلاقات الدولية التي عرفت تغيرا عميقا لدى الدول العظمى.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا أمر لن يكون صعب المنال إذا توفرت الإرادة السياسية لتنظيم مناقشات وإنجاز دراسات وبحوث أكاديمية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية، واقتصادية، تشارك فيها عقول البلد المستنيرة والمتفتحة،حيث ستعالج هذه المناقشات قضايا وموضوعات أساسية، في إطار منظم يقسم إلى محاور ونقط فرعية، ويغطي التحولات والتغييرات التي يعرفها العالم، فيفضي ذلك إلى استخلاص كيف يمكن للدولة أن تتجنب المخاطر التي تتهددها جراء حرب المستقبل التي تستهدفها، والتي تدخل فيها أطراف كثيرة، وتستعمل فيها وسائل وأساليب متنوعة وتوظف فيها طرق وأساليب ووسائل عديدة في مختلف المجالات، منها ما هو ظاهر وصريح، وما هو خفي وغير منظور، حيث ستتم مناقشة التغييرات التي طرأت على قضايا الأمن القومي والعلاقات الدولية، وما تقتضيه من تغيير في رؤية البلدان المستهدفة، بما يمكنها من درء المخاطر التي تتهددها.
ينبغي الانطلاق على هذا النحو لتطوير إستراتيجية فعلية للأمن القومي، و ملائمة لتطورات عالم اليوم وتحولاته المستمرة….